تفكيك العقل النخبوي الماضوي المُتسلِّف (64)
"تكفير الأقباط" هوس مرضي... سالم عبد الجليل نموذجاً!!
-------------------------------------------
هذه هي مصر الحقيقية التي احتضنت المسيح وأمه
يجمعها الهلال والصليب. وكل الصور من شبكة الانترنيت.
خريطة الوحدة الوطنية يحملها مصري وطني بالفطرة.
هل يمكننا راهناً إدراك خطورة فهم التأويل الماضوي المهيمن تاريخياً على النص القرآني؛ والذي يحكم القبض على عنق صحيح العقيدة حين يدَّعي انتماءه للسلف؛ بل ويمد ادعاءه الارتباط علائقياً بالرسول الأكرم "ص"، بمعزل عن الموقفية السياسوية الحاكمة لذلك التأويل في زمنه؛ وقد كان بعيدا عن زمن وجود الرسول فاعلاً وقائلاً؟!
فمنذ أن طرح أقطاب ذلك الاتجاه خطابهم الرواياتي الحاف بالقرآن الكريم، الذي اصطنعوه قبل قرون في إطار ظروف سياسوية معقدة ابنة وقتها تتعلق بالخلافة والولاية وصراعاتهم على الملك والحكم، لا يزال هذا الخطاب مهيمناً سياسوياً أيضاً ولا يتغير؛ بل ولا يُسمح بالاقتراب منه عقلانياً؛ ذلك لأن منتجيه اختلسوا من النص السماوي قداسته، وزاحموه في منزلة الجلال؛ وقولبوا مروياتهم بنسبتها إلى الرسول "ص" من قاعدة الآية ( وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ (4) - النجم. وهي الخاصة تحديدا بالقران الكريم.
وبذلك الفعل جعلوا أقوال البشر المروية التي تناقلوها بعنعناتها في منزلة القول المقدس؛ الموصوف خطابه بـ (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ ۚ قَلِيلًا مَّا تُؤْمِنُونَ) - الحاقة 41؛ أي ما هو بقول بشر؛ لأن القول السماوي المحفوظ بعهد السماء (لَّا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) – فصلت 42 ؛ فيما القول البشري المُجمَّع من الأفواه بعد قرنين من وفاة الرسول "ص" منسوب باختلاف كلمات متونه؛ وقد ادَّعوا قوله وتناقلوه راوياً عن راوٍ... وحين أدركوا احتمالية أن يحيط به عوار التكذيب والإضعاف... إلخ جلَّسوا له قواعد تتعلق بالحكم على الرواة أكثر مما تهتم بمحمولات المتون؛ وهنا مربط الفرس، فالرجال قالوها واختفوا، بينما تبقى المتون الملغومة حاكمة وفعالة في صياغة كل العقول التابعة بامتداد العصور!
ولو يعلمون، فإن هذه القواعد التي أوجدوها لصناعة نص مواز للقرآن الكريم هي في الوقت ذاته تكشف "المسكوت عنه" في هذه المسألة، وتنسف القداسة التي ادعوها للمرويات البشرية، لأن بها المكذوب والضعيف وما يتصادم وينافي الأخلاق الرسولية المحمدية؛ بسماحتها وإنسانيتها الفذة؛ التي قدرت وحمت حقوق وقناعات أصحاب الديانات الأخرى التي كانت تعيش في مجتمعي المدينة ومكة من منظور العهد والاتفاق حسب قاعدة {لكم دينكم ولي دين}؟!
*****
إن هذا الأمر يطرح إشكالية كبرى؛ ستبقى متجددة الحدوث طالما أن ذلك القول الماضوي "المُقدَّس" الذي كان نتاج المناخ التاريخاني السياسوي آنذاك – هو قولٌ في حقيقته مبنيٌ بأغلبيته على وقائع انقضت – ما يعني انقضاء علة العديد منها؛ من دون أن يُعيد ذلك العقل الماضوي المتسلف والمتحجر قراءة ذاته قراءة بنيوية متجددة؛ تناسب كل عصر وفق المتغيرات الحادثة ليطور خطابه!!
ونتيجة لهيمنة حضور هذا الخطاب العقدي الماضوي تبدو وستظل تبدو وتنشأ قضايا خلافية عميقة؛ تتصادم وطبيعة الواقع المستجد، وموازين القوى واستراتيجياتها الكوكبية، والمنجزات الهائلة التي حققها العقل الإنساني إجمالاً بعيداً عن ارتباطاته العقدية؛ وهو يحقق معنى النص القرآني الكريم (عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) – العلق 5. ودلالة عموم اللفظ في كلمة "الإنسان" هنا تكفي لكي يتعظ ماضيو الفكر بمعنى ودلالة الكشوف الهائلة التي ييسر الله تعالى اكتشافها للإنسان مهما كان موقفه العقدي؛ مؤمنا؛ كافراً!!
ولعل ما يطرحه وسيظل يطرحه ماضيو التفكير من قضايا مثيرة في غرابتها تكشف انعزالية هؤلاء المطلقة عن معنى وحقائق الحياة؛ إذ لا هاجس لهذه النوعية سوى تصنيف البشر: هذا كافر وهذا مؤمن؛ وهذا مسلم وذاك مسيحي؛ هذا سيدخل الجنة وذلك ستكون النار مستقراً له؛ هذا سيكون قبره حفرة من حفر جهنم، وذاك سيكون قبره روضة من رياض الجنة.... إلخ من هذه البضاعة!!
*****
سالم عبد الجليل تكشفه سياسويا قناعاته الظاهرية وفهمه المغلوط لمعنى اصطلاح الإسلام.
إن ما تورط في قوله من يوصف برجل الدين المصري الأزهري سالم عبد الجليل مؤخراً من أن "عقيدة المسيحيين فاسدة"؛ وقبلها تحريم الاحتفال بالمناسبة الاجتماعية التي اصطلح على تسميتها بـ "عيد الأم" وغيرها انطلاقاً من هوس التكفير المصابة به هذه النوعية ممن يصفون أنفسهم وفق الاصطلاح الماضوي بالعلماء يمثل ظاهرة ثقافوية مرضية عُصابية مثيرة للاهتمام.
لقد ذكر بثقة كما قالها الكثيرون من أمثاله أن المتدينين بالمسيحية من الأفضل لهم التوبة والإيمان بالإسلام قبل أن يأتيهم الموت؛ حيث لن تقبل توبتهم قبل الموت مباشرة؛ وأخذ يسوق من الآيات القرآنية ما يدعم حكمه التكفيري بفساد العقيدة المسيحية.
وحين اشتعلت الساحتان الإعلامية والاجتماعية بردود الأفعال الغاضبة من أقواله؛ وتوقيت طرحه لما يثير الفتن الاجتماعية في تلك المرحلة السياسية التي تعد إثارة الفتنة الطائفية بين مكوني الشعب المصري من ثوابتها الاستخباراتية؛ عبر توظيف التكوينات العقدية لتفجير كنائسهم كما حدث، والتظاهر ضد أماكن تجمعاتهم؛ ومحاصرتهم إعلامويا بالتكفير. لذلك مع حجم رد الفعل المضاد الكبير لتصريحاته غير المسؤولة في توقيتها اعتذر عما أحدثه من جدل لم يتوقع حجمه؛ ولكنه قال بما يدعو للدهشة: "هذه العقيدة أومن بها، ومستعد أن أدفع روحي ثمناً لهذا الاعتقاد، لكنني أرفض إباحة الدم والعرض".
*****
المغيبون في دهاليز الماضي يكشفون لا دينيتهم ولا عقلانيتهم
لانهم فهموا الاسلام عقيدة الحق من منظور سياسوي منحدر.
إن العقلية التي يندرج سالم عبد الجليل في حقلها، هي حقل العقل النخبوي الماضوي المتسلف بكل ممارساته السياسوية المختبئة؛ على الرغم من أنها تنفي قيامها بفعل سياسوي يقوم على قاعدة ممارسة التكفير لمن يخالفه في العقيدة.
وتعتمد هذه العقلية أيضا على نمطية شائعة في الحقل العقدي وفق ممارسة القراءة الظاهرية للنصوص المقدسة؛ وقد يبدو شكلياً أنها ترفض التأويل للنصوص كسلاح مفاهيمي دال على ديمومة صلاحية العقيدة إلى حين قيام الساعة؛ غير أنها بذاتها لا تدري أنها حتى بقراءتها الظاهرية تقع في أسر منهج تأويل جَمُدَ تاريخياً عند المعنى الظاهر على سطح النص؛ واكتفى بصفة عامة بالدلالة الظاهرية للنصوص؛ وهذه الدلالة الظاهرية نفسها قامت على تأويل ذات تاريخ للمعنى؛ لا يغوص في باطن النصوص ويستخرج دررها الكامنة التي تثبت فرادة ولا بشرية الخطاب في تكليفه!!
لقد مارس رجل الدين المصري سالم عبد الجليل القراءة الأقرب إلى الظاهرية، أو بمعنى أصوب أعاد التكرار النمطي الحرفي لما رسخه العقل العقدي الماضوي منذ قرون من مقولات تفسيرية للنص القرآني الكريم؛ فما أشهره في برنامجه التلفازي لم يكن جديداً أو حاملاً اجتهاداً تأويلياً؛ بل كان منتمياً لاصطلاح الأخذ بظاهر القرآن والقول من صحيح السنة التزاماً بحرفية النص، لذلك يكون خطابه الدعوي استدعاءً لما هو مبثوث في بطون الصحائف منذ قرون؛ من دون تجديد أو تأويل باحث عن المعنى المناسب مع تغيرات الواقع البنيوية.
*****
سالم عبد الجليل أعاد كموظف يعمل في الحقل الدعوي اجترار وتكرار ما حفظه على سبيل المثال من ابن كثير وسواه من أصحاب تفاسير أهل السنة والجماعة المهيمنة على عقول المسلمين؛ وجرى احتضانها رسمياً في إطار الإشكالات السياسوية بين السلطة آنذاك والفرق العقدية وهي كثيرة؛ وكل منها كانت تقوم بتوظيف النص المقدس لترسيخ حضورها المهيمن!
يأتي سالم عبد الجليل وكيل وزارة الأوقاف المصري الأسبق لشؤون الدعوة؛ ليعيد استهلاك ما ثَقُلَتْ به أوراق الكتب القديمة من دون مراعاة لمقتضيات الأحوال ومبررات الضرورة؛ كأنه معلم في مدرسة للتعليم الابتدائي يعيش أسير النهج الوظيفي من دون إبداع التزاماً بالمنهج الدراسي الموضوع؛ ولم يقدم التصورات المختلفة في مجال القضية التي يهتم بها في إطار النص القرآني.
ولو فعل سالم عبد الجليل ما يفعله العلماء الذين يعرفهم من أهل الفقه المقارن؛ وقدم عرضاً موضوعياً للقراءات المختلفة الحافة بالنص في مجال القضية التي يهتم بها لحقق مكسبين: الأول إثراء المعرفة بهذا النص الإعجازي؛ والثاني يحل الإشكالات التي قد تنشأ من الوقوع في أسر تصور واحد للقضايا.
وهنا على سبيل المثال في قضية الإشكالية المثارة حول ما تورط بقوله بفساد عقيدة المسيحيين ووصفهم بالكفر؛ وأن الدين عند الله هو الإسلام؛ يبدو ما يعني ظاهريا نفي كافة الأديان والعقائد الإبراهيمية؛ وعدم إدراك دلالة القول القرآني البيِّن: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) – المائدة82 .
ولكان كذلك أدرك أيضاً اتساع رحابة القول القرآني؛ وأهمية تجاوز ظاهرية القراءة التي مارسها بثقة مفرطة؛ حيث لم يضع عقله في شمول مدلول اصطلاح الإسلام في الخطاب القرآني، ولم يُحِطْ بكيمياء التعبير في ذلك المدلول غير المقصور على ختام الرسالات فقط.
الجليل شيخ الأزهر الدكتور احمد الطيب والبابا الراحل شنودة، هذه هي الإيمانية الحقيقية.
وإحقاقاً للحق ينبغي ذكر ما بثته بعض القنوات الفضائية من قول العالم الجليل والإمام الأكبر شيخ الجامع الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب في هذه القضية بقوله الذي نشرته المواقع الإلكترونية "... إن كلمة الإسلام المذكورة في قوله تعالى " إن الدين عند الله الإسلام"، تعني الدين الإلهي، وسيدنا إبراهيم عليه السلام بشَّر بالإسلام، " ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك "، وسيدنا نوح قال: " وأمرت أن أكون من المسلمين"، وسيدنا موسى قال نفس الشيء، حتى سيدنا عيسى عليه السلام " فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ"، كل الأنبياء جاءوا بدين الإسلام وقالوا نحن مسلمون لله". فهل علم سالم عبد الجليل معنى هذا القول، وأدرك كيف تكون القراءة الحقيقية للنص القرآني؟!
*****
الروح المصرية الأصيلة والمتدينة بالفطرة
تحمل شعار الوحدة الوطنية بعيدا عن المغيبين سياسويا.
لو كان الشيخ سالم عبد الجليل تجاوز ظاهرية الأقوال التي يخضع لها عقله؛ وما يترتب عليها من أحكام تقليدية تمثل هوساً مرضياً علامته التكفير؛ ما وقع في الفخ السياسوي التاريخي لمنهجه الذي استسلم له بالاتكاء التفسيري إلى مصدر واحد حصري؛ وضعه في صورة رجل دين غير معتدل ويخدم أجندة معينة؛ بينما هو كما يقال غير ذلك! وكان قام بالربط بين اتساع شمولية اصطلاح الإسلام الإبراهيمي الشامل للديانات الثلاثة وما ذكره النص القرآني الكريم عن مودة النصارى للمؤمنين... لكنه هو هكذا العقل الماضوي المتسلف في تجلياته السياسوية يقود نخبته الى ما لا ينبغي!!
"رأفت السويركي"
---------------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق