"زها حديد"... رحيل أنثى العمارة المدهشة - قراءة ثقافية!!
-------------------------------------------
-------------------------------------------
يباغتنا الموت كعادته التي يتقنها هو في الوقت المعلوم له، من دون إعلامنا بتوقيت القدوم؛ لذلك رحلت منذ عام المعمارية العبقرية "زها حديد"، - كتبت هذه المادة في 1/4/2016م - لتواصل الثُريا إطفاء أنوار درر مصابيحها، درة تلو درة في العام الجاري.
بلى رحلت زها حديد، وعلينا التسليم راضين بالرحيل، ولكن مع ضرورة التأمل فيما قدمته من حصاد رحلة إعمال عقلها؛ وما تركته من بدائع شكلية في عالم العمارة الحديثة؛ أو حتى ما بعد الحداثة؛ كما ينتسب مجمل مشروعها البنائي؛ بتفكيك وتكسير أشكال العمارة الشائعة.
*****
"زها حديد"... "أنثى العمارة المدهشة" كما أفضل تسميتها - ولكل كلمة دلالة- هي من دون شك تمثل إحدى العلامات في هذا الحقل الوجودي؛ حقل إعمار الأرض؛ عبر التفكر والتأمل والتصور؛ تفكراً، وتأملاً وتصوراً مغايراً للتقليدي والشائع والمعلوم.
"زها حديد" هي المرأة الراحلة العراقية المولد والنشأة والتعليم؛ البريطانية الإقامة والتدريب والتأهيل والتخصص؛ التي أطلقت في حياتها – 65 عاماً - العنان لكل توقدها العقلي؛ لتكون علامة فارقة في تاريخ العمارة العالمية المعاصرة؛ ولتُسقِط بإبداعها المعماري؛ تلك التابوهات أي "المحرمات" الذكورية التاريخية في عالم عمارة المسكن تحديداً؛ لذلك تستحق "زها حديد" الوصف بأنها "أنثى العمارة المدهشة".
*****
لماذا القول بأنها "أنثى العمارة"؟ لأن "زها حديد" لمن يدرس تجربتها المعمارية ونمط إبداعها البنائي؛ يعرف حسب هذه القراءة الثقافية لمشروعها المعماري أنها قدمت فتوحاً شاسعة مغايرة ومناقضة لثوابت ومستقرات عالم العمارة؛ الذي احتكر فنه المُذكّر/ الرجل؛ وفرض بنائياً، علي صفاته وضوابطه وعناصره كل قوانينه النوعية؛ وأخلاقياته وتوجساته ومكامن مواجعه الذكورية".
"زها حديد" شقت طريقاً مبدعاً؛ زاحم بالعمارة "النسوية أو الأنثوية" الكثير من مدارس العمارة المتوارثة؛ ذات الضوابط الذكورية؛ المحكومة بعادة شروط السكن القاسية؛ بما تعكسه من تخوفات النوع الذكوري الوجودية؛ من مثل الستر والإخفاء والاحتجاب والخصوصية، والتي جرى تقنينها والتنظير إليها عقدياً وفقهياً؛ لتكون العمارة الذكورية عمارة حمائية؛ مشايعة للتسلط الذكوري في صياغة المجال الحيوي؛ الذي تتحرك المرأة/ الأنثى في فضائه.
والشرط الاساس هو أن يكون هذا الفضاء محكوماً بسلطة الذكورة الثقافية؛ والاجتماعية والعقدية والاقتصادية؛ حيث هذا الفضاء الاحتكاري؛ يصوغ مجالات وجود وحركة الأنثى في إطار سياق تاريخي عميق؛ مرتبط بتاريخ ترويض "الثيمة الأنثوية" الغنيمة للذكر، والذي احتكر السيطرة عليه تاريخياً بفرط قوة الاستحواذ؛ ومنهجية التعامل مع الطرائد في "فقه الأسر"؛ إذ أن العقل الذكوري منذ بداية نشوئه تاريخيا؛ هو عقل استحواذي اقتناصي.
لذلك طبع التفكير الذكوري المعماري وهو التفكير المتغلب شكل العمارة المنزلية بهواجسه الوجودية؛ اذ اعتبر فن العمارة مجالاً مُحرَّماً على الأنثى أن تتدخل في سياق صياغته، حتى لا تنكسر وظيفة المعمار الوجودية الـ"خِبائية" كما يظن الذهن الذكوري؛ لذلك يخدم الشكل الخارجي النمطي للطرز المعمارية ذكورياً هذه الوظيفة بتعطيل خاصية الإشهار اللافت للأبصار الغريبة إذا توقفت لتأمل البناء القائم من خارجه؛ وكلما كان الشكل المعماري نمطياً بمراعاة الشكل المنسدل بفتحات الاطلال على الخارج المرتفعة تكريسا للوظيفة الخبائية فإنه لا يعطي الفرصة للالتفات؛ أو التوقف والتفكر في مدلولات الخارج والتساؤل والتخيل لكيفية الداخل البنائي. ولكن جاءت أشكال معمار "زها حديد" لتهشم وظيفة التعطيل تلك عبر الأشكال المعمارية المنسدلة كالخمار، وتستدرج الأبصار للتوقف والتأمل في الغرائب المعمارية، وهو ما يتيح لغريزة التلصص الذكوري أن تمارس فعلها بممارسة الإبصار والنظر.
*****
ونتيجة لمنهجية النشوء الثقافي الوجودي التاريخي للمذكر الاستحواذي على صناعة اللغة والتعبير؛ وصياغة المعاني وتكريس المفاهيم، كانت العمارة البشرية هي عمارة ملبية ومرسخة لرغبات هذا التكوين النوعي الذكوري المتغلب؛ عبر ترسيخ استراتيجية الإخفاء الإهمالي لتصورات المرأة في الوجود المكاني، وليكون "حرم النساء" في البيت اليوناني القديم على سبيل المثال في نهاية فضاء البيت، وقس على ذلك "الحرملك" الشرقي المستجلب تسميته من التحريم؛ وحسب "قاموس المعاني": فإن اصطلاح " الحَرَم: ما لا يحلّ انتهاكه، وما يحميه الرَّجل ويدافع عنه؛ وحَرَم الرَّجل: ما يقاتل عنه ويحميه، وشاع استعماله بمعنى الزَّوجة"؛ لذلك صاغت العقلية الذكورية كل أنماط البيوت؛ تلبية لمخاوف تلك العقلية في عوالم وجود ذكور آخرين؛ سمتهم ووظيفتهم بدءاً منذ تاريخ الوجود في الغابة هي القنص.
ووسط هذه النمطية المتغلبة من العمارة الذكورية؛ جاءت "زها حديد" بعقلية الأنثى، لتنتمى إلى عوالم "العمارة التفكيكية"؛ أي العمارة التي تُولِّد لديك الإحساس غير المنتظم في روتينيته؛ والهادمة لمفهوم العمارة التقليدية المهتمة بالمُحَرَّم واللامسموح وغير الممكن أيضاً، فوجهت إلى عمارتها اتهامات بأنها من نوعية العمارة التخطيطية فقط والتي لا يمكن تنفيذها؛ لكن عمارة "زها حديد" كانت راسخة تعطى اهتماماً أساسياً إلى عنصر معدن الحديد؛ بدلالة صلابته وفولاذيته وتماسكه في مواجهة الأثقال البنائية في تشكيلاتها الجديدة والتي تضمن تحقق غرابة الأشكال وأحيانا لا منطقيتها؛ وكأن "زها حديد" تهوى أن تبدو عمارتها حسب مفهوم العمارة التفكيكية؛ هي عمارة صُلبة؛ إذ " لا يفل الحديد إلا الحديد"؛ وهذا المعدن الهيكلي الذي يجري تطويعه ضامن للثبات بقوته.
*****
وعلى الرغم من الانتقادات غير الموضوعية؛ فإن عمارة "زها حديد" التفكيكية أخذت تجتاح بمشروعاتها كثيراً من الأماكن والقارات؛ باعتبارها عمارة ما بعد الحداثة؛ بمفاهيمها المختلفة الجديدة بتجاوزها قيمة التوازن التقليدية وعدم الاكتراث بعنصري التعامد والامتداد الأفقي؛ سعياً لتخليق شكل معماري جديد، قد يوصف بالشطط؛ لأنه محكوم بالخيال المسبق الذي قرأ جغرافية ومكونات المحيط الذي سيقام به المبني وسيحمل توقيع "زها حديد"؛ وحسب هذا المنهج المعماري التفكيكي؛ فإنه يضمن فضاءات لا يتوقعها المتأمل من خارجها؛ وتلك هي الروح الأنثوية العبقرية في قراءة الفضاء/ المكان؛ إذ تمتلك الأنثى مخيالاً كبيراً في النظر إلى توظيف المكان/ الفضاء. والدليل هو ما تقدمه المرأة/ الانثى حين التعامل مع ترتيب بيتها من الداخل، عبر حركة التغيير والتبديل للمكونات داخل غرف البيت؛ بتقدير متجدد للمسافة والمساحة واختبار تخيلها في تعبئة المكان بمفردات البيت من الأثاث.
إن مجمل عمارة " زها حديد" يكسر المألوف، لأن تجسيد الخيال المستحيل هو طموحها، ومنبع رؤيتها هو الوجود في كل تجلياته؛ البحر؛ الفضاء؛ المجال الصحراوي المنبسط من دون نهاية؛ وما تحققه تلك الفضاءات من الإحساس بالحرية المطلقة؛ وكأنها القيمة المفقودة لدى الذهنية الأنثوية التي تشعر بالأسر؛ فتقاتل من أجل الحصول على تلك القيمة الإنسانية السليبة وجدانياً من النوع.
بل في أحيان كثيرة يشعر العقل التفكيكي الناقد؛ أنه يشاهد في أعمال "زها حديد" عمارة خرافية؛ مشتقة من مهارة القص والحكي الأنثوي الأسطوري للأطفال، وهو حكي مُشوِّق بغرابته؛ تنفرد به الأنثى / الأم، وهي تستجلب مهارة وتكتيك "شهر زاد" الحكائية، فتهيمن على تفكير الأطفال؛ وتطوعهم بقدرتها السردية للاستجابة لما تطلبه منهم؛ فيستسلمون للنعاس بعد حكاية المساء.
عمارة "زها حديد" هي هكذا؛ بقدر إحكام قدرتها السردية، تسند عمارتها الغريبة بتوظيف التقنية الإنشائية البنائية، لتنفيد ما تحكيه معمارياً، والدليل على ذلك هو انتشار أعمالها في أقطار كثيرة، مدهشة الشكل، وغريبة الحضور؛ مفككة الأجزاء شكلياً غير أنها متماسكة كلياً في العلاقات المعمارية.
*****
إن عوالم "زها حديد" المعمارية؛ تستمد خيوطها أيضاً من مهارة التفكيك التي مارستها في طفولتها؛ فكل طفل يمارس دافعية الرغبة في التفكيك وإعادة الصياغة للمجسم الذي يتفاعل معه، فيبتكر شكلاً جديداً لما بين يديه وقام بتفكيكه؛ ويخلق أيضا له وظيفة وفق منطقه الخاص في تكييف الأشكال التي صنعها مغايرة للشكل الشائع، وهي كذلك المهارة التي تتابعها الأنثى/ الام؛ وتبدي بهجتها وتشجيعها لطفلها بما صنعه جديداً.
ويلحظ العقل المفكك لإعمالها؛ كأن الشكل الخارجي لعمارة "زها حديد" مُنبتِّ الصلة بالفضاء الداخلي؛ أي يتساءل المشاهد من الخارج عن أية فضاءات يمكن أن يحتويها هذا الشكل الخارجي المنحني؛ أو المائل؛ أو المعقوف من العمارة المتكسرة؛ والمتشظية الكتل؛ والمتعرجة والمتراكبة أو المتساندة طوليا وعرضيا في إفراط كبير؛ يصل إلى حد الإحساس الخارجي المخادع بالتفريط في المساحات الداخلية. غير أن الفضاء الداخلي لشكلانية العمارة الخارجية التفكيكية يؤدي وظيفته باقتدار حسب المطلوب منه، ما يعني أنه لا غرابة في وظيفية الداخل؛ لأنه يؤدي غرضه الانتفاعي حسب المطلوب، وتصبح البراعة والغرابة هي في الشكل الخارجي الهادم لكل الأنماط التقليدية للثوابت المعمارية المستقرة.
وتكفي النظرة التحليلية لعمارة "زها حديد" التفكيكية من الداخل للحكم على جديتها فيما أفرطت في التأكيد على تحطيمه في خارج الشكل المعماري، سواء كان المسبح الأوليمبي لدورة الألعاب الأولمبية في لندن العام 2012، أو منصة التزلج على الجليد في إنسبروك بالنمسا، أو دار الأوبرا في غوانغجو بالصين؛ أو المتحف الوطني لفنون القرن الحادي والعشرين في روما؛ أو جسر أبوظبي، أو المجمع الفني في أبوظبي، أو منزل Capital Hill في روسيا، أو مجمّع كرة القدم في طوكيو، أو مبنى الفن المعاصر في أوهايو؛ والعديد؛ العديد من الأشكال المعمارية المبهرة؛ التي نالت تقديراً لها أرفع الأوسمة والجوائز.
*****
وبغياب "زها حديد" المفاجىء ينطفىء شعاع مصباح جميل من ثُريا العمارة النسوية المدهشة؛ التي كانت "زها" من أبرز تجلياتها في فن العمارة التفكيكية ما بعد الحداثية؛ بكل تحطيمها للمألوف المعماري... رحمها الله.
"رأفت السويركي"
-----------------------------------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق