الثلاثاء، 31 أغسطس 2021

تعالوا لنقرأ... (4) عبد الفتاح كيليطو... "مُفَكِّك السرد العربي" وقراءة في العنونة!!

 تعالوا لنقرأ... (4)

عبد الفتاح كيليطو... "مُفَكِّك السرد العربي" وقراءة في العنونة!!

------------------------------------------------- 


إن كل جهد فكرانوي يمهد طريقاً ويُعبِّده للتبادل المعرفوي الخاص بالأدوات/ المناهج مع الآخر المهيمن أو المنافس ينبغي أن يحظى بالاهتمام في زمان المعاصرة وما بعد الحداثة، لأن ذلك التفاعل في حقيقته يدعم القدرات الذاتوية للعقل الجمعوي المتفكر للأمة، بما يساهم في تحقيق نقلة طفروية يحتاج إليها هذا العقل العربي والإسلامي المحتبس ولا يزال في كهوف الماضوية والمتحجر من الخطاب، لكي ينتقل هذا العقل للعيش مستوعبا ومستفيداً من متغيرات العصر وما يتلوه.


*****



إننا في احتياج الفاقة والمكابدة حتى إلى حد الإفراط في "تجنيس" المناهج التي ابتكرها ولا يزال ينتجها العقل الآخر؛ وإعادة توظيفها لإنتاج ما يتواءم مع حياتنا المعاصرة؛ لأننا كما نلهث ونستجلب السيارة والطائرة والصاروخ والتلفاز والهاتف و... و... إلخ لا غضاضة من أن ننفتح بالمطلق على المعطيات الفكرانية للعقل الآخر، مثلما فعل العقل العربي والإسلامي في عصور نهضته وما قبلها؛ بانكبابه على ترجمة وهضم معطيات منتج العقل اليونانوي والرومانوي، وترجمتها وحفظها ونقلها إلى أبناء عقل آنذاك من الزمان، ليستفيدوا منها في رحلة إعادة بناء الحضارة العربية والإسلامية؛ ويسلمونها وديعة ثمينة إلى العقول الأوروبية الأميركية لتنطلق في تأسيس الحضارة الحديثة بكل منتجها الهائل.


*****


الدافع لهذه الكتابة كان تذكير "فيس بوك" لي بتدوينة سابقة تدور حول الكاتب المغاربي عبد الفتاح كيليطو؛ والذي يُعَدُّ من منظوري إحدى درر عِقد المفكرين المغاربة المتميزين، من أمثال محمد عابد الجابري وعبد الله العروي، وطه عبد الرحمن ومحمد مفتاح ومهدي المنجرة، وغيرهم ممن لا تحضر أسماؤهم إلى الذاكرة راهناً.  وكليطو الحاصل على "دكتوراه الدولة من جامعة السوربون الجديدة" العام 1982، كان موضوعها:" السرد والأنساق الثقافية في مقامات الهمداني والحريري".


ولعل ما نشرة الصديق الدكتور مصطفى الغرافي في دراسته المتميزة بعنوان " البلاغة والإيديولوجيا - دراسة في أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة" قدم مقتبساً كتبه "عبد الفتاح كيليطو" فذكر في متنه: " لدي بعض التحفظ، في أن أعتبر نفسي كاتبا. وإذا لزم الأمر، فأنا مجرد ممارس لنشاط، مستعيداً بهذا الخصوص منظور رولان بارت. أما كاتب، فتبدو إلي مغالية في الادعاء، لأن إنتاجي الأدبي، ضعيف جداً".


لذلك وصف الدكتور الغرافي كيليطو بـ "الساحر عبد الفتاح كيليطو"؛ ما حفزني وأنا قارئ دؤوب لمشروع كيليطو با ستخدام منهج المقاربة عبر القراءة الدلالية للعنونة التي تحمل اسم كيليطو؛ مجيباً على التساؤل الذي أوحى ذلك به المقتبس الذي يقدم به كيليطو تقويما لمشروعه البارز من منظور الراصد الثقافوي العربي.


*****


إن القراءة الدلالية لعناوين إصدارات عبد الفتاح كيليطو، تكشف بما لا يدع مجالا للشك، عن أدواته في النقد والتفكيكوية، وتوقفوا أمام العناوين التالية:


-  "أبو العلاء أو متاهات القول"، "لسان آدم"، "العين والإبرة"، "لن تتكلم لغتي"، "الأدب والغرابة"... "الغائب دراسة في مقامة للحريري"... وتأملوا، فالحقل الدلالي لعناوين هذه الإصدارات: " العين، الأبرة، الكلام، اللغة، التكلم، الحكاية، التأويل، المتاهة، القول، لسان، آدم، الغائب..." يقود المتلقي، لمعرفة النشاط التفكيكوي لكيليطو.

- إن عناوين هذه الأعمال المميزة للكاتب الكبير وصاحب العقل النقدي المميز عبد الفتاح كيليطو، ألا تجعلنا نتمهل، ثم نتوقف في لحظة تأمل دارسة "فاعلة" لدلالة هذه "المنطوقات" المحددة إشهاراً على رؤوس كتب، حفر بها عبد الفتاح كيليطو أخاديد عميقة، في حقول دراسة السرد والنسق التعبيروي العربيين، بمبضع ماهر، وهو يشق ركام ومكدسات اللغة "الطبولية" التقليدية في كثير من جامعاتنا العربية - من الطبول - التي تعاملت مع هذه الكتب المميزة بأدوات الذهنوية المسطحة، والتي تفتش عن المحمول السطحوي الذي يعنُّ لها فور قراءتها المتعجلة من دون أدوات المناهج البنيوية والتفكيكوية التي اهتدى لها العقل الإنسانوي العميق، وهو يختار مبضع التشريح من جنس الجسد التعبيروي، للوصول إلى الإمساك بآليات الخطاب، وبنيته، ومحموله الدلالي. 


حتى وإن كان بعض المتكلسين فكرانياً يرفض مغامرات كيليطو النقدية، والتي تساندها ممارسة ومدارسه نقدية مجتهدة، وفق مناهج التفكيك والبنينة الحديثة وهو متمكن منها بقوة، فإن فعل التحفير يستخرج من اللُّقى الفكرانية ما يعجز المنقبون التقليديون بمناهجهم وأدواتهم القديمة في كشف "المسكوت عنه" في هذه النصوص العربية المهمة.


*****


إن المغامرات النقدية التي يقوم بها كيليطو في الموروث العربي، تستحق الاهتمام والمدارسة، والصبر عليها للوصول إلى مكنوناتها الثمينة في تجليات السرد والأنساق الثقافوية في أمهات الكتب العربية القائمة على السرديات الحكائية مثل "مقامات الحريري" والهمذاني.


ومن دون شك فإن مقتبس مقولة "كيليطو" حول تحفظه باعتبار نفسه كاتباً، ومعتبرا أنه ممارس لنشاط، يأتي في إطار إدراك المُنَقِّب الحقيقي في الأفكار، والذي يدرك أن ما هو غير مكشوف عنه، أكبر مما لقيه في رحلة تحفيره النقدية. 


لذلك يواصل عبد الفتاح كيليطو محاولاته الكشفوية الجديدة، بتواضع العلماء وإدراك الباحث الحقيقي بأن ما لم يصل إليه أكثر مما اجتهد في الوصول إليه بيده النقدية أي عقله. ولعل أحدث كتبه بعنوان " "في جوّ من الندم الفكري" والذي يكشف أيضاً منهجه في "العنونة" يجعله يؤكد أن عنوان مؤلفه الجديد من مقولة لفيلسوف العلوم الفرنسي غاستون باشلار لذلك: "إذا ما تحررنا من ماضي الأخطاء فإنَّنا نلفي الحقيقة في جو من الندم الفكري. والواقع أننا نعرف ضد معرفة سابقة، وبالقضاء على معارف سيئة البناء، وتخطي ما يعرقل، في الفكر ذاته، عملية التفكير".


*****


إن خطاب عبد الفتاح كيليطو الوصفوي التفكيكوي لجهده بأنه "مجرد ممارس لنشاط، مستعيداً بهذا الخصوص منظور رولان بارت" لا يقلل من أصالة ورزانة مشروعه الفكراني الذي اهتدى خلال بنائه بجهد رولان بارت؛ وهو يقرأ الخطاب السردوي العربي الموروث في كشف ذاتوي للمسكوت عنه.



 إنه كشف العلماء الأصلاء بثقتهم؛ ولعل المتعالمين الذين يجترون خطاب العقل الماضوي المتكلس يدركون فضيلة إعادة التفكر النقدي في الذات والخطاب، وهو ما فعله عبد الفتاح كيليطو "مُفَكِّك السرد العربي" في هذه الوقفة الذاتوية!! 




                                                  "رأفت السويركي"


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق