تفكيك العقل النخبوي العقدي المُتَأَخْوِن (66 )
حين يُجَادِلُكَ "مُتَأَخْوِنٌ"... تأكَّد أنه سَيهْرُبُ وأصابِعُهُ في أُذُنيه!!
-----------------------------------------------
-----------------------------------------------
صور تعبيرية من شبكة الانترنيت
أتاح لي فضاء "فيس بوك" خوض تجربة غنية في خبراتها، على الرغم من قناعتي باعتبارها عبثاً وتبديداً في الوقت؛ حين يقتحم فضاءك شخص وهو في حالة استفزاز مما تكتبه ليجادلك دفاعاً عن قناعاته المغلقة؛ وتكتشف أنه متأخون بالعضوية في الجماعة؛ أو بالتبعية لطروحات التنظيم المتأخون أو بالهوى المتأخون والذي ينضح من تعبيراته!!
ولأنني أحترم الاختيارات لكل شخص باعتبارها حقا إنسانيا، فلا أسعى إلى غلق باب المحاورة/ المجادلة مع من يرغب في خوض غمارها شريطة توافر آليات الاحترام؛ حيث ألتزم باعتماد قاعدتي "الحُجَّةُ مقابل الحُجَّة"؛ والبيِّنة على من ادَّعى"... بهدف استثمار هذا الفضاء الافتراضي فيما يُفيدُ، ويُغني العقل لمن شاء أن يستفيد وكذلك يُفيد.
ويشهد جداري العديد من هذه النوعيات الحوارية؛ التي يفرضها عليك متأخون لتخوض عمليات الجدال معه؛ وفي أغلبية المرَّات بعد أن يرهقك باستخدام تكتيك القفز على أفرع الشجرة، لا تنتهي المجادلة بالاتفاق أو التوافق والتقدير أو احترام القناعات المغايرة؛ فتراه يهرب من ساحة الجدال على عَجَلٍ وكأنه يضع أصابعه في أذنيه!!
*****
إن تجربة المجادلة مع العقل النخبوي المتأخون المغلق في حالات تشكله المختلفة جديرة بالتفكيك؛ إذ تعطي نتائج دالة على طبيعة هذا العقل النمطي المُقوْلب؛ وترسم ملامح نمط تربيته وتأهيله، أو إعداده في سراديب الجماعة ليكون متأخوناً.
والأمر يقتضي من الاختصاصيين في علم النفس السياسي أن يخصصوا ضمن حقول بحثهم أطاريح تهتم بدراسة نمط الشخصية المتأخونة لتكون أحد روافد إصلاح الخطاب الديني.
*****
إن الثابت اليقيني المهيمن على العقل المتأخون يتركز في تصلبه الدِيماغُوجِي أو الغَوْغَائِيّ بأنه العقل الوحيد الصائب الذي يسير على النهج السليم في العقيدة والسياسة والثقافة والاجتماع؛ اتكاءً بإقحام نفسه في مربع القداسة الدينية؛ وأنه بمفرده ينطق بالحق معتمداً على العقلية الإتباعية المقننة تاريخياً؛ والتي تحظى بقناعة جموع العامة من غير أعضاء الجماعة، والذين يرتبطون بالعقيدة عاطفياً من دون إعمال العقل البرهاني في أي خطاب سياسوي يتعرضون له.
وهذا التصلب "الفكراني" / الإيديولوجي الفاضح يُعطِّل أدوات العقل المتأخون عن قبول غير ما نشأ عليه من أفكار وضعها حسن البناء المؤسس الأول، ومن تبعه من منظري الجماعة الباقين على العهد الأول، و"قسم البيعة والولاء": "... أبايعك بعهد الله وميثاقه على أن أكون جنديًا مخلصًا في جماعة الإخوان المسلمين، وعليَّ أن أسمع وأطيع..."!!
وتفكيك هذا النص الإذعاني يكشف حضور حالة إطلاقية الأمر والطاعة الجبرية بالنسبة للعضو؛ بما يماثل الانسحاقية وعدم التردد في القبول، أو مراودته الشعور بالشك، وهو ما يمنع العضو المتأخون من المراجعة في الأمر؛ ليس عليه سوى الاذعان المطلق. إنها النمطية العسكرية المحفلية التي تفرضها الجماعة باطنياً على منتسبيها، وتلزمهم وجودياً بها؛ وهذا ما أكدته "رسالة التعاليم" من رسائل الإمام حسن البناء... وإلا تم طرده شرَّ طردة!!
*****
والنتيجة المنطقية لهذا النمط التسليمي المطلق بعَمَاءٍ لثوابت الجماعة هي أن العضو المتأخون لا يحق له ممارسة إنسانيته المسلوبة؛ ولا ينبغي له أن يسترد نسق فطرته البشرية الأولى المغيبة عمدا، والقائمة على فضيلة ممارسة السؤال وإعماله؛ وهي لو أدرك تعتبر فطرة كونية أو وجودية، تجلت على سبيل المثال في أن تسأل الملائكة ربَّ العزة سؤالاً استعلامياً كما ورد في كتابه الكريم: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ) – البقرة 30.
إن تقلص أو ضمور أو تلاشي دافع التساؤل لدى العقل المتأخون يجعل حامله مُسْتَلَبَ التفكير في غير ما تمت قولبته عليه، منذ خضوعه للتربية الحزبية "الجماعاتية"؛ لذلك يصبح من الصعوبة أن يتحرر عضو الجماعة من هذه النمطية؛ فلا يكتشف مأزقه الوجودي والسياسوي إلاَّ فيما ندر من بعض الذين استردوا الوعي المسروق، واكتشفوا اللعبة والمخادعة فتحرروا من أغلال العضوية والانتماء للجماعة التي سطت على عقولهم؛ فقولبتهم سمعاً وطاعة؛ وبعد أن تحرروا وجدانيا وعقلانيا أدركوا مساوئ العضوية فشكلوا ما توصف بمجموعة الخارجين على تلك الجماعة!!
لذلك فإن حامل العقل المتأخون المغلق لا يسمع سوى صوته فقط؛ وحين يتقدم لمجادلتك يضع أصابعه في أذنيه؛ ويأتيك بمنطق الكلام في اتجاه واحد فقط هو: أن يفرض عليك الاقتناع بما يحمله هو شخصياً من أفكار متأخونة تم تعليبه بها منذ اندراجه في "نظام الأسر المتأخونة".
صور تعبيرية من شبكة الانترنيت
*****
تبدأ مع المجادل المتأخون باستخدام القواعد التي تقوم عليها العملية الحوارية، فيبدأ بالقفز المباغت إلى أحد أفرع الشجرة مطلقاً اتهاماً معيناً ويعتبره من المسلمات التي يظن أنك متفق معه حولها؛ وحين تحاول اجتذابه إلى نقطة البدء من جديد؛ يفاجئك بإطلاق اتهام مغاير، متناسياً أنه ينبغي أن يستمع إلى الرأي حول ادعائه الأول.
وما تكاد تستدرجه للإنصات إلى كشف خلل قناعاته الأولى، يعاجلك بقفزة إلى فرع أبعد من الشجرة؛ مطلقاً تهمة مختلفة مدعاة أيضا؛ وحين تحاصره بالأدلة المنطقية والمعلوماتية التي تهدم قناعاته أو تفككها لتبيان تهافت ادعاءته؛ يوجه إليك الضربة القاضية بالانسحاب من الجدال على عجل؛ لأنه كان أسير الظن حين تقدم للمجادلة بأنك ستنحاز لما يقتنع هو به!!
*****
إن مهارة العقل المتأخون في عملية المجادلة هزيلة ومحدودة وتقليدية؛ لأنه عقل ضامر المقدرة على اكتشاف نقاط الضعف أو القوة لدى المحاور/ الخصم؛ لذلك يتخلص من خوض مسألة الحِجَاج الفكراني بالهروب من سماع الآخر؛ ولا يتبين مدى مصداقية وصلابة قناعاته التي تشربها ولم يفكر مطلقاً فيها؛ ذلك أن أهل الحل والعقد في الجماعة المتأخونة، أي قداسة المرشد ومكتب الإرشاد تولوا مهمة التفكير بالإنابة عنه، وقالوا له ما ينبغي أن يلتزم به؛ وهو أقسم تربوياً على السمع والطاعة المطلقة.
إن من يعود إلى تجارب الحوار مع أنماط العقل المتأخون سيكتشف ضحالة قناعات ذلك العقل، فهو لا يحتمل معرفة مقدار هشاشتها خلال الحوارات أو الجداليات مع غير المنتمين للجماعة، أو من يمتلكون المعرفة بغرضية الجماعة ومشروعها السياسوي، ويدركون دوافعها ومحركاتها النفعية والبعيدة عن خدمة العقيدة؛ فالجماعة المتأخونة مشروع سياسوي في الأساس يرتدي قناع العقيدة ويتمسح بها:
• العقل المتأخون يُصدِّر لمجادليه الأوهام بأن النظام المتآخون صاحب مشروع هدفه خدمة العقيدة الإسلامية؛ لذلك فهو يعتبر نفسه بديلا لنظام الدولة في المنطقة العربية والإسلامية؛ وحين تثبت له بالمنطق والوقائع أن نظام الدولة المدنية يخدم العقيدة أكثر... دعوة وتعليماً وإعلاماً بالإذاعات والفضائيات والجامعات وإقامة المساجد... لا يُعَقِّب ويقفز بعيداً!!
• العقل المتأخون يُصدِّر لمعارضيه أن متخيل دولة الخلافة الإسلاموية هو هدف النظام المتأخون؛ لذلك فهو يسعى إلى إحلال هوية إسلاموية الدولة محل مدنيتها؛ على الرغم من أن هويتهاالمدنية تحقق وفق ضوابط المعاصرة احترام روح العقيدة وإنسانيتها في مرحلة حداثة الاجتماع البشري العولمي؛ بينما نمطية دولة الخلافة المُرَوَّج لها بصورتها الماضوية هي دالة تاريخية يعاد إحياؤها من جديد وفق نهج ماضوية فقه العنف البشري؛ واستدعاء حالة الاقتصاديوية الريعية والتجارية وليست الاستصناعية والاستزراعية والبحثية الاستكشافية المعاصرة. لكن العقل المتأخون لا يُعَقِّب ويقفز بعيداً!!
• العقل المتأخون يُصدِّر لمعارضيه مفهوم كفرانية "من الكفر" غير المنتمين إلى جماعته؛ وبالتالي "كفرانية الدولة غير العقدية"؛وسلطتها وجيشها وشرطتها طالما أن الجماعة المتأخونة لا تجلس على كرسي رئاستها؛ وهذا المرض البعيد عن روح العقيدة يبرر للجماعة المتأخونة مشروعية السعي الدؤوب إلى هدم الجيوش الوطنية وأجهزة الشرطة؛ لتحل بدلاً عنها جماعات من نوعية التنظيم الخاص وفرق العسس وجماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومخاطر تلك التصورات الماضوية هائلة لكن العقل المتأخون لا يُعَقِّب ويقفز بعيداً!!
• العقل المتأخون يُصدِّر لمعارضيه مفهوم أن الجيوش الوطنية من صفاتها إحداث الانقلابات العسكرية؛ والرئاسة في صورتها الماضوية لم تكن للعسكر وإنما للخليفة أو الأمير أو الملك؛ لذلك درءا للمخاطر التي تهدد أطماع الجماعة ينبغي تفتيت الجيوش الوطنية تحجيما لأطماع قياداتها في السلطة؛ والبديل المتصور هو إعادة تكوين الجيوش من أعضاء الجماعة العقديين؛ لضمان الهيمنة دينيا على السلطة في إطار سعيها لإقامة الدولة العقدية. وحين تكشف له أن نمط الدولة العقدية انتهى تاريخويا ولا يمكن أن يتحقق في غياب امتلاك شروط القوة الاستراتيجية المعاصرة... تراه لا يُعَقِّب ويقفز بعيداً!!
• العقل المتأخون يُصدِّر لمعارضيه القناعات الكاذبة ومطالباته بنهج تداول السلطة عبر الصناديق؛ وحين تواجهه بأن فكرة الصناديق تكون في دولة المؤسسات المدنية؛ كما أنها أحد اختراعات العقل الغربي الكافر؛ وفضلاً عن ذلك فإن الفقيه أو المرشد لا يصلح لقيادة دولة مرحلة الحداثة وما بعدها؛ لأن وجوده السياسوي المهيمن يتنافى مع نهج ديموقراطية الصناديق وتناوب السلطة. وهذا العقل العقدي هو صاحب التعبير الشهير عن الانتخابات؛ حين وصفوها بـ غزوة الصناديق تعبيرا عن فقه الغزو الماضوي المهيمن على تفكير العقل العقدي. معنى ذلك أنه يأتي توظيفاً لقاعدة الغاية تبرر الوسيلة كتكتيك لأخونة الدولة وهو الهدف الاستراتيجي... لذلك لا يُعَقِّب ويقفز بعيداً!!
• العقل المتأخون يُصدِّر لمعارضيه أن سلطة الدولة العقدية هي الأقدر على تحقيق نشر العقيدة في الكرة الأرضية عبر توظيف فقه الغزو العقدي؛ لذلك فإن الدولة العقدية تتخلص من ثياب الوطنية والقومية الضيقة؛ ما يجعلها منتشرة بانتشار مساحة الأرض المتأخونة، وتحل الهوية العقدية بديلاً مماثلاً للهوية الجمعية كما حدث في القرون الوسطى. وحين تقول له إن ذلك المسلك يماثل نهج النمطية العولمية؛ غير أنه فقير في توافر شروط وآليات القوة الاقتصادية والعسكرية والعقلية الضامنة للهيمنة العولمية؛ ويجعلها مجرد تمنيات ومحض أحلام... فلا يُعَقِّب ويقفز بعيداً!!
*****
صور تعبيرية من شبكة الانترنيت
هكذا هي الصورة حين يفرض عليك الجدال أحد عناصر العقل النخبوي العقدي المتأخون؛ حيث لا يقيم الحجة مقابل الحجة ولا يقدم البينة على ما يدعيه؛ مفضلاً القفز على أفرع الشجرة هارباً من ساحة المحاججة وهو يضع أصابِعهُ في أُذُنيه؛ لماذا؟ لأنهم في الجماعة المتأخونة عودوه مذ كان طفلا ألاَّ يسمع سوى صوت مرشده فقط... ولاء وطاعة!!
"رأفت السويركي"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق