” السلفية الجهادوية “…
مأزق تقنين القتل باحتكار العقيدة!!
———————————————————————-
يستهلك باحثو الإسلام السياسوي والإعلاميون بإفراط عمدا أو من دون احتراز اصطلاح ما ذاع باسم ” السلفية الجهادية “؛ بعيدا عن التوقف برهة للتفكر في مدى صواب هذا الاصطلاح، وحجم انفصاله عن سياق الفهم الصائب للعقيدة وطبيعتها، ومدى تأثير الفهوم الفقهوية البشرية على استصناع ” الصورة الذهنية ” المغلوطة حين صياغة العقيدة للهوية من المنظور السياسوي.
ويقع هؤلاء من دون إعمال العقل في المسمى والظاهرة أسرى خلل التناقض الظاهري؛ إذ على الرغم من انتقادهم لفعل ما تسمى ” السلفية الجهادوية ” يبدو أنهم مقتنعون باصطلاح تسميتها، على الرغم من أن خطابهم الفكروي والإعلاموي يُندد بالمعنى الذي يقصده ذلك الاصطلاح، توصيفاً وتحليلاً ونقداً.
إن اصطلاح ” السلفية الجهادوية ” المرتهن للارتباط بالفهم الماضوي للإسلام التاريخاني؛ هو اصطلاح مستحدث يجري ترسيخ تواجده المتوهم، في مناخ تحويل ما يسمى الإسلام السياسوي إلى رقم له وزن الكتلة التي يجرى إدراجها في إطار ” ظاهرة التعولم “؛ والمرتبطة بالتحول الهيكلي للاقتصاد الرأسمالوي العولمي الطامح إلى الهيمنة على الإقليم في سياق ” سيناريو الشرق الأوسط الجديد “، والمشتغل على تفتيت ” نظام الدولة الوطنية الجامعة ” لإلحاقها في سياق إعادة استيلاد الدول الهوياتية عرقيا ومذهبيا.
مفهوم مغاير للسلف الصالح
————————
إلى ماذا يشير اصطلاح “السلفية الجهادوية”؟، وهل ينبغي أن يفرط أصحاب الوعي والإدراك في استخدامه، وترداده بإفراط حتى رسخ هذا المسمى رسوخاً جعل منه أحد ثوابت ومفردات الخطاب التوصيف لعمليات القتل والتفجير والتدمير اللامحدودة، التي تقوم بها جماعات عقدية متسيسة، أو أفراد منتسبون إليها بما يستصنع بفعلهم ذلك صورة مغايرة للمعنى الصحيح لاصطلاح “السلف”.
إن جماعات ما يُسمى “السلفية الجهادوية”، تتمسك وتفتخر بالتسمية، حرصاً منها على تثبيت التصاقها بـخيرية “السلف الصالح”، ممن أعقبوا تاريخياً جيل الصحابة المكرمين، ويحتمون بظل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي رواه البخاري ومسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ”.
والخيرية في هذا التحديد تتمثل في أن رجال القرون الثلاثة الأولى من عهد الدولة الإسلاموية الأولى أسبغت عليهم الروايات صفات الورع؛ والزهد وتغلغل العقيدة في نفوسهم، فخرجوا فاتحين رافعين كلمة الله لنشر دينه، خاتم الرسالات إلى البشر.
ما فعله الفقهاء
————-
ومع الحركية الإيمانية في الفعل لنشر العقيدة، وإقامة دولة الإسلام والإيمان، بكل أخلاقياتها السماوية، كانت هناك ثوابت التقوى وفهم العقيدة الفهم الصحيح، الذي ألقاه النص القرآني على القلوب أو العقول، بعيداً عما أحاط به من نصوص حافة مغلقة، من إنتاج عقول ما تم التعارف عليه بمسمى “العُلماء” أو “الفقهاء”، الذين وضعوا نصوصاً تُعبِّرُ عن فهمهم الخاص بزمنهم للنص، وهو الفهم المحكوم بمعارف عصرهم المحدودة، والمتداولة من خلال اصطلاح “العنعنات” عن”المرويات”، وكلها نصوص في الحقيقة كَبَّلت تأثيرات النص المقدس المباشرة، وما يحتويه من القيم الإيمانية المتفقة مع فطرة الخلق، والتي تَقرُّ في العقول المكني عنها قرآنياً باصطلاح “القلوب”.
لقد احتكرت الجماعات الموصوفة بـ “السلفية الجهادوية” الفهم القرآني، لتفرض تأويلاً خاصاً من منظورها، لعماد هذا الدين السمح وهو القرآن، وتنتقل من ثابت الدعوة بالموعظة الحسنة، إلى متحرك العنف الدموي، الخارج عن روح وجوهر العقيدة، والتي انتشرت منذ قرون عديدة ولم تعد الآن تواجه الغربة والعزلة والحصار والمقاومة، كما كان الأمر وقت نزول رسالة السماء على قلب الرسول الأكرم، بدعوته الناس إلى التوحيد والإيمان بالله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً”.
مزاوجة الإيمان بالجهاد
——————-
لقد زاوجت هذه الجماعات العنفوية في اشتراط تعسفي بين الإيمان وما وصفته الجهاد، عبر التأويل الخاص الذي يتجاهل متغيرات الزمان وموازين القوى، وثوابت وحقائق امتداد العقيدة الهائل من دون العنف الراهن والبشع في نتائجه، إذ وصل عدد المسلمين في العالم الآن إلى 2.5 ملـيار مسلم.
والتوقعات الإحصائية تشير حسب دراسة أميركية أجراها مركز “بيو” للأبحاث إلى تساوي عدد المسلمين في العالم بعدد المسيحيين بحلول عام 2050، بمراعاة معدل الخصوبة، وعدد السكان الشباب وعنصر الهجرة. وسوف يتزايد انتشار الإسلام بمعدل ارتفاع من 23% العام 2010 م إلى 29% سنة 2050. وتتوقع تلك الدراسة انتشار الدين الإسلامي خلال الـ 40 سنة المقبلة بفضل كثافة عدد الشباب المسلمين، وارتفاع معدل الخصوبة لديهم، ليصل إلى 75%، وهو ما يمكن أن يجعل الديانة الإسلامية الأولى في العالم وفق حسابات الدراسة من سنة 2070.
التقسيم الحاد إلى مسلم وكافر
—————————
لقد وقعت هذه الجماعات في خلل التقسيم الحاد للناس إلى مسلم وكافر، وأعطت لنفسها الحق، بتحويل الخلق جميعهم إلى مسلمين، متناسين قول الله جلَّ وعلا في القرآن الكريم: “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، “وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ” (يونس: 99)، و” لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ “، تأكيداً على أن اختيار الدين هو فعل اختياري، وليس عملاً جبرياً، بما يتفق مع غاية الله من منح الإنسان عقلاً، به يفكر، وبه يقرر، وعليه وزر الاختيار غير الصائب، مقابل تمتعه بحرية الاختيار.
إن هذه المسلكية القاسية، التي تتبعها ما تسمى جماعات “السلفية الجهادوية”، تساهم بالتنفير من اتباع الدين الحق في مساحة أرض الله الواسعة، وتعمق صورة ذهنية رديئة للإسلام، فهو دين الرحمة والتسامح، الدين الذي تتجلى قوته في رحمته، ودعوته لإقامة مجتمع العدل والحق، والتواد والتراحم والدعوة إلى الله بالتي هي أحسن، أي الدعوة إلى دين الله بالحكمة، والموعظة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن، وتقديم المسلك الصالح، وليس بارتداء الأحزمة الملغمة والسيارات المفخخة.
حماية النفس مقصد الشريعة
—————————
إن الدين الحق يخسر كثيراً نتيجة تقديمه بهذه الصورة المرعبة، التي تتناسى أن من قتل نفساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ، أي بغير حق، فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا… لأن الحفاظ على النفس ورعايتها من مقاصد الشريعة المحكومة بميزان المصالح والمفاسد في العمل، لذلك ينبغي أن تتوقف تلك الجماعات الدموية عن القتل المتعدد الأنماط، حتى لا تضر الشريعة بمسلكياتها.
وعلى الباحثين أن يستولدوا توصيفا صائبا لها، ولا يضللوا الناس بنسبتها إلى السلف الصالح، ولا يخدعوا الجمهور بترسيخ المسمى المُضلل، لأن هؤلاء العنفويين الذين يرفعون رايات السلفية الجهادوية لا يَمتُّون إلى السلف الصالح بصلة.
“رأفت السويركي”