الثلاثاء، 31 أغسطس 2021

تعالوا لنقرأ... (4) عبد الفتاح كيليطو... "مُفَكِّك السرد العربي" وقراءة في العنونة!!

 تعالوا لنقرأ... (4)

عبد الفتاح كيليطو... "مُفَكِّك السرد العربي" وقراءة في العنونة!!

------------------------------------------------- 


إن كل جهد فكرانوي يمهد طريقاً ويُعبِّده للتبادل المعرفوي الخاص بالأدوات/ المناهج مع الآخر المهيمن أو المنافس ينبغي أن يحظى بالاهتمام في زمان المعاصرة وما بعد الحداثة، لأن ذلك التفاعل في حقيقته يدعم القدرات الذاتوية للعقل الجمعوي المتفكر للأمة، بما يساهم في تحقيق نقلة طفروية يحتاج إليها هذا العقل العربي والإسلامي المحتبس ولا يزال في كهوف الماضوية والمتحجر من الخطاب، لكي ينتقل هذا العقل للعيش مستوعبا ومستفيداً من متغيرات العصر وما يتلوه.


*****



إننا في احتياج الفاقة والمكابدة حتى إلى حد الإفراط في "تجنيس" المناهج التي ابتكرها ولا يزال ينتجها العقل الآخر؛ وإعادة توظيفها لإنتاج ما يتواءم مع حياتنا المعاصرة؛ لأننا كما نلهث ونستجلب السيارة والطائرة والصاروخ والتلفاز والهاتف و... و... إلخ لا غضاضة من أن ننفتح بالمطلق على المعطيات الفكرانية للعقل الآخر، مثلما فعل العقل العربي والإسلامي في عصور نهضته وما قبلها؛ بانكبابه على ترجمة وهضم معطيات منتج العقل اليونانوي والرومانوي، وترجمتها وحفظها ونقلها إلى أبناء عقل آنذاك من الزمان، ليستفيدوا منها في رحلة إعادة بناء الحضارة العربية والإسلامية؛ ويسلمونها وديعة ثمينة إلى العقول الأوروبية الأميركية لتنطلق في تأسيس الحضارة الحديثة بكل منتجها الهائل.


*****


الدافع لهذه الكتابة كان تذكير "فيس بوك" لي بتدوينة سابقة تدور حول الكاتب المغاربي عبد الفتاح كيليطو؛ والذي يُعَدُّ من منظوري إحدى درر عِقد المفكرين المغاربة المتميزين، من أمثال محمد عابد الجابري وعبد الله العروي، وطه عبد الرحمن ومحمد مفتاح ومهدي المنجرة، وغيرهم ممن لا تحضر أسماؤهم إلى الذاكرة راهناً.  وكليطو الحاصل على "دكتوراه الدولة من جامعة السوربون الجديدة" العام 1982، كان موضوعها:" السرد والأنساق الثقافية في مقامات الهمداني والحريري".


ولعل ما نشرة الصديق الدكتور مصطفى الغرافي في دراسته المتميزة بعنوان " البلاغة والإيديولوجيا - دراسة في أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة" قدم مقتبساً كتبه "عبد الفتاح كيليطو" فذكر في متنه: " لدي بعض التحفظ، في أن أعتبر نفسي كاتبا. وإذا لزم الأمر، فأنا مجرد ممارس لنشاط، مستعيداً بهذا الخصوص منظور رولان بارت. أما كاتب، فتبدو إلي مغالية في الادعاء، لأن إنتاجي الأدبي، ضعيف جداً".


لذلك وصف الدكتور الغرافي كيليطو بـ "الساحر عبد الفتاح كيليطو"؛ ما حفزني وأنا قارئ دؤوب لمشروع كيليطو با ستخدام منهج المقاربة عبر القراءة الدلالية للعنونة التي تحمل اسم كيليطو؛ مجيباً على التساؤل الذي أوحى ذلك به المقتبس الذي يقدم به كيليطو تقويما لمشروعه البارز من منظور الراصد الثقافوي العربي.


*****


إن القراءة الدلالية لعناوين إصدارات عبد الفتاح كيليطو، تكشف بما لا يدع مجالا للشك، عن أدواته في النقد والتفكيكوية، وتوقفوا أمام العناوين التالية:


-  "أبو العلاء أو متاهات القول"، "لسان آدم"، "العين والإبرة"، "لن تتكلم لغتي"، "الأدب والغرابة"... "الغائب دراسة في مقامة للحريري"... وتأملوا، فالحقل الدلالي لعناوين هذه الإصدارات: " العين، الأبرة، الكلام، اللغة، التكلم، الحكاية، التأويل، المتاهة، القول، لسان، آدم، الغائب..." يقود المتلقي، لمعرفة النشاط التفكيكوي لكيليطو.

- إن عناوين هذه الأعمال المميزة للكاتب الكبير وصاحب العقل النقدي المميز عبد الفتاح كيليطو، ألا تجعلنا نتمهل، ثم نتوقف في لحظة تأمل دارسة "فاعلة" لدلالة هذه "المنطوقات" المحددة إشهاراً على رؤوس كتب، حفر بها عبد الفتاح كيليطو أخاديد عميقة، في حقول دراسة السرد والنسق التعبيروي العربيين، بمبضع ماهر، وهو يشق ركام ومكدسات اللغة "الطبولية" التقليدية في كثير من جامعاتنا العربية - من الطبول - التي تعاملت مع هذه الكتب المميزة بأدوات الذهنوية المسطحة، والتي تفتش عن المحمول السطحوي الذي يعنُّ لها فور قراءتها المتعجلة من دون أدوات المناهج البنيوية والتفكيكوية التي اهتدى لها العقل الإنسانوي العميق، وهو يختار مبضع التشريح من جنس الجسد التعبيروي، للوصول إلى الإمساك بآليات الخطاب، وبنيته، ومحموله الدلالي. 


حتى وإن كان بعض المتكلسين فكرانياً يرفض مغامرات كيليطو النقدية، والتي تساندها ممارسة ومدارسه نقدية مجتهدة، وفق مناهج التفكيك والبنينة الحديثة وهو متمكن منها بقوة، فإن فعل التحفير يستخرج من اللُّقى الفكرانية ما يعجز المنقبون التقليديون بمناهجهم وأدواتهم القديمة في كشف "المسكوت عنه" في هذه النصوص العربية المهمة.


*****


إن المغامرات النقدية التي يقوم بها كيليطو في الموروث العربي، تستحق الاهتمام والمدارسة، والصبر عليها للوصول إلى مكنوناتها الثمينة في تجليات السرد والأنساق الثقافوية في أمهات الكتب العربية القائمة على السرديات الحكائية مثل "مقامات الحريري" والهمذاني.


ومن دون شك فإن مقتبس مقولة "كيليطو" حول تحفظه باعتبار نفسه كاتباً، ومعتبرا أنه ممارس لنشاط، يأتي في إطار إدراك المُنَقِّب الحقيقي في الأفكار، والذي يدرك أن ما هو غير مكشوف عنه، أكبر مما لقيه في رحلة تحفيره النقدية. 


لذلك يواصل عبد الفتاح كيليطو محاولاته الكشفوية الجديدة، بتواضع العلماء وإدراك الباحث الحقيقي بأن ما لم يصل إليه أكثر مما اجتهد في الوصول إليه بيده النقدية أي عقله. ولعل أحدث كتبه بعنوان " "في جوّ من الندم الفكري" والذي يكشف أيضاً منهجه في "العنونة" يجعله يؤكد أن عنوان مؤلفه الجديد من مقولة لفيلسوف العلوم الفرنسي غاستون باشلار لذلك: "إذا ما تحررنا من ماضي الأخطاء فإنَّنا نلفي الحقيقة في جو من الندم الفكري. والواقع أننا نعرف ضد معرفة سابقة، وبالقضاء على معارف سيئة البناء، وتخطي ما يعرقل، في الفكر ذاته، عملية التفكير".


*****


إن خطاب عبد الفتاح كيليطو الوصفوي التفكيكوي لجهده بأنه "مجرد ممارس لنشاط، مستعيداً بهذا الخصوص منظور رولان بارت" لا يقلل من أصالة ورزانة مشروعه الفكراني الذي اهتدى خلال بنائه بجهد رولان بارت؛ وهو يقرأ الخطاب السردوي العربي الموروث في كشف ذاتوي للمسكوت عنه.



 إنه كشف العلماء الأصلاء بثقتهم؛ ولعل المتعالمين الذين يجترون خطاب العقل الماضوي المتكلس يدركون فضيلة إعادة التفكر النقدي في الذات والخطاب، وهو ما فعله عبد الفتاح كيليطو "مُفَكِّك السرد العربي" في هذه الوقفة الذاتوية!! 




                                                  "رأفت السويركي"


الاثنين، 30 أغسطس 2021

معنى الكلام... ( 27 ) نُخْبَة "هزيمة القرن" الأميركية... "رَبَّكْ خَلَقْهَا كِدَهْ رَاحْ تِعْمِل إِيْه فِيْهَا"!!

 معنى الكلام... ( 27 )

نُخْبَة "هزيمة القرن" الأميركية...

 "رَبَّكْ خَلَقْهَا كِدَهْ رَاحْ تِعْمِل إِيْه فِيْهَا"!!

-------------------------------------------------------



"النخبة العربية" مقولبة الذهنية بما جرى تشكيلها عليه من ثوابت تضليلها؛ ولا تريد أن تقبل بأية جهود لتفكيك ما أسموها "هزيمة القرن الأميركية" في أفغانستان؛ ولا تحاول إدراك جهود تجريب القراءة الأخرى المغايرة لما تشكلوا به. 




هذه النخبة تراها تُصنف حيناً جهد "التفكيك الفكراني" بأنه ينطلق من "نظرية المؤامرة" التي كما يظنون بوجدانهم المشوه أن أصحابها يفسرون كل ما يحدث في العالم بأنه "مؤامرة"؛ وحيناً آخر باستنكارهم، ورفض القول بمتغير الضرورات بأن يضع "الجهاديون" أيديهم "الشريفة" كما يظنون في أيدي "الكفار" الذين يقاتلونهم لأنهم لا يتوقفون عن مؤامرات إعطال جهود نشر الإسلام؛ وحينا مغايراً بأن حسابات الأميركيين المرتبكة دوماً هي التي قادتهم للنتيجة الراهنة؛ أي الهزيمة أمام "ميليشيات طالبان" المفترسة "حامية العقيدة؛ والتي هزمت أعتى إمبراطورية معاصرة! 


*****


"هذه النخبة" البائسة لا تريد ولا تحاول أن تخرج من "قوقعتها" أو تتخلى عن أدوات فهومها المعتلة لتجرب ذات مرة "النظرة من خارج الصندوق"؛ وتعيد الرؤية إلى المشكلات المتغيرة في الواقع؛ ولعلها تحاول دراسة تصورات ما لا تتوقعه منطقوياً بغير قراءاتها النمطوية المعتلة. إذ تفسر أية "قراءة مغايرة" باعتبارها خاضعة لـ"نظرية المؤامرة"؛ وهي لا تدرك أن التوصيف بـ "المؤامرة" يمثل "المؤامرة الحقيقية" نفسها لصرف الانتباه عمداً عما يُسمى نهج السيناريوهات. 



 والسؤال: لماذا ـ هذه النخبة ـ تعجز عن الوصول إلى تصورٍ قارئٍ مستشرفٍ لاستراتيجيات "سيناريوهات إدارة الأزمات" التي تبتدعها "مكاتب التفكير الاستراتيجوية"  الـ Strategic Thinking Office))؛ ويتم تطبيقها في الواقع المعاصر باستخدام الذكاء الاستراتيجوى؛ عبر التمويه كثيراً؛ وأيضاً ادِّعاء التحنان والرأفة؛ وكذلك تمثيل إسالة الدموع؛ ولا بأس من إشهار "انتصار الآخر" عليها كأنه اعتراف المنهزم؛ بعد أن قام بتوليف الخصم وترويضه كما تروض الكلاب؛ ليندرج ذلك الخصم شاء أم أبي في السيناريو الجديد الموضوع؛ بعد أن ألقيت له قطعة/"هبرة" من اللحم يلتذ بطعمها وإلاَّ...!!  


*****


النخبة المتهافتة والمتسمِّرة جموداً؛ سواء أكانت في المربعات "العقدوية" أو "الإيديولوجية" أو "التنشطية" ينطبق عليها قول الشاعر الراحل "نجيب سرور": "ربك خلقها كده راح تعمل إيه فيها"؛ وحاشا لله!!.


 لذلك فهي ـ هذه النخبة المعتلة ـ في حقيقتها تمثل "مربط الفرس" في موضوعة "نكبة هذه الأمة" عبر ادِّعائها "التثورن" و"المناضلة"، وترويج أكاذيب سعيها ومتشوقها لتحقيق الديموقراطية؛ فيما هي لا تملك أولى مقومات الوعي بالثورية والنضال وقبول الرأي الآخر المُغاير؛ وتجريب الخروج من صندوقها.  

 
                                           " رأفت السويركي"

السبت، 28 أغسطس 2021

تفكيك العقل النخبوي الرأسمالوي السياسوي المهيمن (157) اجعله يظن أنه انتصر وخذ منه ما تريد... (ما أسموها هزيمة القرن الأميركية أنموذجاً)!!

 تفكيك العقل النخبوي الرأسمالوي السياسوي المهيمن  (157)

اجعله يظن أنه انتصر وخذ منه ما تريد... (ما أسموها هزيمة القرن الأميركية أنموذجاً)!!

-----------------------------------------------------------------







في ساحات الصراع الدولية المعاصرة حين يجلس "دهاقنة السياسة" في الغرف المغلقة لخوض نمط "حروب التفاوض"؛ فإنهم يجيدون استخدام تكتيك "المسح على ظهر القط الشرس" بنعومة لكي لا يُشْهِر بالتحفز مخالبه خوفاً وفزعاَ؛ لذلك فلا بأس من استراتيجية دفع الخصم للظن بأنه فاز لكي يحصل على بعض وليس كل ما يريد؛ ويقدم مقابلاً لذلك بما تقتضيه استراتيجية الأخذ مقابل العطاء وبما يرضي خصمك الذي تنازل للتفاوض معك!


هكذا هي اللعبة "الأميركو/طالبانية" الراهنة في أفغانستان؛ والجاري التغافل المتعمد للتعمية على حقائقها وحساباتها الاستراتيجوية وسيناريوهاتها؛ عبر تكثيف الترويج الهائل لما أطلقوا عليه تسمية "هزيمة القرن الأميركية"؛ خاصة وقد أشهرها بنفسه ـ لترسيخ التوجه ـ واعترف بها الرئيس الأميركي "جوبايدن" بما مثَّلَ ذروة الإثارة السينمائوية بأن "أفغانستان مقبرة الإمبراطوريات"؛ قاصداً الانسحابات اضطراراً التي أُجْبِرَت عليها "الإمبراطورية البريطانية العظمى 1842م"؛ ثم "الإمبراطورية السوفياتية 1988م"؛ وأخيراً "الإمبراطورية الأميركية 2021م". 


*****


وإذا كانت مقولة بايدن تكرس في الظاهر مفهوم إعلان هزيمة الولايات المتحدة بطريقة مباشرة؛ فذلك يبطن حقيقة السيناريو المتبع الجديد كمنتج تطورات "علوم إدارة الصراعات المعاصرة"؛ والمتحولة بتوظيف الوكلاء للقيام بالأدوار الموضوعة في تنفيذ الأهداف الاستراتيجوية الأميركية بأقل التكاليف التي تتكبدها في أرواح جندها بأرض المواجهات والمعارك؛ بعد أن ناءت بأرقام من الضحايا العائدين جثثاً من أطراف العالم وليس أفغانستان فقط في صناديق وكانوا ثمن أطماع طور الرأسمالية الأميركية في الهيمنة بالمغازي على مقدرات الشعوب. 


إن هذا الطور من الاستراتيجية الاحتوائية الجديدة يستخدم نهج ما ترسخه "علوم فكر الإدارة السياسوية" لأوزان القوة العسكريتارية؛ والتي تطبيق مفهوم "أبقِ صديقك قريباً وعدوّك أقرب"؛ لتعرف نقاط ضعفه وقوته ونهجه في التفكير فتستعد له وفق إدراكك لنمط عدوانيته؛ وبقدر ما تُشْعِره بالأمان تصيبه في الوقت ذاته بالخوف الدفين من ردود أفعالك! 


هذا هو المنهج الأقرب للتصور عند قراءة مسلكية رئاسة الدولة الاميركية في المرحلة الراهنة؛ تجاه المسألة الأفغانية والحالة الطالبانية التي حورتها المفاوضات المشتركة بالدوحة؛ لتقبل تلك الحركة بخضوعها الناعم للهيمنة عليها. وهو ما يعني تطبيق القاعدة المتعارف عليها بقبول الدول المتفاوضة حدوث التوازن الذي تميل فيه الكفة باتجاه مصلحتها!!


*****







لذلك فإن تفكيك خطاب "جو بايدن" الأخير يكشف في منطوقه كل المضمرات المختبئة؛ والتي تمثل منهج إدارة المشكلة السياسوية لنظام متعولم؛ بقصد مواصلة الهيمنة الاقتصادوسياسوية على كل الأقاليم في العالم. فكيف نقرأ "المسكوت عنه" في خطاب ما يروج له بتعبير "هزيمة القرن" الأميركية:


- يحدد "جو بايدن" بوضوح أن: " الولايات المتحدة لم تكن لتستقر في أفغانستان للأبد؛ والقوات الأميركية خرجت من أفغانستان في التوقيت المناسب، وأن مهمة الولايات المتحدة في أفغانستان لم تكن بناء دولة أو خلق ديمقراطية مركزية"!


 وهذا التعبير المباشر يكشف طبيعة نمط الأطماع والمحركات لكل الفعل الأميركي العولموي المرتبط بالدافعية والتوقيت المحكوم بفوائد الربح والخسارة. الأمر الذي يثبت اقتصادات "تجاراتها الشعاراتية"؛ والتي لا تكترس لمعرفتها نخبة المقاهي العربية الفاسدة؛ حين تلوك شعارات الحرية والديموقراطية وفق النمط الأميركي. 


- يواصل بايدن الكشف: "إنه اتخذ قرار الانسحاب شخصياً ولن يتراجع عنه"؛ والسؤال: أين إذن دولة المؤسسات الأميركية ـ يا نخبتنا العربية ـ التي لا تقيد فردانيته السياسوية تلك؟ لذلك سارع بذكر أن "الإدارة الحالية لم تملك غير خيار تنفيذ اتفاق ترامب الذي بدأ الحوار مع طالبان  أو التصعيد ضدها"! ما يعني ـ يا نخبتنا العربية ـ أن كافة الأمور تخضع للعبة السيناريوهات الثابتة وأطوارها المتجددة. وأن القرارات الموصوفة بالهزيمة أمام طالبان هي تمويه لوظيفة جديدة جرى الاتفاق عليها.


- وينتقل بايدن للتلاعب بالمشاعر؛ كنوع من التغطية على مخفيات السيناريوهات الجديدة بالقول: "عدم سحب القوات من أفغانستان كان سيعني تصعيداً للنزاع؛ وسيتطلب آلافاً من العسكريين الإضافيين... وأنا لن أسمح بإزهاق أرواح المزيد من الأميركيين".


 والسؤال: لماذا لم تظهر هذه الشفقة الأميركية طيلة عشرين عاماً منذ بدء الحرب ضد طالبان في العام 2001م، بسقوط حسب المصادر أكثر من 2.300 قتيل وإصابة نحو 20.660 جندياً بجراح؛ وهي أرقام متضائلة أمام مقتل أكثر من 45 ألف قتيل (إحصاءات 2019) بين قوات الأمن الأفغانية والمدنيين!!


- ويكشف بايدن ما دفع للتعجيل بعملية الانسحاب أمام طالبان المتحورة في قوله:" واشنطن لن تواصل القتال بالنيابة عن القوات الأفغانية؛ فانهيار الحكومة الأفغانية وسيطرة طالبان حدثت أسرع من التوقعات؛ واللوم يقع على القادة السياسيين والجيش والأفغاني"!





وهذه اللغة الأميركية المناورة بالتبرير المثير للسخرية تستدعي تساؤلات من نوعية: هل كانت أجهزة الاستخبارات الحربية الأميركية في الميادين الأفغانية وخارجها تغط في النوم العميق؛ ولم تقدم الدراسات العسكريتارية وتحليل العمليات في الأرض برقابتها عبر الاقمار الاصطناعية والطائرات و"البصاصين"؛ إلخ. المؤكد أنها جزء من "ترتيبات السيناريو المقبل" وتوظيف طور طالبان المتحور لآداء وظائف أميركية جديدة؛ مقابل تمكينها وغض البصر المقصود عن تحركاتها في عموم الأرض الافغانية... هكذا هي اللعبة!!


- ويوالي بايدن الكشف عن مضمر عملية الانسحاب بقوله المدهش: " الولايات المتحدة ذهبت إلى أفغانستان منذ ما يقرب من 20 عاما للحصول على مهاجمي 11 سبتمبر 2001 م والتأكد من أن تنظيم «القاعدة» لا يمكنه استخدام أفغانستان كقاعدة لمهاجمة واشنطن منها مرة أخرى؛ لذلك فالتهديدات الإرهابية ضدنا تراجعت. ومصلحة واشنطن الوطنية الحيوية الوحيدة في أفغانستان تبقى كما كانت دائماً منع هجوم إرهابي على الولايات المتحدة. لذلك سننشر قوات في أفغانستان لمكافحة الإرهاب إن استدعى الأمر"!! 


وهذه التبريرات تشير إلى نوعية السيناريو الجديد الذي يندرج فيه الطور المتحور من طالبان بمنع العمليات الإرهابية ضد الولايات المتحدة؛ والتي لن تحدث باعتبار القاعدة نمطا منقرضاً في أفغانستان؛ ولكن ما لا يُسْفر بايدن عنه هو "الدور الجديد لطالبان" في المحيط الحاف بها (باكستان وبقايا الاتحاد السوفياتي والصين والهند وإيران)!!


- ولعل ما أورده بايدن يكفي لإثبات هذه التصورات بقوله: " روسيا والصين تريدان من الولايات المتحدة التي أنفقت أكثر من تريليون دولار طيلة عشرين عاماً أن تنفق مزيداً من الأموال في تلك الحرب. وواشنطن قدمت كل شيء للجيش الأفغاني إلا أن الأخير لا يرغب بالقتال والقيادة الأفغانية لم تكن موحدة". 



لذلك فالمسكوت عنه في خطاب الانسحاب يكشف ضغوط الانهاك للاقتصاد الأميركي المعتمد على القروض والديون؛ ويمثل منسرباً لإضعاف القوة الأميركية في الأسواق مقابل هيمنة الاقتصادين المنافسين للصين وروسيا. ولذلك قد يجري توظيف "الطور المتحور من طالبان" لمحاولة إجهاد هذا الاقتصاد الحاف المنافس بعمليات نوعوية جديدة وغير مسبوقة وفق السيناريوهات الخفية.


- ويواصل بايدن تعميق التصور الذي يريده بالقول: " الرئيس الأفغاني أشرف غني رفض التفاوض مع طالبان للتوصل إلى تسوية. وهناك إثباتات تدل على أن أحدث الجيوش لن تستطيع خلق أفغانستان مستقرة وآمنة... والتهديد الإرهابي تخطى أفغانستان ليشمل دولاً أخرى؛ لذلك ستستمر واشنطن في دعم الشعب الأفغاني وتشجيع الدبلوماسية الإقليمية ودعم حقوق الإنسان ورفع الصوت للدفاع عن النساء الأفغانيات تحت حكم حركة طالبان."!! 


إن هذه التصريحات من بايدن تحدد ملامح المشروع المستقبلي لسيناريو تمكين طالبان أميركياً؛ بكل (عرقيتها البشتونية؛ وجمودها العقدوي/السنِّي الحنفي المتشدد؛ وحركويتها الأصولية /المتأخونة سياسوياُ)؛ وبها يوجه "رسالة ملغومة" للخصوم في الدول الحافة بمحيط أفغانستان عبر التلويح بالتهديد الإرهابوي المنتظر!! 


*****



وبعد أن استصنع النظام الأميركي المهيمن السيناريو الطالباني المتحور الجديد؛ والإيهام بالخروج الأميركي من "المستنقع الأفغاني" لغاية محددة؛ ينبغي قياس ردود الأفعال تجاه ذلك التطور. وما إذا كان ذلك يأتي بضغط الضرورة أم في إطار السيناريوهات الجديدة لمواصلة الهيمنة الأميركية. 


وهنا ينبغي العودة بالذاكرة إلى ما قاله جو بايدن في مؤتمره الصحافي الأول عقب تسلمه مقاليد البيت الأبيض مشيراً بشكلٍ محدد إلى الصين وروسيا بـ : "إنّ هناك معركة بين الديمقراطيات في القرن الحادي والعشرين والأنظمة الاستبدادية". إذن فلعبة "محاربة الإرهاب" التي استصنعته زمانيا في مواجهة الخصم الشيوعوي قد تجاوزتها الإمبريالية الأميركية في إطار انقضاء فعالياتها المرحلية راهناً لدى دول المركز العولموية. وبالتالي من الضرورة تغيير السيناريوهات بالجديد:


** من المنظور الروسي  أكد الرئيس فلاديمير بوتين: "أن روسيا تراقب عن كثب الوضع في أفغانستان؛ وبالطبع، لا يحتاج الأمر إلى القول إننا لن نتدخل في الشؤون الداخلية لأفغانستان، ناهيك عن إشراك قواتنا المسلحة في صراع... فروسيا تعلمت من التجربة السوفياتية في أفغانستان الدروس اللازمة"!


ولكن روسيا على لسان وزير خارجيتها "سيرغي لافروف" تقرأ المتطورات:" إن موسكو تُعارض فكرة نشر قوات أميركية في دول آسيا الوسطى المتاخمة لروسيا وأفغانستان، وتعارض انتقال اللاجئين الأفغان إلى هذه الدول قبل إرسالهم إلى الولايات المتحدة".


وهذا يعني أن روسيا لا تنسى الدور الذي لعبته "طالبان القديمة" لدى الاعتراف باستقلال الشيشان التي (كانت ولا تزال جزءاً من "الاتحاد الروسي" ثم فتحت سفارة شيشانية في كابول أيام تمكنها الأول؛ فضلاً عن إرسالها قوات للقتال في الشيشان. ومن دون شك فإن مكاتب التفكير الروسية تُدرج دلالات الدور المنتظر لـ "متحور طالبان" الذي يطلقه الفعل الأميركي!


** ومن منظور الصين التي تُعتبر الصديق القديم/ الخصم الجديد للولايات المتحدة الأميركية؛ فإن الطور المتحور من "الدولة الأفغانية الجديدة" ستكون له حساباته الاستراتيجوية بإعطال "إحياء طريق الحرير القديم". ولذلك فإن الصين بما يروج حولها عن "احتجاز نحو مليون شخص من أقلية الإيغور المسلمة في "مراكز مكافحة التطرف"؛ لن تنسى المغريات المقدمة للإيغور باللجوء إلى حُكم "طالبان"، حيث استقرّت مجموعات منهم في كابول. وجرى إدراجهم في "كتيبة الأجانب التي تقاتل الأعداء الداخليين لـ طالبان".


فهل تغض الصين الطرف مع المسألة الطالبانية المتحورة عن أقوالها بـ "أن مسلحين من الإيغور يقودون حملة عنف ويخططون للقيام بعمليات تفجير وتخريب وعصيان مدني من أجل إعلان دولة مستقلة لهم في الصين". وما تقوم به من "إدماج الأطفال الإيغوريين بمعزل عن أسرهم في مدارس داخلية بهدف تنشئة جيل من الإيغور منقطع تماماً عن الثقافة والعادات والتقاليد والديانة واللغة الأصلية لهذه الأقلية"؟


** ومن المنظور الإيراني فإن للطور الطالباني المتحور حساباته العقدوية والاقتصادوية وجانبها الأمنوي. أولها " دعم طالبان للجماعات المتطرفة والانفصالية التي تعمل في المناطق الحدودية بين إيران وأفغانستان، وثانيها "القلق الإيراني من نمو تنظيم الدولة/ داعش في المنطقة نتيجة ضعف الحكومة الأفغانية المركزية؛ وثالثها" اعتبار أفغانستان مركزاً لإنتاج المخدرات في العالم، وهو ما يشكل ضغوطاً على إيران باعتبارها إحدى طرق مرور المخدرات عبرها إلى أوروبا". 


ورابعها "المسألة المذهبوية وأعراقها الدينوية بوجود "قرابة ثلاثة ملايين شيعي من غرب العراق ومقاطعة باميان ممن فرّوا من أفغانستان خلال حكم طالبان التي تعتبر شيعة باميان كفرة مع احتمال توجّه عدد أكبر إلى إيران". وسادسها قد "يمثل غاية إيرانية بالسعي لنقل ميليشيا فاطميون الأفغانية المتواجدة في سوريا راهناً إلى أفغانستان لأدوار محددة"!


** من المنظور الباكستاني الذي بارك مفتيها دخول طالبان كابول واصفاً إياه بمماثلة دخول الرسول محمد بن عبد الله مكة المكرمة؛ فلعله يحقق المتمنى الباكستاني بضمان أن تكون أفغانستان الطالبانية المتحورة عمقا استراتيجويا لبلاده في إطار التناحر الهندو/باكستانوي القديم في ضوء وقوف أفغانستان السابقة مع الهند ضد استقلال باكستان العام 1947 م. مع الأخذ في الاعتبار نزوع باشتون الباكستان للرحيل إلى أفغانستان إذا أدركوا أن لهم دولة من عرقيتهم!!


** ومن المنظور الأغواتي العثمانللي التركي يبدو أنه قد يستجيب للمغريات الأميركية المتفق عليها بأن تلعب القوات التركية الراهنة في أفغانستان دورها المستأجر للبقاء في الداخل الأفغاني بحجة" دعم استقرار الأوضاع بها على الأقل "لإدارة مطار كابول" بشرط حدده وزير الدفاع التركي "خلوصي أكار" : "بتوفير دعم  سياسي ولوجيستي ومالي وتغطية نفقات إدارة المطار وتقديم القوات الأميركية بعد انسحابها بعض معدّاتها للقوات التركية".


*****


إن المحرك الفاعل والحقيقي لقضية الاجتياح المسرحي للطور المتحور من طالبان؛ والانسحاب المتسارع/المرتعب للولايات المتحدة عسكريتارياً من أفغانستان يُخفي السيناريوهات الجديدة لإدارة الأزمة الأفغانية؛ وهي قضية تدخل في إطار الصراع العولموي حول الثروات. فلم تعد الحروب تشتعل بسبب انتصار النظريات ولكن بسبب استنزاف القدرات المختزنة من البترول والغاز والمعادن الثمينة. 


وهذا هو ما قد يكشف التوجه الأميركي في مسرحية السماح بتمكين طالبان من أفغانستان؛ بكل مخزوناتها الثرواتية المعدنية المخيفة والتي تتحدد بإيجاز في:


- هيئة المسح الجيولوجي الأميركية تقدر القيمة الحقيقية للثروات المعدنية بما يقارب 3000 مليار دولار.


- تقدر ثروة النحاس الأفغانستانية التي تمثل ثاني أكبر احتياطي عالمي بـ 88 مليار دولار.


- تحظى أفغانستان بوجود أكبر احتياطي هائل من "الليثيوم" الفضي الضروري لانتاج بطاريات الطاقة المتجددة والسيارات الكهربية. 


- تمتلك أفغانستان نحو 2.2 مليار طن من خام الحديد.


- تمتلك أفغانستان 1.4 مليون طن من العناصر الأرضية النادرة.


- تصل احتياطيات أفغانستان من البريليوم إلى تقديرات قيمتها 88 مليار دولار.


- لدى أفغانستان مجموعة مهمة من مناجم الذهب.


- تتميز ثروات أفغانستان بـ 400 نوع من الرخام. 


- تحقق أفغانستان قرابة الـ 160 مليون دولار من بيع الأحجار الكريمة سنوياً.


-  والمعروف أن اقتصادات "الطور الأول من طالبان" كانت تتشكل في جزء كبير منها من أموال المخدرات القذرة؛ حيث تدير زراعة الأفيون في المناطق الخاضعة لسيطرتها؛ وبلغت حسب تقارير الأمم المتحدة 2020 إلى أكثر من 400 مليون دولار بنسبة 10 في المئة كضرائب مفروضة على كل مراحل استصناع وتجارة الأفيون فقط؛ حيث إذ أن أفغانستان شكلت قرابة الـ 84 بالمئة من إجمالي إنتاج الأفيون العالمي، خلال السنوات الخمس الأخيرة.


وهنا لابد للولايات المتحدة الأميركية من أن ترتب سيناريوهات اللعبة الاقتصادوية العولموية الجديدة لأفغانستان "من المعادن إلى الأفيون"؛ وتهيمن عليها عبر هيمنة "الطور الطالباني المتحور" الذي كان عدواً لها؛ ولا بأس من أن يكون صديقاً إذا ضمنت له الحماية والرعاية؛ ومكنته من الفوز بمخزون هائل من السلاح الأميركي الذي وضعته في حوزة الجيش الأفغاني الهش المستصنع الذي فرَّ أمام ميليشيات طالبان.


*****


إن هذه القراءة التفكيكوية حاولت "قراءة المسكوت عنه" في خطاب ما سُمي اكتساح طالبان لأفغانستان؛ فما كانت مسارعة بايدن لسحب قوات الجيش الأميركي من هناك إلاَّ تنفيذاً لتكتيك " اجعله يظن أنه انتصر وخذ منه ما تريد... وهذه هي حقيقة (ما أسموها هزيمة القرن الأميركية أنموذجاً) وهو ما ستكشفها سيناريوهات المستقبل!!


                                           " رأفت السويركي"


الأربعاء، 25 أغسطس 2021

تفكيك العقل النخبوي العقدوي الماضوي حين يُفْتِي ( 156 ) "مُفْتِى باكستان" ... التضليل بترويج "تمكين طالبان" كأنه "فتح مكة"!!

 تفكيك العقل النخبوي العقدوي الماضوي حين يُفْتِي ( 156 )

"مُفْتِى باكستان"
... التضليل بترويج "تمكين طالبان" كأنه "فتح مكة"!!

-----------------------------------------------------



لا يزال حدث إطلاق وتعميد "الطور المتحور" من "حركة طالبان" في أفغانستان يهيمن على أوراق اللعبة في مجمل العملية السياسوية بالإقليم الآسيوي ـ لا يزال هذا الحدث  ـ يثير ردود أفعال تدعو للسخرية حين ترفع رايات الفرح والزغاريد من فصائل مدَّعي التدين المغيبين في الأرض والمتغافلين عن فعاليات مكاتب التفكير الاستراتيجوي التي تضع السيناريوهات.


كل هذه الفصائل التي لا ترى إلى أبعد من أنوفها لا تريد أن تهتز وتتفكر في المعنى والتوقيت والمستهدف من تطورات "الموضوعة الطالبانية"؛ ولا تريد أن توظف تقانات العقل التفكيكوي في الوصول إلى تماثل سيناريوهات "الاستخلاق والاستصناع والإطلاق العولموي لفيروس "كوفيد ـ19 " ؛ وسيناريوهات "الاستخلاق والاستصناع والإطلاق للطور المتحور من جماعة طالبان!!


 إذ أن المتغيرات التي يشهدها التطور البنيوي للنظام الرأسمالوي العولموي (الدولة الأميركية أنموذجاً) لا تنفصل مهما تعددت صورها عن نهجه السيناريوهاتي الجامح لاعتبار الأحداث كلها ينبغي أن تكون في إطار نسق فرض هيمنته بالصور المتغيرة نفسها والمعبرة عن نمط تفكره وإدارة أزماته. 


الأطوار المتحورة من "كوفيد ـ 19" تماثل في الأسلوب والنهج والصورة "طور طالبان المتحور"؛ وبقدر ما تستفيد "الرأسمالية الدواءوية" من المباغتة في إطلاق وتعميم نشر الفيرسة بالكوفيد؛ فإن الرأسمالية السياسوية الأميركية ستواصل الاستفادة من "الطور الطالباني المتحور"؛ والذي أشرفت على تأهيله وتحويره في "معامل التفاوض السياسوي الأميركي بمنطقة الخليج العربية"؛ بعد أن وفرت "معامل/ بيئة السيطرة" على النوع الأول سليل القاعدة من الحركة الموصوفة بالجهادوية؛ فبدأت تلك المعامل السياسوية تطوير فعاليات الطور المتحور لتناسب متغيرات الخريطة السياسوية الجديدة وبهدف تحقيق المكاسب المتعددة والتي لم يكشف الغطاء عنها بعد.


*****


في تدوينة سابقة لي بعنوان "تسمين الذئب" وإطلاقه... "حالة تمكين طالبان من أفغانستان أميركياً" قدمت التصورات التفكيكوية لهذا المشروع السياسوي الأميركي الجديد؛ والذي تجلى العقل السياسوي الأميركي وفق سماته الهوليودوية بالإعلان عن الانسحاب من أفغانستان بشكل مباغت؛ ليصبح "الطور المتحور" من طالبان أمراً واقعاً ومبشراً بإعلان "إمارة أفغانستان الإسلامية"؛ لتبدأ فرق الغيبوبة العقدوية الدوران في رقصاتها حاملة الدفوف والطبول وهي تغني أناشيد انتصار "فعاليات الجهاد الإسلاموي"؛ والترويج لهزيمة الولايات المتحدة الأميركية "دولة الكفر والبهتان"؛ فيما تهرب هذه الفرق المغيبة العقول من إدراك لعبة السيناريوهات الاحترافوية التي تدار بها السياسة المعاصرة!!


*****






إن هذه النوعية من فرق الماضوية السياسوية الحافة بعقيدة الإسلام توهماً وكذباَ تشهر أجلى تعبيراتها حول "الطور المتحور من طالبان" في تغريدة تتناقلها المواقع الاليكترونية للمغيبين في الأرض أطلقها "مفتي باكستان" المُسمى "العلَّامة المفتي محمد تقي العثمان"؛ ومنطوقها يكشف طبيعة هذه العقلية السادرة في الغيبوبة التاريخانية بقوله المتهافت:


- " دخول طالبان إلى كابول بطريقة سلمية، وإعلان العفو عن الجميع وضمان السلام لهم، يذكرنا بفتح مكة. ويلقن القوى الدولية المتزودة بأحدث التقنيات أن القوة الإيمانية لا يمكن أن تصمد أمامها أي قوة إذا صاحبتها التضحيات. ليت العالم الإسلامي يأخذ درساً من هذه المعجزة"!!!!


ويكفي منصوص هذه "االزغروتة" بالدارجة المصرية للكشف عن طبيعة خطاب وتفكير وقوالب الماضوية الكهفوية؛ التي تستمتع بكل منتجات الكفار في ترسيخ تعميم نهج الخروج من التاريخ والحياة؛ بما ترسخه من مفاهيم منقطعة الصلة بالإسلام الحقيقي دين العقل.


إن تفكيك خطاب محمول تغريدة المفتي الباكستاني محمد تقي العثمان؛ يكشف تردي النسق الحاكم للتفكير السياسوي العقدوي لدى عموم منتجي خطاب المتأسلمين؛ وهو خطاب لا يريد بأية حالة أن يغادر زمان الكهف بكل عواره؛ وبكل إشكاليات عدم التناسب مع معطيات التفكير والحركة في العصر. كما يلي:


** يتغافل "مفتي الغيبوبة الباكستاني" هذا عن حصاد ومعطيات لعبة إدارة "سيناريوهات الأزمة الأفغانية" بالاتفاق والتوافق بين "المفاوض الأميركي" و"مندوبي طالبان" في "اجتماعات الدوحة"؛ والتي قامت بتجهيز المقبل من سيناريوهات المشكلة الأفغانية بحساباتها الاستراتيجوية.


** يتهرب "مفتي الغيبوبة الباكستاني" من كشف أسرار أسباب ما أسماه "دخول طالبان بطريقة سلمية"؛ حيث أن التزييف يفرض عليه ألا يقترب من خفايا التفاوض الأميركي / الطالباني في الدوحة؛ وكذلك دلالة الانسحاب السريع المريب لقوات أكبر جيش في العالم بقدراته المخيفة وما يُسمى "كرامته العسكريتارية" أمام ميليشيات يستطيع أن يبيدها بطائراته إذا اقتربت من العاصمة كابول. 


** استخدم "مفتي الغيبوبة الباكستاني" نسق خطابه الكذوب لإسباغ "القداسة" العقدوية على نمط حركة ميليشيات الإسلام السياسوي الجهادوي بمنطق الكهفوية؛ فهو يربط بين "فتح مكة في زمن الرسول الأكرم" وبين ما يعني "فتح كابول" في زمن المُلَّا "هيبة الله أخوند زاده"، و"عبد الغني برادر"، و"سراج الدين حقاني"، والملا "يعقوب". إذ يستدعي من ذاكرته الصخروية القول: "يذكرنا بفتح مكة"!!!


والسؤال ما هذا الكذب والتدليس في الربط بين "سيناريو تسليم كابول" للقبضايات ـ وفق التعبير اللبنانوي ـ وبين "فتح مكة" بحضور الرسول الأكرم محمد بن عبد الله؟ هل هناك تماثل بين مشروع "انتصار عقيدة الإسلام" في بدء الدعوة؛ و"مشروع سياسوي هابط" في بلد إسلامية العقيدة والهوية إسمه "المشكلة الأفغانية" والذي نشأ في مواجهة الاتحاد السوفياتي بفعل فاعل رأسمالوي/ أميركي. حقاً إنه التدليس المقيت!!


** ويواصل "مفتي الغيبوبة الباكستاني"  تدليسه وتعميم فكر الغيبوبة الهابط بتفسير فعل "الطور المتحور" من طالبان قائلاً:"... ويلقن القوى الدولية المتزودة بأحدث التقنيات أن القوة الإيمانية لا يمكن أن تصمد أمامها." وهنا ألم يسأل ذلك المفتي نفسه بأية أسلحة قاتلت هذه الميلشيات/ مع القاعدة الاتحاد السوفياتي سابقاً؛ ثم القوات الأميركية والأوروبية بعد حادث البرجين؛ فالجيش الأفغاني المستصنع لاحقاً؟ 


هل حاربت "ميليشيات طالبان/ القاعدة" في البدء جيوش الروس ثم الأميركيين وأمثالهم بالحراب والأسهم وراجمات الحجارة... أم جري تسليحها منذ البدء أميركياً بالبنادق والمدافع والمفخخات ثم الآليات؛ ولاحقاً بما حصلت عليه من أسلحة الجيش الأفغاني من "مركبات عسكرية أميركية الصنع ومدافع مضادة للطائرات، ومدرعات مصفحة"، بالرشوة والإغراء وإفساد الذمم والهروب؟


** ويختتم "مفتي الغيبوبة الباكستاني" خطاب الزيف؛ بالوصول إلى مستهدفه الهابط والهادف لمخادعة عموم المسلمين كذباً بقوله" ليت العالم الإسلامي يأخذ درساً من هذه المعجزة"!! ليصل مفتي الإضلال الباكستاني لاعتبار "تسليم كابول للطور المتحور من طالبان" وفق السيناريو الأميركي باعتباره "معجزة"؛ داعياً الشعوب المسلمة بالوجدان والعقيدة لاتباع "نسق طالبان"!!


إن تاجر بيع العقيدة من نوعية المفتي الباكستاني بقوله هذا يُغطي على فضيحة "عمالة طالبان" وتجارتها السياسوية بالتحالف اللاحق مع متوهم العدو الأميركي الذي استصنعها منذ البدء؛ واستجاباتها لسيناريو "تسليم أفغانستان" لها لإقامة "إمارة أفغانستان الإسلامية" وليس "دولة أفغانستان" المدنية. لتؤدي أدواراً جديدة سيتم الإفراج عنها عملياتياً في القريب العاجل.


****






وهكذا يكشف منهج تفكيك الخطاب عن مدى سقوط المفتي الباكستاني الموصوف بـ "العلَّامة محمد تقي العثمان" وهو يمارس لعبة التضليل بترويج "تمكين طالبان" كأنه "فتح مكة"!! في إطار وظيفة لعبة المخادعة والمتاجرة بالعقيدة ككل أمثاله من أولئك "الدهاقين"؛ الذين يحاولون "تحنيط دين العقل" في مقبرة الماضوية؛ عبر تعميم "شرعنة" أفعال نمط سياسوي يقوم على القتل وإراقة الدماء وتكفير المسلمين أهل بلاد الإسلام؛ الذين بالطبيعة يقيمون شريعة الله فيها؛ ولا يحتاجون إلى هذه النماذج المضادة للدين والإنسانية. وهي تتحالف في الباطن مع الخصوم وتعلن تضادها معهم في الظاهر في إطار نهج المنافقة حيث يبطنون غير ما يظهرون (المتأسلمون السياسويون/ طالبان المتحورة أنموذجاً)!!


                                                 "رأفت السويركي"


الخميس، 19 أغسطس 2021

تفكيك العقل النخبوي الماضوي الجهادوي الغازي ( 153 ) "فقه الولائم"... في "قصور المغانم" ( الإخوان وطالبان أنموذجاً)!!

 تفكيك العقل النخبوي الماضوي الجهادوي الغازي ( 153  )

         "فقه الولائم"... في "قصور المغانم" 

( الإخوان وطالبان أنموذجاً)!!

-------------------------------------------------


















ارتبط  ما يُسمى "فقه الجهاد والمغازي" بمكتسباته المتحصلة لدى جماعات وتنظيمات وفرق الإسلام السياسوي التي تخلَّقت في العصر الحديث لزوماً بـ "فقه الطعام". وهذا الاستنتاج هو الذي يمثل "المسكوت عنه" الكامن في كل المسلكيات الناضحة لهذه النوعية من البشر مما لا يعدُّ تقولاً أو افتئاتاً أو تشويها لسمعتها أو ظلماً لها؛ لأنها نوعيات من المجاهدين "الغلابة" والشرهاء"المفجوعين" بحكم الفقر المدَّعى!!


*****


وهذه التدوينة لن تتوغل مباشرة في ممارسة التحليل السياسوي المباشر حول النشوء والتجهيز والتمكن بالتحديد لـ "جماعة طالبان" التي كانت تجربة تطبيقوية أولى للاستخبارات الأميركية بهدف إجهاد الخصم الأيديولوجوي المضاد أي الاتحاد السوفياتي؛ ثم استكمال تطوير السيناريو لدخول فاصل جديد بالاستعداد لإعلان "إمارة أفغانستان الإسلامية" المتأخونة واللعبة ستظل بعد فشل تجربة الربيع العبروي المتصهين في الدول العربية.


فالهدف الاستخباراتوي هو تطوير إعادة استخدام طالبان في إطار حركات الإسلام السياسوي لتوفير "البيئة الحاضنة" وتجهيز عناصر "جماعة حسن الساعاتي البنَّاء" للعمل العسكريتاري الميليشياوي في المستقبل كما حدث بدور الجماعة المتأخونة في تدمير الدولتين السورية واليمنية وكذلك العراقية بعد الغزو الأميركي... " الفلسطيني المتأخون عبد الله عزام والمصري المتأخون عبد المنعم أبو الفتوح أنموذجاً".


إن حدث اللحظة بإشهار انتصار وتمكين طالبان من بدء إعلان ما تُسمى "إمارة أفغانستان الإسلامية" هو تأكيد على الدور الاستخباراتوي الأميركي لهدم نمط الدولة في المنطقة وإحلال نمط "الإمارة العقدوية" بديلاً عنها عبر "جماعة طالبان" والتي تعد ذراعاً آسيوياً من أذرع "جماعة حسن الساعاتي البنَّاء" حتى وإن رفعت - طالبان - شعارات "السلفوية الجهادوية" على سبيل "التقية السياسوية"؛ لأن الفكرة والتأسيس والتجهيز (القاعدة) والعتاد من الأفراد أنفسهم ( أغلبيتهم من المتأخونين ومنهم بن لادن ومحمد الظواهري ومحمد عاطف أبو حفص وأبو عبيدة البنشيري إلخ أنموذجاً)! 


فـ"جماعة حسن الساعاتي البناء" الصهيوماسونية أعطتها الاستخبارات البريطانية مشروعية التأسيس؛ وكذلك فـ "جماعة طالبان الأفغانية" الصهيوماسونية أيضاً أعطتها الاستخبارات الأميركية المشروعية في التأسيس والتمكين راهناً!!


لكن قراءة خطاب الصورة - موضوع هذه التدوينة - هو المنظار السياسوي الكاشف لكثير من التصورات "المسكوت عنها" لدى جماعات الإسلام السياسوي ويمثل المسلك الشخصاني الممارس تعبيراً عن البنية الثقافوية والعقدوية التي تهيمن على عقول هذه الجماعات بكل ماضويتها ابنة زمانها والتي ينبغي أن تختفي من مسلكيات إنسان القرنين العشرين والحادي والعشرين.


*****


إن "فقه الغزو" بالمترتب عليه من تحقق الانتصار والتمكن المُكَنَّى عنه سياسوياً بالجهاد يكون مرتبطاً بالضرورة بـ "فِقْه الْبِطْنَة" و"فِقْه الْمُطَاعَمَة" في الوقت نفسه والمكنى عنه بشروياً بالاستمتاع وسد ذرائع الحاجات البيولوجوية الضاغطة والمحركة لفعل الغزو آنذاك.


وفي القانون يقولون "البينة على من ادَّعى" – والبينة تتجلى في هذا الربط المؤكد بين "فقه الْبِطْنَة" و"فقه جهاد الغزو" الذي يتشدق بشعاراته كل المتأسلمين السياسيين بكافة جماعاتهم ودوافعهم؛ لتحقيق التمكن والفوز بعوائد اقتصاداته التي عبر عنها خطاب اجترار الماضوي المتسلف ابو إسحاق الحويني بقوله:" إذا انتصرنا سنفرض أحكام الإسلام على هذا البلد. أحكام الإسلام بتقول إنه كل اللي موجودين في هذا البلد أصبحوا غنائم وسبايا... نساء، رجال، أطفال، أموال، دور، حقول، مزارع.. كل هذا أصبح ملك الدولة الإسلامية". 


وعلينا الالتفات هنا بوعي وتقدير إلى كلمة "دُوْر"؛ تلك التي ضمَّنها الحويني في توصيفه لمعاني ونتائج "فقه الغزو/ الجهاد"؛ والتي تتحدد في المقصودية بـ "قصور الملوك والأمراء" الذين لقوا الهزيمة بالغزو في زمان (الخيل والبغال والحمير والإبل) كآليات الحرب آنذاك؛ وذلك للقيمة المادية كأبنية فاخرة/ والقيمة المعنوية برمزيتها باعتبارها "دور وقصور" الحكم وإدارة الممالك؛ وليست خياماً من الجلود وأكواخاً من الأشجار والنخيل!!


ففي "دور/ قصور" الأقوام التي جرى الانتصار عليهم بالعمل العسكريتاري الغازي حديثاً - وفق تعبير "غزوة الصناديق"التي حددها ( محمد حسين يعقوب أنموذجا) - يتأتى باللزوم هنا إعادة تعميم تطبيق "فقه الْبِطْنَة" المرتبط بتلبية حاجات الجوع لإبراز نتائج التمكن وإظهار التعبير المطمئن عن الفوز والانتصار وتحقق غاية الغزو؛ وبالتالي إعادة تكريس ثقافة "فقه المطاعمة" المحدد - فقهوياً بواجبات وقواعد وأدوات وطرق تعاطي الطعام؛ وكله حسب ما يروجون مرتبط بالشريعة؛ والشريعة من تقولاتهم الكهفوية براء!!


لذلك من دون دراية أو لربما بالعمد وإظهار الإدراك يقع "المجاهدون/ الغزاة" في فخ التعبير عن دوافعهم الخاصة بتلبية حاجة "البطنة البدائية" وغريزة الشره والنهم بطريقة ترتبط بمسلكيات ما قبل المدنية أكثر من تقدير والتزام قواعد الحسابات البروتوكولوية الناتجة عن فكر الحداثة والمدنية المعاصرة.


والصورتان اللتان أشهرتهما "جماعة حسن الساعاتي البناء"أيام تمكنها الطارئ والمؤقت من حكم مصر و"جماعة طالبان" فور تمكنها الراهن من سلطة الدولة في أفغانستان على مواقع التواصل الاجتماعوي "فيسبوك وتويتر ويوتيوب" بقدر ما تعبران عن انتصارهما السياسوي المؤقت لمرحلة ما... تكشفان في الوقت نفسه ثقافة "البطنة" و"المطاعمة" المتمكنة من العقل العقدوي السياسوي الماضوي ومسلكياته وذلك لارتباطهما بالنسق الماضوي المتكهف في ثقافة الحياة الاجتماعوية.


ولعل الإسراع بإشهار هاتين الصورتين يقصد غرضية البدء والإعداد بفرض أنماطها - الإيمانوية - في حياة الشعوب الواقعة تحت هيمنة هؤلاء الغزاة المتغلبين على حد سواء بعمليات الغزو العسكريتارية "طالبان" أو بغزو الصناديق"الإخوان"!!


لذلك فإن لـ "فقه البطنة" يستدعي بالضرورة "فقه المطاعمة" الذي يحوي القواعد الملتحفة بغطاء الشريعة ومشرعن لها بما توصف بـ "السُّنة العمليانية". يتجلى هذا الفقه كما يكشفه كلام الصورة في الخطوات التالية:


- ينبغي أن يتحلق المتغلبون جلوساً حول "البُسُطِ/ أي موائد الطعام" المفروشة في  أرضية الصالات والغرف "المطنفسة" في "قصور المغانم" التي تمت السيطرة عليها بالغزو المتنوع.


- يجب أن يكون التحلق حول الطعام بطرق الجلسات الثلاث ليس باستخدام المقاعد؛ ولكن بالإقعاء؛ أو الاعتماد على الركبتين وظهور القدمين؛ أو بالجلوس على اليسرى ونصب اليمنى. "فتح الباري".


- من الضرورة أن يكون التحلق في مجموعات ضيقة لضرورة خصوصية المشاورة  الكلامية وعدم المزاحمة بالأيدي الممتدة للطعام حتى الشبع؛ لكي تحصل الأيدي كلها على ما تشتهيه من الطعام الشهي لأنه خاص بالقصور وليس من باعة عربات "الفول والفلافل والكشري وبقالات الممبار والكرشة والكوارع"!!  


- من قواعد الحفاظ على الآداب المستنة أن يكون تناول الطعام باليد حسب - ابن حجر الهيتمي ، أحمد ابن محمد في الفتاوي الفقهية الكبري - "لأن الأكل بالملاعق بدعة قبيحة إن أصابها شيء من لعابه ثم ردها للطعام، أو إن كان فيه نوع تكبر أو تشبه بالأعاجم، وإلا فلا وجه لقبحها"!!


- ومن الكراهة المتوارثة في استخدام "الملعقة " أنها تخالف ما قعَّده السلف الذين لا تزال تهيمن ثقافتهم على عقول المغيبين في الوقت الراهن بدعاوى "أنها تدخل في فم المتحلق حول الطعام فيردها إلى طبق الطعام مرة تلو الأخرى. والأعجب اعتبار "الملعقة أداة رفاهية" مرفوضة!!    


- ومن المتوارث في ثقافة تناول الطعام تناول "الأكل بثلاثة أصابع"؛ وقال القاضي أبو الفضل عياض بن موسى بن عياض: "الأكل بأكثر منها من الشره وسوء الأدب وتكبير اللقمة". 


وغير الملتفت إليه في هذا الأمر أن طرق تناول الطعام الحديثة تتجاوز هذه الثقافة الماضوية ابنة زمانها؛ فتهتم بثقافة السلامة والصحة والوقاية وتحافظ على آداب تناول الطعام التي يتبعها "الكفار" من المنظور السياسوي العقدوي الماضوي؛ وذلك بتخصيص آنية وأطباق خاصة لكل شخص من الآكلين؛ فتنتهي كل تلك التخوفات المتوهمة ممن غزوا القصور ومباني الحكم بالسلاح أو عبر الصناديق بفعل فاعل يقوم بتوظيفهم.
وإذا كانت الصورتان الكاشفتان لثقافة طرائق تعاطي الطعام تكشفان تأثير فقه الغزو والبطنة والمطاعمة على مسلكي جماعتي "الإخوان" و"طالبان"؛ وتقدمان صورة لكيفية ممارستهما الحياة بتحقيق فقه الغزو بعد التمكن داخل قصور المغلوبين بالقوة أو بالصناديق؛ فإن الظاهرة المكملة لهذه الصورة البائسة يكتمل إطارها الناظم بعدم الالتزام بقواعد البروتوكول وآدابه.


إن الجلوس على الأرض لتلبية حاجة البطنة قد تكون لها مبرراتها. ولكن طرائق استخدام الآثاث في هذه القصور يفضح مسلكيات هذه الجماعات الكهفوية والماضوية القناعات بعيداً عن العقيدة المظلومة في صورتها التي يقدمونها ويروجونها.


وما طريق التمكن بالغزو من قصور الحكم سوى الكاشف عن تغييب ملمح السلوك المدينوي الحديث في الحياة لدى هذه الفرق ذات التفكير الكهفوي. إذ يغيب البروتوكول المستقر والمتعارف عليه عند استخدام المقاعد؛ بما يمثل ظاهرة مثيرة للدهشة من بشر لا يزال الكثيرون يجهلون كيفية الجلوس بها واستخدام هذا النوع من الأثاث.


والتساؤل الذي تطرحه هذه المسلكيات المثيرة للدهشة هل يمتنع على المجاهدين/ الغزاة الجلوس في مقاعد الكفار الفاخرة وفق الطرق الاعتيادية البروتوكولية بوضع القدمين على الأرض؛ وكذلك الأمر برفض التحلق حول موائد الطعام الفاخرة ذات الكراسي الأنيقة مع وجود الطهاة ومن يقدمون الأطعمة بأناقة المناولة؟! 

في "قصر الرئاسة" المصري الفخم الذي عاشت فيه "أسرة محمد علي" وآخرها الملك فاروق ثم الرؤوساء الذين مارسوا إدارة الدولة المصرية منه بدءاً بجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك ابتليت البروتوكولات الرئاسوية في إطار ابتلاء مصر بمجئ المتأخون "محمد مرسي" ليجلس على المقعد ذاته. وليته بجماعته احترم تاريخ هذا القصر الذي حافظت عليه قواعد بروتوكول متبعة ومقننة حين إقامة ذلك الرئيس وأسرته وكذلك استقبال ملوك ورؤساء دول العالم ضيوفاً.


إن المرحلة المزرية التي مرت بها القصور الرئاسوية المصرية في عام تمكن "جماعة حسن الساعاتي البنَّاء" لم يُكْشف النقاب كثيراً عما شهدته من ممارسات هابطة ومخالفة لقواعد البروتوكول المتبعة؛ ليس سوى القليل الذي ذكرته بعض المواقع الإعلاموية مثل:


**  أزال محمد مرسي مندوب تلك الجماعة "الكثير من اللوحات الفنية والرسوم النادرة من القصور الرئاسية خلال العام الذي تولى فيه الرئاسة؛ حيث أصدر أوامره بتخزين العديد من المقتنيات النادرة في القصر الرئاسي التي يعود تاريخها الفني إلى أكثر من 200 عام منذ عهد أسرة محمد علي، وتغيير بعض قطع الأثاث النادرة من حجرات قصر الاتحادية، بدعوى أنها قديمة ومتهالكة".


** وحسب ما نشر في أجهزة الإعلام "فإن محمد مرسي، لم يخضع للمراسم والبروتوكولات الرئاسية سوي مرتين وبعدها رفض الخضوع لها، ومنها مراسم تناول الطعام مع الرؤساء واستقبال الضيوف والقاء الخطب، وكان يستنكر دوماً تقديم الطعام بمقادير معينة وفقاً للبروتوكلات الرئاسية المتبعة للحفاظ علي صحة الرئيس، وطلب أن يكون الطعام كاملاً غير مجزء".   


** ونشر كذلك أن محمد مرسي "لم يكن يتناول الطعام علي المائدة المخصصة لتناول الطعام هو وأسرته وفق المتبع وباستخدام أدوات المائدة، بل كان يفترش الأرض هو واسرته أثناء الوجبات الثلاث، وحتي في الولائم التي يطلبها كان الطعام يقدم بطريقة افتراش الأرض". كما قام بتبديل قوائم المأكولات والمشروبات لتكون أكثر دسامة من "البط والأوز" في وجبات يومية. 


***** 


إن تفكيك خطاب الصور المرفقة يكشف مدى التردي الحضاروي لجماعات الإسلام السياسوي الماضوية التفكير والمسلك؛ والتي يفضحها نمط آدائها في إدارة واستخدام أمكنة الحكم في الدولة الحديثة... "جماعة الإخوان" و"جماعة طالبان" أنموذجاً. إذ تمارس هذه الجماعات الشعبوية الهابطة وهي تطبق مسلكيات "فقه الولائم"... في "قصور المغانم". وليتها تركت تلك القصور واعتبرتها من الآثار الإنسانوية وشدت أعمدة وأربطة الخيام بديلاً عنها لتقود منها الدولة الحديثة التي غزتها وتغلبت على حكوماتها بفعل فاعل؛ كما حدث في مصر وأفغانستان؛ وإنها من مضحكات هذا الزمان!!


                                            "رأفت السويركي"


السبت، 14 أغسطس 2021

 معنى الكلام... (26)

وهذا هو ثالثهم... "داعش" وجهاد "اقتصاد السبايا والعبيد" (الحويني أنموذجاً)!!

-----------------------------------------------------------






من ثوابت العقل الماضوي المتسلف أنه يدور إلى حد اللُّهاث في حواف العقيدة؛ ويظن متوهماً أنه يمسك بجوهرها. وهذا العقل المتحجر من سماته البنيوية أنه مناور بفعل محيط الموروث الثقيل الذي يجذف في لججه المتشكلة تاريخوياً بما قدمه " رواة قوم حدثنا" من مرويات يشيخ من هولها المتفكرون.

*****

وإذا كانت قضية خلية "داعش إمبابة" قد أجبرت إحضار اثنين من المهيمنين بخطابهما على أذهان القوم التابعين لآداء شهادة الإثبات أو النفي باعتبارهما عنصرين أساسيين من أعمدة خيمة الفكر الماضوي المتسلف؛ هما محمد حسين يعقوب ومحمد حسان؛ فإن "أبو إسحق الحويني" يعتبر ثالثهما؛ وهناك سواهم مثل مصطفى العدوي وياسر برهامي؛ وكلهم ممن يساهمون في تسرطن هذه الظاهرة الكوارثية السياسوعقدوية.

إن هذه النوعية من العقديين المتسيسين سلفوياً؛ يحكم خطابهم بجدارة ما يُسمى "فقه التقية" عندما يقفون في موقع المساءلة؛ خشية أن يحملوا في رقابهم أوزار ما روَّجوا له؛ وما استزرعوه في عقول المستلبين بدعوى حفاظهم على قداسة المقدس وتعالي المُنزَّل من السماء؛ ولأنهم وكلاء الله في الأرض والذين ـ كعلماء ـ يمتلكون صكوك الغفران والاستتابة والتكفير؛ فهم من يملكون القول الفصل في هذا الأمر.

*****

إن "الخطاب المروياتي المقدس" الذي يقدمه الحويني "خريج قسم اللغة الإسبانية بكلية الألسن" لا يختلف عن خطاب يعقوب "خريج دبلوم المعلمين" وحسان "خريج كلية الإعلام". إنه أيضاً يمتح اجتراراً من المجرى المروياتي نفسه والذي أخذ بتلابيب العقيدة لقرون طويلة؛ فيدرج هذا التيار نفسه فيما يُسمى "السلف الصالح". 

وهذا الاصطلاح المُهيمن على أدمغة المتلقين ولا يزال؛ هو اصطلاح سياسوي قلباً وقالباً. لأنه يرتبط بما يُسمى نسق "دولة الخلافة" القديم والذي يناور في مستهدفه بوظائفوية "الجهاد/ الغزو".  ويدمج بينهما دمجاً بنيوياً متلازماً؛ باعتباره سعياً في الأرض لنشر راية العقيدة وإدخال الناس الذين لم يصل إليهم التبليغ في الإسلام؛ وجمع الرزق بتلك القوة المتغلبة!!

وهذا التلازم القديم لم يدرك أهل التغني بالغزو والجهاد أنه فعل يمثل في حقيقته نسقاً مترجماً لدافعية جمع الثروة عبر الجزية المفروضة؛ فضلاً عن عوائد الاستعباد التي تترجم بأموال تمثل قيم بيع الأبدان في أسواق - حسب تفكير الحويني - منشأة للتبادل؛ في ضوء أن النمط الاقتصادوي المهيمن على العالم آنئذٍ كان النمط "ما قبل الإقطاعوي" والذي لم تكن الزراعة أو الصناعة تمثل نشاطاً انتاجوياً كثيفاً يمكن أن تكون له أسواق كبيرة؛ وإنما كان ذلك النمط الإنتاجوي يعتمد التبادل المحدود المقابل بالصاع والصاعين وما شابه.

لذلك كان الغزو (المغول والتتار أنموذجا) يمثل وسيلة انتزاع لما لدى الأقوام الأخرى من مقدرات وأصول لها المقابل الوازن في القيمة؛ وبالتالي فإن الجهاد/الغزو الإسلاموي جاءت حركته الزمانوية متتالية اقتصادويا ولكنها تتميز بالشعار العقائدوي بفعل امتلاك عوامل القوة العسكريتارية وتوظيفها في القيام  بنشر العقيدة وتعميمها.

لهذا كان العقل القائد/ المحرك لعملية الجهاد/ الغزو مستدعياً في حساباته الاستراتيجوية ميزانيات التقدير لتكلفة العمليات؛ وتسيير القوات التي تحتاج إلى نفقات الإعاشة ومقابل السيوف المهندة (الهندية المستوردة برحلتي الشتاء والصيف) والرماح وما شابه. وكذلك حوافز الدعم لتحمل أعباء الجهاد بالعوائد التي يتم توزيعها على المجاهدين وأبرزها العبيد والسبايا الذين وقعوا في الأسر. وهؤلاء تقدر قيمهم في موازين الثروة عبر الأسواق التي تنصب لبيعهم والمتاجرة بأبدانهم كقوة عمل واحتظاء( محظية) لدى الأسياد المشترين.

وهذا هو ما قاله أبو إسحاق الحويني في تسجيل شهير له منتشر في مواقع التواصل الاجتماعوي لأحد دروسه: ( سبب فقرنا ترك الجهاد؛ لو كل سنة نغزو بلدين ثلاثة فنأخذ أموالهم وأولادهم ونساءهم... )؛ ثم قام بالتنصل من فهم من نشروا ذلك التسجيل؛ مبدياً انزعاجه من ردود الأفعال الغاضبة التي أثارها.

*****

فماذا قال الحويني في هذا الخطاب المزري والمنفصل عن العصر وتطوراته الفقهوية؟:

- " نتكلم عن مصطلح الجهاد وأي معركة فيها غالب ومغلوب، إحنا إذا غلبنا ودخلنا على عدونا الكافر، شيء طبيعي حنفرض أحكام الإسلام على البلد التي دخلناها، أحكام الإسلام بتقول: إن كل الناس الموجودين بالبلد أصبحوا غنائم وسبايا، نساء، رجال، أطفال، أموال، دور، حقول، مزارع، كل دي بقت ملك الدولة الإسلامية، طيب الناس السبايا دول مصيرهم إيه في الشرع؟ مصيرهم إنهم كغنائم يوزعوا على المجاهدين، فهناك قانون كما في الحديث أن من لم يحضر الغزوة لا نصيب له من الغنيمة. معروف كده، ما حضرش الغزوة مالوش نصيب في الغنيمة. أنا دخلت على بلد وتعدادها مثلا نص مليون، نعمل ايه فـ النص مليون دول؟ قال لك المجاهدين نشوف عددهم كام؟ 100 ألف؟ ها؟ خلاص، يبقى كل واحد ياخد خمسة، كل واحد ياخد خمسة المسألة هتتنوع، تاخدلك اتنين رجالة واتنين ستات وعيل، أو العكس. ها.. ما هو لازم تتقسم.. جميل.. الناس دول، أول ما يحصل هذه المنظومة لابد أن يقابلها شيء يُسمى سوق النخاسة.. سوق النخاسة سوق لبيع العبيد والإماء والجواري والأطفال.. تمام .. كل راس من هذه الروس بقى له تمن. فأنا دلوقت عندي خمس روس، مش محتاج حد منهم ومعذور فـ قرشين، أعمل فيهم إيه؟ أعلق لهم المشنقة؟ وأتخلص منهم؟ولا أعمل إيه؟ قال لك لأ، تروح تبيعهم في السوق، خلاص، لازم علشان أبيعهم يكون فيه سوق، وهنبتدي نساوم، تشتري مني دي بكام؟ أو ده بكام؟ ده بتلتمية، لا خليهم تلتمية واربعتاشر، تلتمية وخمسين، ها اشتري، قبض التمن ويمشي. أنا عندي ذنوب الكفارة بتاعتها عتق رقبة، طيب أنا أجيب منين رقبة علشان أطلع من الذنب بتاعي؟ لازم أروح اشتري، وأقولها أنت حرة لوجه الله... ما عنديش "عتق رقبة" الصيام مقابل "عتق الرقبة" وهو حكم لم يُنْسَخ وهي أحكام ثابتة...". "والجوارى هم "ملك اليمين"... "تروح السوق تشتريها وتبقى كأنها زوجتك ولا محتاجة عقد ولا ولي ولا الكلام ده وده متفق عليه بين العلماء هؤلاء"!!

*****

إن إعادة التذكير بهذا الفعل الدنيوي الغزو/ الجهاد المرتبط بالعصور ما قبل الوسطى ملغوم بالمخاطر المخيفة التي استولدت نمطاً سياسوياً بشعاً (داعش) أنتجه العقل الماضوي السياسوي المتسلف بكل انفصالاته عن العصر ومتغيراته عبر (يعقوب وحسان والحويني وبرهامي... إلخ أنموذجاً)؛ وقد أعتمدت "فرق الدفاع" عن الدواعش لتبرير انحرافاتهم بضرورة استدعاء يعقوب وحسان للشهادة لأنهما قالا ما قد ساهم في تشكيل أفكار "دواعش خلية إمبابة"!!

ولعل النص الحرفي الذي جرى تفريغه لمحاضرة الحويني حول ما أسماه الجهاد والغزو يؤكد تمكن هذا الفكر المخيف من رؤوس المغرر بهم؛ والذين تجد أمثالهم جلَّسَاً في قاعات الدروس والوعظ والإرشاد قبل اندراج بعضهم في "تنظيمات العمل الجهادوي" الموسوم سياسوياً بـ "الإرهاب".

نمط "الجهاد القديم" كما شرحه أبو إسحق الحويني مستهدفه بخلاف التعريف بفقهه يعتمد:

- الغزو لبلاد الله خلق الله التي لم يدخل إليها الإسلام؟ والسؤال الراهن: هل يصلح هذا النمط في العصر الحديث؛ فيما يمكن الدعوة للحق أن تصل للعالم كله عبر الشبكات الإليكترونوية وموجات الإذاعة والتلفاز وجميعها يستخدمها شيوخ الغزو في نشر قناعاتهم الكهفوية!

- تطبيق دافعية المنفعة من الغزو بتشكيل ثروات الحصول على الأموال عبر أسواق يتم إنشاؤها لبيع العبيد والسبايا والأطفال من المجتمعات التي يجري غزوها؛ والتي سيكون مواطنوها جميعهم عبيدأ للغزاة المسلمين. والمؤكد أن (العقل الماضوي السياسوي الاقتصادوي للحويني أنموذجاً) سيقوم بإبتكار وإنشاء "البورصات" على سبيل المعاصرة إذا تحقق تطبيق الفقه القديم في العصر الحديث!!

- شرح فقهويات الغزو والجهاد من جديد سيحرض دافعية تنفيذه لعل وعسى للاستمتاع بوظائفوية الفوز بالسبايا الجميلات من ذوات الشعر الأصفر والبشرة البيضاء لِيَكُنَّ المحظيات في عالمنا الذكوروي المعاصر؛ وخاصة لمن يستطيع الشراء وهم الأغنياء والقادرون فقط.

- إن ممارسة التلاعب الفقهوي في الدعوة يتبدى فيما ذكره الحويني في تسجيلته بالربط المنقوض بين "عتق الرقبة" و"كفارة الذنوب" وتأكيده أن تلك الآية القرآنية لم يتم نسخها؛ وجرى علاجها بـ"صيام شهرين". 

وعدم نسخ الآية يعني لزوم حكمها واستمرار وجودها في رؤوس هؤلاء الدعاة الماضويين. لقد تجاهل أبو إسحق الحويني "القاعدة الفقهوية الأساس" التي تقول بـ "دوران الحكم مع العلة"؛ وما توفره من إِعْطَال تطبيق الحكم لافتقاد العلة. فلا مبرر هنا للتذكير بعدم نسخ حكم الكفارة بإعتاق الرقبة؛ لأن في ذلك الخطاب الحويني تغافل وتجاهل بالعمد لقاعدة "زمان نزول النص" و"أسباب النزول" و.. إلخ مما يقوم بتدريسه للجموع!!  

-  إن الربط المريب بتساؤل الحويني: "ذنوب الكفارة بتاعتها "عتق رقبة"؛ طيب أجيب منين رقبة... علشان أطلع من الذنب بتاعي؟" يوفر للمغيبين وغير المدركين مبررات اتباع نمط الخطاب نفسه بإعادة إحياء الجهاد بالغزو للفوز بثروة العبيد والسبايا. 

وعلى الرغم من تهافت دفوعات الحويني بالقول أن ما قاله انتُزِع من سياق ما ذكره قبل قرابة الـ 18 عاماً وهو يشرح "فقه الجهاد"؛ وأن محاضرته لم تكن تدعو إلى الرق والجواري، وإنما تؤكد "أن الإسلام جعل عتق الرقاب من القُرَب إلى الله وسبباً لدخول الجنة، لوجود كفارات مرهونة بعتق الرقاب"!!  

وهنا يتجاهل أبو إسحق الحويني "غائية الحكم "وارتباطه بالتوقيت المناسب لزمانه وحدوثه في الأصل نتيجة وجود فعل السبي والاستعباد والتجارة بأصوله قبل الإسلام؛ فتم تشريع الصيام شهرين علاجاً للتوافق المرحلي مع ظروف نزول النص القرآني في قضية مخصوصة علتها مؤقتة.

*****

إن "تكتيك التقية" الذي يستخدمه نمط الدعاة مثل الحويني يجعله يقع في "فخ التناقض"؛ إذ اعتبر الترويج لمقولاته القديمة استهدافاً له؛ لكن "المسكوت عنه"  في خطابه هو ذاته الذي ينكره والدليل في قوله: "هم يبحثوا على أي شيء من قديم .. يجيبولي محاضرة - مثلاً- من عشرين سنة، مش معنى عشرين سنة إن أنا غيَّرتُ كلامي، لأ. كلامي هو هو ما غيرتوش طالما بتكلم دين يبقى أنا كلامي ثابت... من تلاتين سنة تلاقي كلامي زي كلام النهاردة"!

فما كان ينبغي أن يؤكد عليه الحويني في خطابه هو نفي أن يكون الإسلام قد شرَّع للاستعباد والرق. ومع تقدير مأزق العقل الفقهوي القديم الذي لم يكن يقرأ توقعات التطور المستقبلوي بافتراضية العيش في زمن المتغيرات الحديثة؛ فالواجب على من يوسمون بالفقهاء المحدثين أن يتغافلوا عن الترويج لهذا النمط القديم المؤقت في الفعل؛ ويقومون بالترويج لتنافي الاستعباد والرق مع حقيقة وجوهر العقيدة الإسلامية؛ وتقدير قيام دلالة تخريجة الفقهاء/ العلماء القدامى برهنها مع وجود الحل المؤقت باستئجار العبد لفترة زمانية متفق عليها مع مالكه؛ وبعدها يمنحه الحرية والعتق كطريقة مناسبة لواقع اعتبار العبيد والسبايا أصولاً اقتصادوية.

إن تلك "التقية" في الوقت عينه تكشف تنصل الحويني من "القصدية الحاكمة" لشروحه في موضوعة "فقه الجهاد"؛ لأن عموم المتلقين لخطابه هم من نوعية المستسلمين لمقولاته "المقدسة" بتأثير وجدانهم الجمعوي المتأسلم. وهذا العقل الوجدانوي المغيب يعتبر صورة الإسلام بالغزو والجهاد هي الصورة المُثلى والتي تخلى عنها المسلمون استجابة للتزييف الذي فرضه الغرب الصيليبوي اليهودوي الكافر على الأمة المسلمة!! 

ولو عمل العقل الفقهوي في زماننا المعاصر - نوعية الحويني ويعقوب وحسان - على تجريم فعل الاستعباد والتبغيض والتكريه فيه؛ وإعلان رفضهم لاستمرار هذه النمطية الماضوية لما سبقهم الرئيس الأميركى إبراهام لينكولن بإعلان "تحرير العبيد" فى الولايات المتحدة في 22 سبتمبر/ أيلول 1862م، وفاز "هذا الكافر" من وجهة نظر المتكهفين بلقب شريف يقدره العالم كله  واسمه "محرر العبيد"!!

وهنا يكون ما قاله الحويني حول ما شاع من خطابه نوعاً من أنماط "خطاب التقية" الذي يجيد اللعب به كل دُعاة الماضوية المتسلفة في إطار طموحاتهم السياسوية باسترداد متوهم "دولة الخلافة" من مخزن التاريخ والذي جسده "حسن الساعاتي البناء" في مقولة "حلم أُستاذية العالم"!!

*****

لذلك فالاعتراف واجب بأن الصورة التي يعيد أبو إسحق الحويني تثبيتها في العقل الجمعوي الماضوي المتسلف مهما حاول نفي مقصود الإرسال لها فهي التي أنتجت نمط "داعش" بالمرجعيات المتخلفة التي يتغني الحويني بها؛ ولا يزال يجتر مروياتها ومقولاتها؛ من دون إخضاعها لجهود التفكيك لتبيان مدى مواءمتها لمتغيرات العصر. 

وعلى الرغم من أن هذا النسق الماضوي جرى قبره منذ قرون طويلة بانتفاء الطابع العقدوي نتيجة نشوء وتعمق إطار نظام الدولة المدنية الحديثة وهو ما يتفق مع مقولة الرسول الأكرم "أنتم أعلم/ أدرى بشؤون دنياكم". فإن قاعدة "إباحة الرق" قديماً كانت تتفق والمتعارف عليه من أنماط استخدمت مع المسلمين وغيرالمسلمين بما يتناسب والثقافة المهيمنة في الأرض في ظل الإباحة بالمثل؛ وهو ما سقطت علته راهناً؛ لتغير موازين القوة بين الأقوام والدول؛ وتبدل أساليب الغزو؛ وتطور الاقتصادات ودخولها مرحلة العوالم الافتراضوية بالعملات "البتكوين أنموذجا".

*****

إن ما يقوله الماضوي المتسلف أبو إسحاق الحويني - وأمثاله كثر - ليس كلاماً من المقدسات؛ فالفرق الأخرى تكشف تهافتات أقواله وتعاليه المدَّعى؛ ظناً احتكاره الكلام "في الحديث". وقد شاعت التسجيلات التي رفض في إحداها كلمات الدكتور يحي الجمل نائب رئيس الوزراء المصري - حينها -  بالقول:" ... صار محدثا.. الراجل اللي ميعرفش غير الفرنساوي صار يتكلم عن الحديث".

 فلماذا لم يسأل الحويني نفسه كخريج للغة الأسبانية عن مدى اختلاف الأمر بينهما؛ وهو نفسه الذي ارتبط فقط بعلم الحديث عبر مجالسة " ناصر الدين الألباني" والذي شجعه وليس تزكيته لمواصلة متابعة علم الحديث كما تؤكد ذلك الأقلام الدارسة لصورته!! 

*****

هذا هو معنى الكلام والذي يكشف مخاطر المناهج الكهفوية في النظر إلى مجالات تطبيق العقيدة وتنقلها بحذافيرها من زمان الصحراوات وظروفها وحاجاتها إلى زمان الانتقال للكواكب المحيطة؛ فهل سنوظف "فقه اقتصادات السبايا والعبيد" هُناك عندما نتصارع مع الكائنات التي تقيم فيها؟ لعل الداعية الحويني يجيب على هذا السؤال!!

                                                         "رأفت السويركي"