الجمعة، 30 يوليو 2021

 في ذكرى ثورة يوليو/ تموز1952م
يطل "وجه ناصر"...
لكن "العميان لا يرون النور"!!
-----------------------------------------

حقاً وصدقاً... هذا هو "يوم النور" الذي أطلت شمسه في الفضاء المصري منذ 69 عاماً ؛ وأقول "النور السياسوي" تحديداً حتى لا "يَتَمَعَّرَ" وجه البعض اصفراراً أو احمراراً أو اسوداداً وهو يقرأ هذه التدوينة؛ ويظن حول معناها الظنون لمرض في قلبه؛ وما أكثر أمراض القلوب السياسوية في الوقت الراهن؛ زمن الفضاءات الافتراضوية المفتوحة؛ حيث لا ضابط لضجيج القطعان وضوضاء الزفاف الشعبوية وأناشيد جُلَّاس مقاهي النظرية الإيديولوجوية؛ وسويقة المتنشطين الدولاريين . 


*****



هذا هو الثالث والعشرون من يوليو/تموز؛ اليوم الذي جعل لمصر الحديثة في العام 1952 م من القرن المنصرم وزنها الإقليموي والعالموي كمعيار؛ مع بدء مرحلة ما تُسمى "التحرر الوطنوي" من الاستعمار القديم المتهالك؛ ليبدأ زمان "ثورات الفقراء" في قارات أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.


في ذلك اليوم المشهود الذي أصفه بـ "يوم النور السياسوي" ثقة في كل فعالياته التي حدثت ولا تزال تحدث؛ ظلل الله برعايته "ثُلَّةً" من أبناء الشعب المصري الذين يحملون كضباط في الجيش المصري الشريف هموم الأمة؛ ليقوموا - بما تأخر كثيراً- بفعل تغيير الواقع المتردي واسترداد صورة مصر المخبوءة لقرون تحت كرابيج القهر من الإقطاعيين لمصر الفلاحين؛ وفي غرف نوم القصور على أسرَّة المحظيات وملك اليمين؛ وفي اقتصادات الريع والاحتكار. ومئات ألوف الشغيلة بالقهر والإجبار لشق قناة السويس بالسخرة.


في الثالث والعشرين من يوليو/ تموز 1952 م كان الموعد مع التاريخ؛ لتنقلب خريطة المنطقة كلها "من الماء إلى الماء"؛ أي من الخليج العربي شرقاً إلى المحيط الأطلسي غرباً؛ ومن البحر المتوسط شمالاً إلى رأس الرجاء الصالح وضفتي المحيط الهندي والأطلسي الجنوبي جنوباً... حيث يبدأ "عصر التحرر الوطني والحياد الإيجابي".


*****


في الثالث والعشرين من يوليو /تموز 1952م؛ أنقلبت معايير الحكم من ملكية فاسدة مهترئة وأحزاب منخورة بسوس سياسة التباهي والمقامرة إلا اللمم؛ ليعاد تنظيم البناء من جديد؛ في دولة وطنوية/قوموية تحاول أن تكون الدولة/ النموذج لكل الأشقاء والأصدقاء في العالم بجهد مؤسستها العسكريتارية المسؤولة أمام الله والتاريخ عن مصر وأمنها وأمانها.


في الثالث والعشرين من يوليو /تموز 1952م؛ صار لمصر طعم آخر وصورة جديدة؛ لدولة تبتني وتستزرع وتستصنع؛ وتتحدى كل القوى التي تتربص بها وتحاول الاستفادة من ثُغرات الواقع والتجربة والخطأ منهاجاً بديلاً؛ لمجتمع رأسمالوي قديم لا تتوفر به مواصفات وقوى هذا النظام؛ أو مجتمع متمركس شيوعوي بحكم أن مصر في قلبها الأزهر الشريف؛ فلم يكن إلا ماكان مع خوض كافة التحديات والتجارب.


في الثالث والعشرين من يوليو /تموز 1952م؛ كان بدء "مشروع النور" بمجانية التعليم الإلزامي من الابتدائي إلى الجامعي وما بعد الجامعي؛ وبرامج الاستصناع والاستزراع المختلفة... تختلف أو تتفق مع النتائج والمتحقق؛ لكن عليك الاعتراف بحجم وأهمية ما حدث؛ وإلاَّ كنت من العميان الذين لا يبصرون؛ وليست لهم قلوب لا يفقهون بها معنى "النور"!!


******


في الثالث والعشرين من يوليو /تموز 1952م؛ بدأت التجربة وتطورت وانتجت تحولات بنيوية في عمق المجتمعين المصري والعربي والأفريقي فكان جمال عبد الناصر أيقونة الوطنية والحرية والتنمية والتي صارت تمثل رمزاً يعرف قيمته المناضلون في كل أرجاء الدنيا.


 في الثالث والعشرين من يوليو /تموز كل عام؛ تشرق في نفوسنا شمس نعرف وجهها الصبوح، تأتي إلينا بالإشارة والبشارة على الرغم مما يحيط بنا من اسوداد وانهيارات وضلالات؛ فنحن الجيل الذي عاش، وسمع، وأدرك معنى مقولة: " ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد"٠


يأتي إلينا وجه جمال عبد الناصر من عمق هذا التاريخ، ليذكرنا بالعزة والكرامة من جديد، أيام كنا أبناء الثورة، وجيل نتاج فعلها، ومحيطها البشري الذي تعلم في مدارسها؛ وارتدى نسيج قطن مزراعها "طويل التيلة" الذي نسجته مصانعها، وركب سيارات وأتوبيسات انتجتها ماكينات وأيدي وسواعد عمالها الأشراف، واستخدمت الأمهات المصريات الثلاجات والغسالات انتاج "المصانع المصرية"،... إلخ


*****


وهذا ما لا يدرك معناه الكثيرون من "ببغاوات" هذا الزمان؛ كباراً وصغاراً، والذين يشكلون قطعاناً إلكترونية ضاعت في الغيبوبة؛ فتفرغت لتمارس الزعيق الأجوف؛ وتكشف تغافل وعيها عن وجوبية تلك الضرورات الباترة لحكم ملكي فاسد قلباً وقالباً، كان يعيش في كنف الاحتلال البريطاني؛ وكان يتلاعب فيما يظن أنها حياة سياسوية تقليدية بأحزاب إقطاعية ونخبوية انتهازية عميقة؛ لم تغير من واقع الفقراء شيئا!


والمؤسف أن هناك من النخب المصرية المزيفة والمضللة ابنة مرحلة ثورة النور وما تلاها من مراحل صارت مصابة في وعيها بالتسرطن السياسوي؛ فأخذت تنحاز إلى متوهمها في مربع التضاد مع هذه الثورة وناصر رمزها الكبير.



والمؤسف أن هذه النخب ومنها المهندسون والأطباء والمدراء والمحاسبون والمحامون والإعلامويون غير المضارين من تلك الثورة؛ لأنهم لم يكونوا من أبناء الإقطاع أو رأس المال القديم؛ حيث استفادوا من مشروع هذه الثورة التي وضعتهم في المربع النخبوي والتي لولا هذه الثورة لكانت هذه النخب البلهاء لا تزال تعدو أجيرة بالتبعية في حقول الأقطاعيين؛ وتتعمق في أقدامهم كآبائهم وأمهاتم "الشقوق" التي تختبى بداخلها ثعابين الأرض والضفادع والصراصير؛ أو كانت من هوامش العمالة المستأجرة بوجبة طعامها في أحد مصانع النسيج.


لذلك فإن أفراد تلك القطعان الالكترونية راهناً من المتأخونين المضللين أتباع حسن الساعاتي البناء الماسوني؛ والمتأدلجين أتباع ماضوية النظرية؛ والمتنشطين في "سويقة" المتاجرة ببيع متوهم الديموقراطية بالدولار؛ كلهم عادوا لاجترار وصف حدث ثورة ذلك الزمان بالانقلاب؛ ورجال ذلك العهد بالعسكر... ومنهم من لا يزال يواصل انتاج ذلك الخطاب الأعمى المتداعي ذاته بتعميق الصورة الذهنية السلبية، وإعادة اجترار المقولات القديمة عينها، حول ما يحدث راهناً برعاية المؤسسة الوطنية العسكرية المصرية الشريفة من جهود إعادة البناء وإنقاذ مصر من سيناريوهات الربيع العبروي المتصهين؛ باستدعاء اصطلاح الانقلاب والعسكر من جديد؛ لأن ثورة يونيو/حزيران الجديدة هي الإبنة الشرعية لثورة يوليو/تموز المجيدة؛ وهي التي التفت حولها الملايين بعد أدركت كارثة تمكن الجماعة الماسون البنائية من المصير الوطنوي!!


*****



إن هؤلاء الذين جعلوا من أنفسهم خصوماً لتاريخ شعب ووطن وأمة يوليو/تموز1952م... ترى إلى الشخص منهم منزلقاً في كلمات خرقاء؛ حين ينظر إلى تجربة "ثورة يوليو1952" نظرة الجاهل، من دون أن يتأمل ولو لبرهة... أن قدرته تلك على ممارسة القول ما كانت ستتوفر له يوماً في غياب ما أتاحته تلك الثورة له من مجانية التعليم المطلقة للجميع، ولظل على حاله وأسرته من عموم الحفاة العراة في الريف البئيس؛ ويعمل وأبوه وأخوه وأمه وأخته في أرض وحقول الباشاوات والاقطاعيين. ولو لم يستمتع بالتغيرات الهيكلية التي أحدثها فعل ناصر في المجتمع المصري لظل منسحقاً في درجة السلم الاجتماعي الهامشي.


"مجانية التعليم" التي أحدثتها "ثورة يوليو" هي التي اتخمت مصر بأساتذة جامعات؛ وأطباء ومهندسين وصحافيين؛ وخبراء في كل الحقول المعرفية والتخصصية، أحدثوا بعد "اتفاقية السادات" نُقلات في دول الهجرة المؤقتة بالخليج، غير أن الفريق الناقم على "ثورة يوليو" والدولة الراهنة؛ هو من الذين لا يبصرون كل ذلك، لأن الغرض المتمكن منهم مرض.


*****



ليس معنى هذا القول تقديس "التجربة الناصرية"، وعدم دراستها موضوعياً بظروف عصرها، وتحديات تلك المرحلة، وما فرضته من قرارات وإجراءات؛ ولكن ينبغي ألا ننظر إليها بحقد سياسوي أعمى. يهدي الله هؤلاء الى الحق... لأن الملايين التي خرجت لوداع جسد ناصر شكلت أكبر وداع عزاء في التاريخ؛ حيث حفر ناصر مكانه الخالد في القلوب ولا يزال إلى الآن مذكوراً بالخير من الملايين وكثير منهم لم يروه.


وإذا أحب أحد الناقمين على ناصر أن أذكره بجذوره الاجتماعوية؛ فليقل لي من هو؛ ومن هو على الأقل أبوه؛ ومن أين خرج؟ ومن دون شك ستكتشف أنه من جموع المستفيدين من تعميم وتوسيع مجانية التعليم الأساس والجامعي التي أتاحتها "ثورة يوليو" لتذهب بها إلى القرى والنجوع والمحافظات ليستفيد بها الشعب المصري. 


*****


وحين يرد ذكر "ثورة يوليو"، التي لا تغيب عن وجداننا وأذهاننا... يهل دوماً وجه "جمال عبد الناصر"، الذي كتبت حزناً على وفاته قصيدة طويلة؛ ألقيتها حين كنت شاباً عشريني العمر في "مهرجان تأبينه" الذي أقيم بدار الأدباء في القاهرة العام 1970م؛ وشاركت فيه نخبة من أكبر شعراء الأمة العربية على مدى يومين تكتب ملحمة الحب والوداع لناصر.


ومن أبيات قصيدتي التي أختارها في هذه المناسبة؛ أقول في رثاء ناصر الحبيب:


كُنْتَ صُبْحَاً مُبَارَكَاً، بَعْثُهُ لَمْ
يَشْهَد الشَّرْقُ مِثْلَهُ فَعًّالا

عَرِفَتْكَ الشُّعُوبُ فَجْرَاً تَجَلّى،
وَجَسُوْرَاً، وَمُبْدِعَاً صَوًّالا

فَحَمدَنَا الْإِلَهَ خَيْرَ ثَنَاءٍ،
وَشَكَرْنَاهُ، أَنْ حَبَانَا جَمَالا

وَاتَّبَعْنَاكَ، قَائِدَاً خَالِدَاً، لا
يَنْثَنِي للصِّعَابِ، فَذَّاً مِثَالا

وَافْتَقَدْنَاكَ مُهْجَةً، وَفُؤَادَا
وَسِرَاجَا،ً ومِشْعَلاً، وَهِلالا

وَمَشَيْنَا، شِعَارُنَا بِالدِّمَا والرُّوْحِ،
لابُدَّ أَنْ نَسِيرَ عِجَالا

وَحَلفْنَا، نُحَقِقَ النَّصْرَ حَتْمَاً،
وَحَلفْنَا، نُحَطِّمَ الْأغْلالا

أَنْتَ حَيٌّ مُخَلَّدٌ، وَكِفَاحٌ،
كُلَّمَا أنْكَرُوهُ، زَادَ جَلالا

أَنْتَ مِصْرٌ، وَمِصْرُ قَاهِرَةُ الأزْمَانِ،

فَانْهَضْ وَكَذِّبَ الأقْوَالا


--------------------------------------------------"رأفت السويركي"


الأحد، 11 يوليو 2021

 تفكيك الخطاب النخبوي الدبلوماسوي المتسيس (  149 )

 "حروب الاستراتيجية الناعمة"... مقولات سامح شكري حول "سد أبرهة الأشرم"... أنموذجاً!!

---------------------------------------------------------------

الصور من شبكة الانترنيت

ينبغي قراءة الخطاب الذي ألقاه وزير الخارجية المصري سامح شكري أمام جلسة مجلس الأمن الدولي يوم الخميس التاسع من يوليو/ تموز2021 باهتمام شديد وتركيز كبير، وببرود انفعالوي؛ لأن هذا الخطاب يتوج نموذج ذروة سيناريو ما يمكن تسميته في سياق العلوم السياسوية "الاستراتيجية الناعمة". وهي النمط الذي يُضمر "مختبئ القوة الخشنة".


وهذا النسق الدبلوماسوي المثير للالتباس لدى نمط تفكير التلقي الشعبوي الجامع حتى للعديد من فصائل النخب المصرية غير القادرة على القراءة الجديدة للواقع؛ يثير ردود انفعالات بلغت من الحمق مداها؛ إذ تأتي كاشفة لظاهرة انفصال هذه النخب عن مناخات العالم الاتصالوي الذي جعل الدنيا كلها قرية صغيرة؛ وهو ما يدل على أن هذه النخب المصرية بالتحديد بعيدة كما يقال بُعْد الْمَشْرِقَيْن عن متغيرات النهج الدبلوماسوي؛ وتطورات نمط معالجة أو "إدارة الأزمات"؛ وسيناريوهات "الإدارة بالأزمة"؛ وسيناريوهات "إدارة الأزمة".




*****


خطاب سامح شكري أمام جلسة مجلس الأمن الدولي كان يتوج إبراز نمط "الاستراتيجية الناعمة" التي تتميز بها الدولة المصرية الراهنة؛ والتي قامت بتوظيفها في كافة "الصراعات الحمائية" لمجالاتها الحيوية في البر والبحر والجو؛ بناء على معايير ومرتكزات "قوتها الخشنة الكامنة" والتي كانت محكومة بخطابات قصيرة العبارات من نوعية: "مسافة السكة"؛ و"خط أحمر"؛ و"لن نفرط في نقطة ماء واحدة". 


وهذه "الاستراتيجية السياسوية الناعمة" التي تلتزم بها الدولة المصرية الراهنة؛ في الوقت الذي لا تلقى فيه الرِّضاء والقبول من بعض فصائل النخب مزيفة الوعي بمربعاتها السياسوية العقدوية (جماعة حسن الساعاتي البناء) والإيديولوجية (شرائح من المتمركسين) والوظيفوية ( جمعيات المتنشطين الدولاريين)؛ فهي تعني أنها فقيرة الإدراك للتحولات البنيوية لهيكل الصراعات على الموارد في العالم؛ وتكشف مدى عجزها عن الإدراك الذكي الذي تبرزه مخازن التفكير والقرار لدى الدولة المصرية.


*****


إن الخطاب السياسوي المُشْهر من الدولة المصرية حول قضية "سد أبرهة الأشرم" في الحبشة المروج له تضليلاً باسم "سد النهضة"؛ والذي وصل إلى قمة آدائه الاحترافوي في عالم السياسة الجديد؛ بقدر ما يثير الالتباس لدى النخب المتهافتة الخطاب ومغيبة الوعي؛ يعكس مدى آليات التطور المتحقق في مناهج استراتيجيات خوض الصراعات المفروضة على الدولة المصرية في حقول سياسات السيادة والحقوق والمصالح والقوة الذاتية المتهيئة لحماية هذه المنظومة.


ففي الوقت الذي تسلك فيه الدولة المصرية نمطية التصارع وفق الأدوات الجديدة التي صارت من مستقرات أساليب العولموية الزاحفة في السياسة والاقتصاد والثقافة؛ لا تزال شرائح كبيرة من النخبتين المصرية والعربية لم تغادر خنادقها النظرياتية الماضوية المتكلسة؛ ولم تتطور أدواتها في فهم التصارع الراهن.


وحين تتابع جدران النخبة شعبوية التفكير في فضاءات "فيسبوك" و"تويتر" في مسألة قضية الساعة المتعلقة بـ "سد أبرهة الأشرم" المعروف بـ "سد النهضة" تكتشف وصول علل هذه النخبة الهابطة التفكير والوعي لحالات من التردي السياسوي غير المسبوق. وليس لهم غير التحريض المضاد المباشر بفجاجة للدولة المصرية أو المستتر عبر الدسيسة؛ من دون الالتزام بالمساندة للوطن في مرحلة ذات حساسية فيما نظامه حقق من المنجزات الملموسة الكثير.


*****


إن تفكيك خطاب سامح شكري وزير الخارجية المصري أمام "مجلس الأمن" يقدم التصور المدروس لكيفية قراءة ما أسميه "الاستراتيجية الناعمة" للدولة المصرية في مرحلة "ما بعد مشروع سيناريو الربيع العبروي المتصهين" ؛ والذي أفلتت من ربقته تلك الدولة الراسخة بفضل قوة وثبات مؤسستها العسكريتارية الوطنية العظيمة.


واصطلاح "الاستراتيجية الناعمة" ليس مستعصياً على الفهم والإدراك من هذه النخبة التي تحركها حساباتها الخاصة المسبقة؛ والتي تتمسك بأقنعتها القديمة؛ وترفض الاعتراف بالتحولات المنهاجية التي طالت ميادين الآداء السياسوي في العالم الجديد الذي نعيشه ونندرج في قوانينه.


*****


إن النخبة المصرية والعربية التي تشعل الفضاء الافتراضوي بلطمياتها وصراخها حول "سد أبرهة الأشرم الحبشوي" ليس من مستهدف لها سوى تلويث سمعة الدولة المصرية بإدارتها الراهنة؛ أو ما يوصف بالنظام السياسوي الذي يديرها الآن. ولعل موضوعة هذا السد الذي يحتل موقع "حديث الساعة" الراهنة لا ينفصل لدى هذه النخبة المتردية عن قضية "تيران وصنافير" و"حلايب وشلاتين" و"مشروعات إعادة بناء البنية التنموية المترهلة"؛ و... إلخ.


ومشكلة هذه النخبة الغوغاءوية التي لا تتوقف عن تكرار عبارة "نضرب السد بطائرة" وكأنهم خبراء عسكريون أنها ـ تلك النخبة ـ لا تريد أن تخرج من سراديبها ودهاليزها الفكرانية لتعرف أن الخطاب السياسوي العولموي قد تغيرت مفرداته وموسيقاه التعبيروية وإيقاعاته؛ وغادر نمط "الخشونة السابقة" والتهديد بالقوة والتدمير والغزو والتفجير؛ أغنية فهد بلان أنموذجاً:" ويلك ياللي تعادينا ويلك يا ويل/ شف النار تلاقينا بظلام الليل/ حنا للسيف للسيف/.../ وحنا لليل والخيل يا ويل يا ويل يا ويل"!!


*****


إن خطاب سامح شكري الأخير أمام "مجلس الأمن الدولي" ينبغي أن يخضع لدراسات تفكيك الخطاب باعتباره أنموذجاً تطبيقوياً حيَّاً لنهج "السياسة الذكية" و"الاستراتيجية المصرية الناعمة".


فاللغة السياسوية المصرية غادرت نهج "حِنَّا للسيف" وانسربت في طريق "الأشقاء والأحباء"؛ ونسيت أسلوب "سندمركم ونهد الدنيا فوق رؤوسكم" وتعمقت في نشيد "من حقكم التنمية بل سنشارك معكم في تحقيقها"؛ ولم تنجرف في ردود الفعل المطلوبة بالتهديد وإشهار العداوة والزمجرة والتكشير عن الأنياب!


إن اللغة السياسوية المصرية الجديدة  تجاه "سد أبرهة الأشرم الحبشوي أنموذجاً" تكشف حسب موازين القوة الاستراتيجوية قيم الثقة المصرية؛ ومساند الفعالية الميدانية وموروثها التاريخوي وقدراتها المحسوبة بالأوزان السياسوية العميقة؛ وبالمنطق العلموي والعولموي؛ المتكئ إلى قواعد السياسة الدولية المستقرة في العالم واستراتيجيات القوة الناعمة للقرن الحادي والعشرين.


*****


وإذا كان الخطاب السياسوي المعمم من فريق "نظام أبرهة الأشرم الحبشوي" الحاكم يحمل صلفاً كذوباً ومدَّعىً وغوغاؤيةً مفرطةً؛ فهو تعبير عن التهافت والتداعي الحبشوي غير المستند إلى مقارنة معايير القوى الاستراتيجوية كما يلي:


-  وفق الموازين العسكريتارية (الجيش المصري في المركز الـ 13 عالمياً والأول أفريقياً وجيش أبرهة الأشرم/ الاثيوبي في المركز الـ 47 عالمياً والـ  8أفريقياً ).


- وحسب معايير "الموقع الجيوسياسوي" في القارة الأفريقية والربط مع القارات الأخرى يكون الوزن المصري أهم (أوروبا وآسيا وقناة السويس) فيما الحبشة (افريقيا فقط).


- ومع السمة الحضاروية التي تتميز بها مصر عبر التاريخ تكون متغلبة مقابل الفقر المماثل لدى الأحباش.


-  ووفق معيار الرسوخ الديموجرافي السياسوي للنسيج البشري في مصر فهو مستقر؛ مقابل الفسيفساء الديموجرافية في دولة الأحباش والمعتمدة على القبائلية المفككة "الأورومو والأمهرة والتيغراي" إلخ وتنتظرها الحروب الأهلية ( إقليم تيغراي أنموذجاً)!!


*****


ومن هنا يبدو معامل الثقة المصرية عالياً لذلك تستخدم "الاستراتيجية الناعمة" في إدارة "سيناريو الأزمة" التي كانت سيناريوهات الربيع العبروي المتصهين من أسباب قيام دولة الأحباش ببناء السد.


ومن مواصفات "الاستراتيجية الناعمة" الخروج بالمشكلة من "النسق المغلق" المحدود ( طرفا المشكلة) إلى "النسق المفتوح" وفق مقتضيات العولموية ونمط القوة الناعمة المهيمنة الراهنة؛ لذلك حركت الدبلوماسية المصرية المشكلة للفضاءات المختلفة: "جامعة الدول العربية"؛ و"الاتحاد الافريقي"؛ و"مجلس الأمن الدولي".


وقد ألتزمت الدبلوماسية المصرية الناعمة بخطاب محدد الثوابت؛ لم يتغير حسب كل نسق سياسوي انتقلت إليه. ما يعني أن استراتيجيته الحاكمة ليست عشواءوية؛ وإنما مدروسة؛ ومخطط لها. وإذا كانت مقدماتها معروفة... فإن خاتمتها محددة وغير منفصلة عنها.


والذكاء المصري الاستراتيجوي بمواصلة نقل مشكلة "سد أبرهة الأشرم" إلى أعلى هيئة دولية (مجلس الأمن) والمعروفة متغيرات توجهات موازين القوة به؛ وقد اتضحت من ردود الأفعال المختلفة؛ حيث الاكتفاء بمطالبة الأطراف لمواصلة التفاوض؛ وعدم التعنت و... و... إلخ مما لا يرضي دولة تعتبر النيل شريان الحياة لها ولا بديل له. لذلك فإن النتيجة المعلومة مسبقاً بهذه الخطوة هي تحييد هذه المؤسسة الحاكمة في السياسة الدولية؛ وتقليم أظافرها عن التدخل إذا انتقلت المشكلة لمربع التطورات العسكريتارية عقب أغلاق الباب الدبلوماسوي وإثبات انقضاء فعاليته؛ بتعنت حفيد أبرهة الحبشي الأشرم المتصهين "آبيه أحمد".

*****


ويكفي الإمساك بالخطوط العامة "المنشورة والمسموعة" لكلمة سامح شكري أمام مجلس الأمن الدولي لإدراك ملامح قوة "الاستراتيجية الناعمة المصرية" وهي تتحدد بتركيز شديد في أن:


- 100 مليون مصري يواجهون تهديداً وجودياً.


- مصر ظلت ولا تزال على دعمها لاستقرار إثيوبيا ورفاهية شعبها.


- دولتا المصب (السودان ومصر) باتتا أكثر عرضة لمخاطر سد النهضة في ظل عدم وجود ضمانات بشأن معاملات أمانه وسلامته الإنشائية.


- دعونا أشقاءنا (الأحباش) الذين نشاركهم ثروات النيل إلى التحلي بالمسؤولية والاعتراف بترابط وتشابك مستقبل وثروات شعوبنا.


- المنهج الإثيوبي الأحادى يُهدد بتقويض الأمن والسلم فى المنطقة.


- التعنت الإثيوبي سبب الاخفاق المستمر لمفاوضات سد النهضة.


- مصر جاءت إلى مجلس الأمن العام الماضي لتحذر المجتمع الدولي من خطر سد النهضة الإثيوبي الذي لاح في الأفق.


- الجنوح (الحبشي) لفرض الأمر الواقع على دولتي المصب (مصر والسودان) تحد سافر للارادة الجماعية للمجتمع الدولي .


- هذا الوضع لأزمة سد النهضة يمكن أن يعرض الأمن والسلم الدوليين للخطر.


- لا يوجد أمام مصر بديلًا إلا أن تصون حقها فى الحياة، إذا تضررت حقوقها المائية. 


*****


وهنا نتذكر الكلمة الرسولية الكريمة "رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ"؛ والتي تعني أن الدولة المصرية حددت خطواتها في سيناريوهات التعامل مع الأزمات الحافة بوجودها بهدوء الصفعة المدوية التي تحيط بها ابتسامة عريضة إذا غادر ملف" سد أبرهة الأشرم الحبشي" أروقة وزارة الخارجية المصرية إلى "غرفة عمليات القوات المسلحة المصرية"؛ والتي درست الملف بما يتناسب مع خصوصية الحالة وشكلت حزام الإحاطة العملياتية في أفريقيا به بحفظ الله وتوفيقه.



                                          "رأفت السويركي"