عبد الفتاح كيليطو... "مُفَكِّك السرد العربي" في وقفة ذاتوية!!
---------------------------------------------
---------------------------------------------
إن كل جهد يمهد طريقاً ويُعبِّده للتبادل المعرفي مع الآخر في الأدوات ينبغي أن يحظى بالاهتمام، لأنه يدعم القدرات الذاتوية للعقل الجمعي للأمة، بما يساهم في تحقيق نقلة طفرية يحتاج إليها العقل العربي والإسلاموي، لكي يعيش متغيرات العصر وما يتلوه.
إننا في احتياج إلى "تجنيس" المناهج وتوظيفها، لإنتاج ما يتواءم مع حياتنا المعاصرة؛ لأننا كما نستجلب السيارة والطائرة والتلفاز والهاتف و... و... إلخ لا غضاضة من أن ننفتح على معطيات العقل الآخر، كما فعل العقل العربي والإسلاموي في عصور نهضته؛ بانكبابه على ترجمة وهضم معطيات العقل اليوناني والروماني، وترجمتها وحفظها ونقلها إلى إبناء ذلك العقل، ليستفيدوا منها في رحلة إعادة بناء الحضارة الأوروبية الأميركية.
*****
الدافع لهذه الكتابة كان تذكير "فيس بوك" لي بتدوينة سابقة تدور حول الكاتب المغاربي عبد الفتاح كيليطو؛ والذي يُعَدُّ من منظوري إحدى درر عِقد المفكرين المتميزين، من أمثال محمد عبد الجابري وعبد الله العروي، وطه عبد الرحمن ومحمد مفتاح، وغيرهم ممن لا تحضر أسماؤهم إلى الذاكرة راهناً.
فقد نشر الصديق الدكتور مصطفى الغرافي صاحب الدراسة الدسمة بعنوان " البلاغة والإيديولوجيا - دراسة في أنواع الخطاب النثري عند ابن قتيبة" على جداره مقتبساً كتبه "عبد الفتاح كيليطو" ذكر في متنه: " لدي بعض التحفظ، في أن أعتبر نفسي كاتبا. وإذا لزم الأمر، فأنا مجرد ممارس لنشاط، مستعيداً بهذا الخصوص منظور رولان بارت. أما كاتب، فتبدو إلي مغالية في الادعاء، لأن إنتاجي الأدبي، ضعيف جداً".
وقد وصف الدكتور الغرافي كيليطو بـ "الساحر عبد الفتاح كيليطو"؛ ما حفزني قارئاً دؤوباً لمشروع كيليطو بالتفاعل في تدوينة حاولت التماس مع ما ذكره حول كتابته. وقد استخدمت منهج المقاربة عبر القراءة الدلالية للعنونة التي تحمل اسم كيليطو؛ مجيباً على التساؤل الذي أوحى به المقتبس الذي يقدم به كيليطو تقويما لمشروعه البارز من منظور الراصد الثقافوي العربي.
*****
إن القراءة الدلالية لعناوين إصدارات عبد الفتاح كيليطو، تكشف بما لا يدع مجالا للشك، عن أدواته النقدية والتفكيكية، وتوقفوا أمام العناوين التالية:
- "أبو العلاء أو متاهات القول"، "لسان آدم"، "العين والإبرة"، "لن تتكلم لغتي"، "الأدب والغرابة"... "الغائب دراسة في مقامة للحريري"... وتأملوا، فالحقل الدلالي لعناوين هذه الإصدارات: " العين، الأبرة، الكلام، اللغة، التكلم، الحكاية، التأويل، المتاهة، القول، لسان، آدم، الغائب..." يقود المتلقي، لمعرفة النشاط التفكيكي لكيليطو.
- إن عناوين هذه الأعمال المميزة للكاتب الكبير وصاحب العقل النقدي المميز عبد الفتاح كيليطو، ألا تجعلنا نتمهل، ثم نتوقف في لحظة تأمل دارسة "فاعلة" لدلالة هذه "المنطوقات" المحددة إشهاراً على رؤوس كتب، حفر بها عبد الفتاح كيليطو أخاديد عميقة، في حقول دراسة السرد والنسق التعبيري العربيين، بمبضع ماهر، وهو يشق ركام ومكدسات اللغة "الطبلية" التقليدية في كثير من جامعاتنا العربية - من الطبول - التي تعاملت مع هذه الكتب المميزة بأدوات الذهنية المسطحة، والتي تفتش عن المحمول السطحي الذي يعنُّ لها فور قراءتها المتعجلة من دون أدوات المناهج البنيوية والتفكيكية التي اهتدى لها العقل الإنساني العميق، وهو يختار المبضع التشريحي من جنس الجسد التعبيري، للوصول إلى الإمساك بآليات الخطاب ، وبنيته ، ومحموله الدلالي.
حتى وإن كان بعض المتكلسين فكرياً يرفض مغامرات كيليطو النقدية، والتي تساندها ممارسة ومدارسه نقدية مجتهدة، وفق مناهج التفكيك والبنينة الحديثة وهو متمكن منها بقوة، فإن فعل التحفير يستخرج من اللقى الفكرية ما يعجز المنقبون التقليديون بمناهجهم وأدواتهم القديمة في كشف "المسكوت عنه" في هذه النصوص العربية المهمة.
إن المغامرات النقدية الجميلة التي يقوم بها كيليطو في الموروث العربي، تستحق الاهتمام، والمدارسة، والصبر عليها للوصول إلى مكنوناتها الثمينة في تجليات السرد والأنساق الثقافوية في أمهات الكتب العربية القائمة على السرديات الحكائية مثل "مقامات الحريري" والهمذاني.
*****
ومن دون شك فإن مقتبس الصديق الرائع "مصطفى الغرافي" لمقولة "كيليطو" حول تحفظه باعتبار نفسه كاتبا، معتبرا أنه ممارس لنشاط، يأتي في إطار إدراك المنقب الحقيقي في الأفكار، والذي يدرك أن ما هو غير مكشوف عنه، أكبر مما لقيه في رحلة تحفيره النقدية.
لذلك يواصل كيليطو محاولاته الكشفية الجديدة، بتواضع العلماء وإدراك الباحث الحقيقي بأن ما لم يصل إليه أكثر مما اجتهد في الوصول إليه بيده النقدية أي عقله.
إن خطاب عبد الفتاح كيليطو الوصفي التفكيكي لجهده بأنه "مجرد ممارس لنشاط، مستعيداً بهذا الخصوص منظور رولان بارت" لا يقلل من أصالة ورزانة مشروعه الفكري الذي اهتدى خلال بنائه بجهد رولان بارت؛ وهو يقرأ الخطاب السردي العربي الموروث في كشف ذاتي للمسكوت عنه؛ إنه كشف العلماء الأصلاء الواثقين؛ ولعل المتعالمين الذين يجترون خطاب العقل الماضوي المتكلس يدركون فضيلة إعادة التفكر النقدي في الذات والخطاب، وهو ما فعله عبد الفتاح كيليطو "مُفَكِّك السرد العربي" في هذه الوقفة الذاتوية!!
"رأفت السويركي"
------------------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق