تفكيك العقل النخبوي السياسوي المتأدلج
هذه النخبة ميؤوس منها... لأن" العلة في الملة"!!
------------------------------------
** مقدمة ضرورية:
ذكرني فيس بوك بهذه التدوينة التي كتبتها قبل عام وكأنها ابنة اللحظة الراهنة لذلك فضلت اعادة تسجيلها هنا لانها تتولى تفكيك نوعية اخرى من نوعيات العقل النخبوي، واقصد بها النوعية التي تاخد الأيديولوجيا بخناق عقلها من دون التفكر في أساساتها ومدى تناسبها مع خصوصيات الواقع.
*****
تبدو صورة المجتمع المصري هذه الأيام، أمام المراقب من خارج الصندوق؛ أشبه بالمجتمع المماثل لساحة السوق الشعبية، التي تتلاطم فيها أصوات الباعة، وتتصادم؛ إذ كل يريد أن يروج لبضاعته؛ فيعلو صوته أكثر من الآخرين، حسب طريقة من يحقق أكبر جلبة يمكن أن يختطف أسماع المتجولين في السوق.
والمؤسف أن الجميع يعرض بضاعته، عسى أن يقبل عليه المتسوقون، فيما البضاعة للأسف هي لحم الوطن؛ الذي صار يتناهشه المتنافسون على بيع عرضه؛ والتشهير بسمعته في سوق النخاسة السياسية؛ التي أقامتها شرائح محددة من النخبة، في برامج "التوك شو"، وفي "بكائيات المنتمين إلى بعض التيارات الأيديولوجية؛ وما يسمى جمعيات المجتمع المدني؛ ذات التمويل الخارجي، فضلا عن الجماعات العقدية المتسيسة؛ وكلهم يولولون على الحرية المتوهمة المفقودة، ويرفعون نبرة الصراخ؛ مما وصف بأفعال أجهزة الدولة القمعية كما يصفونها في غير محل ذلك الوصف، بسبب الظروف الحرجة المحيطة بالوطن راهنا.
*****
ولا يجد المراقب المحايد توصيفا لهذه الزمرة النخبوية أبلغ من عبارة " نخبة ميؤوس منها؛ لأن العلة تكمن في الملة"؛ ولكي لا يفهم البعض المقصود بكلمة "الملة" في غير محلها، فإنني أقصد بها المعنى الذي اعتمدته مراجع اللغة؛ وحددها أساطينها، فالملة في اللغة هي : "السنة والطريقة"، وحسب إجماع البغوي والزجاج، وابن عطية والثعالبي تعني كلمة الملة؛ في توسيع شامل جامع لمعانيها "مجموع عقائد وأعمال يلتزمها طائفة من الناس، ويداومون على فعلها مدة طويلة، تكون جامعة لهم، كطريقة يتبعونها".
*****
إن كثيرا من المصريين الذين يعيشون خارج مصر/ الوطن، يجذعون مما يتابعونه من أخبار بلدهم الصادرة من الداخل؛ فهم يعيشون خارج الوطن؛ لكن الوطن يسكن داخلهم؛ فالمصري يمشي حاملا مصره معه؛ أينما حل أو استقر، لذلك فهم ينزعجون من خطابات الكثير من نخب الداخل؛ والتي لا تشعر بحجم الألم الذي تسببه لهم تلك الخطابات المنفلتة؛ إدراكا لخطورة الأوضاع التي تحيط بمصر؛ منذ ما يسمى وهما أحداث الربيع العربي؛ التي تستهدف تمزيقها أو تفكيك أوصالها؛ وفق نماذج سيناريوهات التفتيت الموضوعة للمنطقة، ولا ينكر هذه السيناريوهات إلا مغيب العقل السياسي، ولا يقلل من خطرها إلا سادر في عشوائية التفكير، ولا ينفي توقعاتها إلا مضيع في أرض الضلالة الفكرية.
*****
وإذا كانت أصوات احتجاجات العمال والفلاحين في مصر؛ قد خفتت مؤخرا مع توجه الدولة الجديدة بالإعلان عن مشروعات الريف المصري الجديد؛ وحركة شق الطرق، التي تشمل شبكتها الجديدة عموم الوطن، وبرامج إنشاء محاور التنمية، وإقامة المدن الجديدة، وأقاليم التخصص الاقتصادي التي يعلن عنها، وكلها تجهز الوطن المتضعضع منذ قرابة العقود الأربعة؛ لحركة ارتقاء اقتصادي مشهودة، ووسط هذه الظواهر المشجعة، يعلو صوت بعض تشكيلات النخب الغاضبة بالصراخ من جديد، بل وتحاول هذه الشريحة الزاعقة أن تخطف الأنظار، إلى أبعد ما يكون عن الاستقرار المستهدف اجتماعيا ووطنيا.
فماذا تريد هذه النخبة الغاضبة والناقمة، والمتمسكة برفع وتيرة ضجيجها الكذوب؟
** هل تحتج هذه النخب في الأساس وتعلن احتجاجها الآن غضبا من تردي الخدمات الطبية في مستشفيات؛ جرى إهمالها طيلة نصف القرن من الزمن الساداتي والمباركي؛ وأين كانت هذه النخب، من هذه القضية قديما؟!
** هل تحتج هذه النخب، وتعلن احتجاجها الآن، نقمة من انهيار المستوى التعليمي في مدارس وجامعات مصر، طيلة نصف القرن من الزمن الساداتي المباركي وأين كانت هذه النخب، من هذه القضية قديما؟
** هل تحتج هذه النخب، وتعلن احتجاجها الآن انتقاما من شيوع الأمية الألفبائية؛ والأمية الثقافية طيلة نصف القرن، بدءا من الزمن الساداتي المباركي، الذي تحولت فيه الحياة التعليمية؛ وسيلة ارتزاق لطائفة المعلمين الطفيليين، والتي تشكلت ضمن قانون تشكل نمط طوائف الرأسمالية الطفيلية؛ عبر نشوء ظاهرة الدروس الخصوصية، بديلا لمجانية التعليم؟!
** هل تحتج هذه النخب، وتعلن احتجاجها الآن نكاية؛ بسبب تحول الملايين من الموظفين إلى مقاعد التعطل؛ جلوسا على المقاهي وفي"غرز الكيف "، بعد بيع المصانع؛ وتناقص فرص العمل ووصولها إلى درجة الندرة، ولماذا لم ترفع هذه النخب صوتها احتجاجا؛ منذ عقود بناء على ما كشفته لها مناهجها الإيديولوجية، من فضح لنمط التحولات الاقتصادية؛ وتوليد الطبقة الرأسمالية الطفيلية؟!
إن كل تلك الأسئلة الكاشفة؛ للأكذوبة الوجودية لهذه النخبة المثرثرة عديدة، بما يفضح ادعاءها السياسي، وتركيزها على ممارسة عنصر الكلام الآن بديلا عن ممارسة العمل الاجتماعي، لأنها نخب تفتقد العمق الاجتماعي الأصيل؛ وكانت صامتة منذ عقود تلبية لانتهازيتها السياسية، وتنخلع الآن من جذورها الطبقية؛ لتؤدي راهنا وظائف تشهيرية، تجاه عملية ترسيخ تماسك بنية الدولة؛ التي كانت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار والتفتت، لو أطلق العنان للتيار العقدي المتسيس؛ المعروف بالإخوان المسلمين، ولم تتم إزاحته؛ إلا بتدخل الجيش الوطني؛ والتفاف الجماهير حول هذا الجيش.
ولا يتوقف الأمر عند ذلك الحد؛ فهناك أسئلة كاشفة أخرى للمشروع الحقيقي لهذه النخب؛ التي تعيش على هامش الجهد الكمي الوطني؛ وكل إنتاجها ليس سوى الصراخ؛ والاستعداء على نظام الدولة، الذي يكرهونه إيديولوجيا؛ من أجل عيون وهم (حكم الطبقة)؛ أو (دولة العقيدة).
لذلك فمن الأسئلة الفارقة في هذا السياق ما تكشف علة الملة التي تنتهجها هذه النخب كما يلي;
** هل انتظمت هذه النخب؛ وهي تنتمي إلى تشكيلات حزبية الآن في برامج عمل اجتماعية حقيقية مغايرة للكلام؛ لمحو الأمية على سبيل المثال، أو نظمت حملات رعاية طبية لقرى الفقراء، أو شكلت قوافل للتوعية السياسية في المجتمع، و...، و... الخ.؟!
** لم تفعل تلك النخب الغارقة في الوهم الإيديولوجي، أية خطوة مغايرة، لفعل الكلام وفقط، ورفعت لافتات بشعارات الحرية والديموقراطية، وتداول السلطة، والصراخ بعبارات "سقوط حكم العسكر"، والتنديد بالدولة الأمنية، والمطالبة في أحدث الصور بإقالة وزير الداخلية.
** والملاحظ أن تلك النخب التي تعيش وهما تاريخيا؛ تطور مؤخرا من ملاءتها وملتها الرديئة؛ سعيا لتشكيل جبهة ضغط سياسية جديدة؛ عبر محاولة تغيير هوية النقابات المهنية؛ وإدراجها عنوة في سياق نشاط سياسي معلن، يخرج بها عن دورها الاجتماعي الخاص برعاية أعضائها؛ والارتقاء بمستواهم المهني، إلى آداء دور سياسي حزبي مباشر؛ ومغاير لالتزامها المهني الخاص بالارتقاء بمستوى الوظيفة؛ والمستوى الحياتي للأعضاء، ما يحول هيكليا مهمة النقابات لتكون أشبه بالتكوينات الحزبية، وهذا التوجه القسري يخرج النقابات المهنية عن طبيعتها الفئوية، ويضر بها اجتماعيا، وقد يصيبها بالتفكك؛ نتيجة اختلاف المشارب السياسية؛ لجموع الأعضاء داخل كل نقابة مهنية.
إن المحاولة الجديدة في الواقع المصري لتشكيل حائط نقابي متسيس جامع مستدرج للنقابات، نقابة تلو أخرى، يزرع داخلها بذرة التناحر المستقبلي، في ضوء أن هذه النقابات في الأساس غير منشغلة بممارسة العمل النقابي سياسيا؛ إلا عبر اختراقها، كما حدث ذلك قبلا من التنظيم العقدي المتسيس" الإخوان المسلمين، الذي اخترق بمباركة السادات ومبارك نقابات المهندسين، والأطباء، والمعلمين، وحاول مع نقابة الصحافيين وفشل تاريخيا، لأنها نقابة جامعة لكل التيارات، وهوية النقيب والمجلس العقدية لا تصبغ صورة هذه النقابة الجمعية، لكل الأطياف داخلها.
*****
والملاحظة الجديرة بالاهتمام أن "ملة هذه النخب"؛ لا تقدم على الرغم من ضجيجها أية برامج مدروسة، لتطوير الواقع أو تغييره، فلا تسمع منها سوى ضجيج العبارات المنزوعة الدسم من البرامج التنفيذية:
1 – فهذه النخب؛ تتحدث عن تداول السلطة، وهي تفتقد آليات هذا التداول؛ نتيجة فقدان تكوين الأحزاب القوية، ببرامجها والتي يمكن أن تجمع الجماهير حولها، ولا ترى الآن من هذه الأحزاب سوى كل هش ومحدود العضوية، والمتشابه برامجيا مع غيره من الأحزاب.
2 – وهذه النخب تتحدث عن مدنية الدولة، وكأن مصر يديرها الآن مجلس عسكري مهيمن؛ فيما تشكيل مجالس الوزراء تتشكل أغلبيتها من وزراء العناصر المدنية؛ ومحافظون مدنيون باستثناء المحافظات ذات الخطورة الحدودية؛ فضلا عن أن هذه الدولة يوجد بها دستور؛ حاز على إجماع الشعب، وبرلمان مستقل؛ وقضاء لا يخضع لأية سلطة سواه؛ وكذلك إعلام لا تحده حدود أو ضوابط، يقول ما يقول؛ ويكتب ما يريد؛ حتى وإن كان مضادا للمصالح الاستراتيجية للوطن.
3 – وهذه النخب تتحدث عن الحرية، وتتناسى أن القضاء المستقل؛ صار الحكم الأوحد؛ والذي تعبر كل القضايا من خلاله بعد مرورها بكل درجاته، فضلا عن أن الصحف والقنوات الفضائية، تواصل تجاوزاتها في حق الدولة ليل نهار؛ ولم يتم إغلاق أية صحيفة، أو قناة تغرد خارج السرب الرسمي.
4 – وتتحدث هذه النخب، عن ضرورة خروج الجيش الوطني المصري؛ من آداء دوره التنموي في الداخل، من دون الإشارة إلى كمية الفساد المخيفة؛ التي خلقتها هيمنة الرأسمالية الطفيلية في مصر، خلال العهدين الساداتي والمباركي، والتي جعلت الدولة تحتل المراتب المتقدمة في مؤشرات الفساد. وما التزام هذه المؤسسة العسكرية الوطنية، بالدور التنموي الداخلي المؤقت، إلا خطوة لإحداث التغيير النظيف على الأرض؛ بعد تغول عمليات الإفساد الاجتماعي.
5 – إن تناسي هذه النخب في ملتها الخطابية النمطية المملة لقضايا الاقتصاد والتنمية، يعكس فقرها الفكري الفادح؛ وتهافتها وسطحيتها؛ حين النظر إلى المشكلة المصرية. وكم يشتاق العقل المصري الناقد لقراءة تفاصيل، أو حتى خطوط مشروع وطني؛ يعكس تصور هذه النخبة، في التنمية والتعليم؛ والتعبير والدفاع، والإدارة ونظام الحكم، ليكون هذا التصور جامعا لقبول وعقول المصريين. للأسف كل هذا مفقود؛ مفقود؛ مفقود؛ يا نخب الثرثرة والكلام.
*****
ومع تناقص؛ أو خفوت حضور أشكال الضوضاء الاحتجاجية الاجتماعية السابقة من العمال والموظفين؛ وتأجيلها إلى حين، بدأت الدولة الإعلان، عن برامج التصنيع والاستزراع؛ وإقامة المدن والتجمعات الجديدة؛ الصناعية والسكانية؛ وشبكة الطرق العملاقة، لذلك فإن الأمل يحدو الناس ببدء مشاهدة النتائج على الأرض.
فقد بدأت الدولة تتفرغ بجيشها العظيم، لتحقيق الأمن والأمان حول الحدود الملتهبة، لمنع تمدد العمليات الإرهابية إلى داخل الوطن؛ وكذلك شرطتها الجديدة التي تحاول حماية الداخل الوطني؛ ويسقط لها ضحايا؛ وصرف النظر عن نمط الممارسات الفردية غير المقبولة؛ التي تحدث من بعض عناصرها؛ فإن الشرطة الجديدة تحاول في المرحلة الراهنة، تقويض مخططات الإرهاب النائم في الداخل، والناشط في الخارج، وأيضا تقديم صورة جديدة؛ تعكس تحولها المواكب لمستجدات ثقافة حقوق الإنسان.
*****
إن مواصلة هذه النخب ممارسة خطاب الصراخ نفسه؛ المضاد بكثافة لوزارة الداخلية المصرية؛ والإصرار على ذلك خلال الأشهر الماضية؛ يأتي في إطار ملة هذه النخب؛ بحصر عداواتها التقليدية؛ في الجهاز الأمني الوطني؛ بهدف كسره وتحطيمه؛ فضلا عن الاستمرار في اجترار منظومة الأقوال التي لا يملون من تكرارها؛ الأمر الذي يجعل من حق الجميع القول أن هذه النخبة ميؤوس منها... لأن" العلة في الملة!!
"رافت السويركي"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق