الأربعاء، 26 أكتوبر 2016

تفكيك العقل النخبوي الإسلاموي المتأخون (43)
في التنظيم المُغْلَق... المُتَأَخْوِنُ لا يتزوج إلاَّ مُتَأَخْوِنَة لماذا؟!!
-----------------------------------------
 "حسن البناء"... لماذ أقام بناء جمعيته وفق النسق اليهودي في الزواج؟
 وجدان "حسن البناء" تكشف الوثائق القديمة عن أصوله
 منير الدلة القيادي الإخواني في أربعينات القرن الماضي يتزوج من آمال عشماوي أخت حسن عشماوي القيادي بالجماعة المتأخونة 1940م؟.
صورة من حفل زواج يهودي

في إطار مواصلة تفكيك العقل النخبوي الإسلاموي المتأخون؛ يمكن القول أن ما تُسمَّى "جماعة الإخوان المسلمين" تُمثل أفضل نموذجٍ يُعَبِر عن الجماعات المغلقة والغامضة؛ هكذا نشأت؛ وهكذا تستمر... مشابهة للجمعيات السرية؛ ومماثلة لما تُوصف بجمعيات "حكومة العالم الخفية"!

ولعل "مسلك الزواج" الذي تعتمده الجماعة المتأخونة منذ بدء التأسيس وإلى الوقت الراهن يمثل تجربة مريبة دالة على مسلكيات الجمعيات الخفية؛ بشروطها المفروضة على الأعضاء وطقوسها المنافية لإشهارية الزواج وعلانيته المفترضة؛ وكذلك حرية الأطراف المعنية في تطبيقه. 

والسؤال المهم هنا: لماذا لا يتزوج المتأخون إلاَّ من متأخونة؟ ولماذا لا يمكن القبول بزواج المتأخونة من غير المتأخون؛ حتى لو كان هذا الشخص منتمياً لإحدى التيارات الإسلاموية الأخرى؛ مثل الماضوية والتي توصف خطأ بالسلفية؟! ولماذا تجد شجرة النسب في قمة الهرم التنظيمي مغلقة على عائلات رأس الهرم فقط؟ في هذا "التنظيم الجمعياتي" تجد العائلات الأصغر تتناسل من العائلات الأكبر ولكن ترتبط بها عبر علاقة شجرية يمكن تسميتها بــ "شجرة الدماء الإيديولوجية" التي تدور في العروق من نوعية محددة لا تتجاوز حلقتها المغلقة!! 

*****

إن خصوصية مسألة "الزواج المتأخون" تمثل قضية مهمة أمام العقل التفكيكي؛ وهو يُعمل فعله في الوقائع؛ فهذه القضية تكشف كثيراُ من الدوافع الحاكمة لحركة هذا التنظيم؛ وتدل على نوعية العمل السراديبي الناظم لتكوينه وفلسفة تطوره منذ البدايات. 

إن إعمال العقل التفكيكي في بنية هذا التنظيم يكشف وجود ما يمكن وصفه بــ "نظام العرقية التنظيمية"؛ ذلك النظام الذي يتجلى في بروز خاصية الانتقاء العضوي، ثم الاندراج في طُقُوسية " نظام الأسر" بشكل عام؛ ونمط " نظام الزواج المغلق" بشكل خاص... وهذا هو مربط الفرس في الكتابة الراهنة.

والسؤال المنهجي هنا: لماذا يعتمد التنظيم المتأخون نمط "العرقية المغلقة" في بُناه التكوينية التي لها أساسات تشكلت منذ المؤسس الأول "حسن البناء"؛ ومن غير المقبول أو المسموح تجاوزها؛ بدءاً من قيادات أعلى الهرم، هبوطاً إلى قاعدته الأوسع من الأتباع؟

لماذا بشكل أساس لا يتزوج الرجل/ الشاب المتأخون شرطاً إلاَّ من امرأة/ فتاة متأخونة؟ ولماذا تتشابك عائلات قمة التنظيم المحدودة في علاقات النسب والمصاهرة الخاصة وتدور في سياقها؟ إن هذه الظاهرة تحتاج تفكيكاً يكشف "المسكوت عنه" في مجال الدوافع والأهداف؛ بما يقدم إجابة حقيقية للأسئلة التي تفرض نفسها على الذهن حينما يقف أمام طقوسية هذه الدائرة الزواجية المغلقة جداً!

والإجابة المنطقية على هذا السؤال ترى إلى أن التنظيم المتأخون بذلك يعمل على تأصيل صناعة منتوجاته البشرية؛ ويتحكم في "نقاء صفاتها الإيديولوجية" عبر المحضن الأول أي " البيت الأول المتأخون"؛ لإنتاج "العائلة المتأخونة"، والتي تندرج لاحقاً بأبنائها ضمن نظام "الأسرة الإخوانية" الجامعة لممارسة أنشطة الجماعة.

ومن شروط هذا "المحضن" الأول أن الرجل المتأخون الذي - لا تتقدم عليه المرأة تنظيمياً مطلقاً- لا يتزوج إلاَّ من متأخونة؛ يُقدمها له التنظيم حسب القواعد المستقرة؛ وهو كرجل لا يستطيع الزواج من غير المتأخونة - في أضيق الحدود - إلاَّ بعد الحصول على الموافقة التنظيمية؛ تحقيقاً للنفعية التنظيمية بأن يقوم هو بأخونة تلك الزوجة لاحقاً إذا لم تكن إخوانية الهوية والعقيدة مثله؛ ضماناً للنشوء المتأخون للأبناء؛ فالأم لها فعالية السحر على أبنائها؛ ومستقبل نمو التنظيم مرهون برغبتها وعملها التربوي في البيت! 

أما ما يصل إلى درجة الاستحالة وفق الضوابط المغلقة للتنظيم؛ فهو زواج المتأخونة من رجل غير متأخون؛ وتلك إذا حدثت تمثل الكارثة؛ لأنه سيكون زواجاً خارجاً عن النمط والنهج؛ فقد يُنتج – وهذا في الأغلب - أطفالاً غير متأخونين بحكم فعالية الرجل التربوية؛ ما يُقلل من حجم المجتمع المتأخون المستهدف تكوينه من ذوي الدماء الإيديولوجية الإخوانية؛ والتي تُعتبر في عُرف "التنظيم الجماعاتي" دماءً إخوانيةً نقيةً خالصةً كما يظنون!! 

إننا إذن أمام معضلة نوعية؛ فالبيت الإخواني يُعدُّ مصدر المادة البشرية الخام لعضوية التنظيم، ويؤدي دوره الناعم من خلال "العائلة البيولوجية" التي تحقق تطبيق برامج التربية الإخوانية، وفق نهج اقتداء الأبناء بالأبوين المتأخونين.

وبذلك فإن محضن العائلة الصغيرة التنظيمي يمثل الضمان الأساس لنمو العضوية المُنَشَّأَة منذ صغرها على اتباع أوامر ونواهي التنظيم؛ والتسليم لمن يعلوه في الدرجة التنظيمية حسب الأنظمة المتبعة كنظام الأسر في الأحياء واجتماعات المساجد؛ ومعسكرات الإعداد البدني؛ والندوات وجلسات القراءة وملتقيات الحوارات. وتلك الأشكال التنظيمية ستكون مجالا للتفكيك في الكتابات التالية.

وتعالوا نقرأ التفسير الظاهري لهذه النمطية الإجبارية من ضرورات تشكيل العضوية؛ فحين يتم حصر عمليات الزواج بين الأعضاء المتأخونين فقط فذلك يعني:

أولاً: ضمان مواصفات الخلية المتأخونة الأولى "العائلة الصغيرة" وفق المقاييس الموضوعة؛ حيث يقوم الوالدان بتنشئة الأبناء وتأسيس عقولهم حسب النظم والقواعد المعتمدة من التنظيم في التربية والتي تحدد مساحات المسموح والممنوع.

ثانياً: ضمان صناعة أفراد ملتزمين بآلية ضوابط الجماعة؛ وأهمها الطاعة المطلقة للقيادات التي تكتسب قداسة متوهمة وكأنها وصلت من تحصيل العلم الشرعي الى ما لم يحصل عليه غيرها؛ بحكم ادعاء التنظيم المتاخون أنه يسعي إلى إقامة دولة الإسلام المطلقة!!

ثالثاً: إن قيام العلاقة الزواجية بين الأبوين المتأخونين؛ يضمن برامج تنظيم انتاج الأسرة المتأخونة من دون تقاعس أو تراخ من أحد الأبوين؛ إذا كان أحدهما غير منتمٍ.
رابعاً: إن قيام علاقة الزواج بين الأبوين المتأخونين يضمن الحفاظ على كل أسرار وطبيعة السيناريوهات الموضوعة في التنظيم من دون كشف لها أو التقصير في الحفاظ على خصوصيتها المغلقة عن المجتمع العمومي الذي يعمل التنظيم خلاله.

خامساً: إن تنشئة "العائلة المتأخونة" بأطفالها من بداية تشكلها يضمن للتنظيم تجنب أعباء استقطاب عناصر أكبر في العمر؛ لم تمر بالخطوات التربوية الموضوعة؛ وبالتالي تكون محل شك في الولاء التنظيمي!

سادساً: التنظيم الذي يقوم بناؤه على التكوين العائلي تحت عين قياداته منذ البداية يضمن عدم الاختراق الأمني لسراديبه عبر من يأتي إلى العضوية ولم يمر بمشوار التأسيس الأول ويخوض معاناة التنصيب.

هذه الهواجس الظاهرية في حقيقتها تعكس الطبيعة الخاصة التي يخفيها التنظيم المتأخون؛ ويسعى لتخبئتها في خزائن الأسرار المغلقة؛ وغير المكشوف منها سوى القليل... عبر اعترافات وتصريحات من غادروا أروقة التنظيم وتحرروا من سطوته بعد ما اكتشفوه من أخطاء العمل به فتحرروا من عضويته فعلياً؛ وهم من يوسمون بالمنشقين عن الجماعة؛ وأسماؤهم معروفة ومقدرة بالاحترام لما أصدروه من مؤلفات ودراسات ومذكرات قديما وحديثاً.

*****

لكن ماذا تقول القراءة الباحثة خلف هذه الظواهر حول "المسكوت عنه". السعي التفكيكي هنا لا يستهدف تقديم تفسير مغاير للقراءة الظاهرية التي تكتسب وجاهتها مما استقر عليه الفهم في الواقع؛ بل تسعي إلى الإمساك بدافعية هذه الأفعال الحقيقية؛ والتي جرى تغييبها عن قصدية؛ لأنها تعبر عن الحقيقة الكامنة في الباطن التنظيمي منذ أن أسسه "حسن البناء".

سيجري التركيز هنا فقط على طقوسية "الزواج المتأخون"؛ تاركين بقية العناصر إلى الكتابات اللاحقة؛ عبر طرح الأسئلة التالية:

- لماذا يأخذ الزواج المتأخون ما يمكن تسميته بنمط مماثل لــ"الزواج العرقي المغلق"؟ ولماذا وضع "حسن البناء" نظامه هكذا؟ فالمعروف أن الزواج في المجتمع الإسلامي هو سلوك حر مفتوح لا تحده ضوابط خاصة سوى شروط الرغبة والتقوى والمقدرة؛ وإلا فالصوم يكون وقاءً لغير مستطيع الباءة؟

- لماذا صرامة الشروط المتعلقة بهذا الزواج؛ وجبرية التدخل التنظيمي في عقده؛ والتحكم في آليات عقده؛ ومسلكية الزواج تخضع للقبول المتبادل من المقبلين على الزواج ورعاية أسرتيهما وليس تنظيم خارج العائلة؟

- لماذا يضع هذا النمط من الزواج شرط الأخونة التنظيمية؛ ويمنع ما أباحته العقيدة السليمة؛ بجواز الزواج حتى من شخص مغاير في المذهب والعقيدة للرجل المسلم. 

وللإجابة على هذه الأسئلة يمكن طرح سؤال على درجة كبيرة من الأهمية؛ هل كان المؤسس الأول للتنظيم المتأخون "حسن البناء" يمتلك العقلية التنظيمة الفذة التي تجعله يضع في تقديره المخاوف الظاهرية في قضية الزواج بين أعضاء التنظيم هكذا؟ أم أنه تحرك في هذا الأمر محكوماً بدافعين على درجة كبيرة من الخطورة؟

*** الدافع الأول الذي تَحَكَّمَ في عقلية "البناء" هو أنه كان يشكل "جماعة" ظاهرها الدعوة الإسلامية؛ وباطنها الحقيقي سياسي بأنها ستكون "جماعة فوق دولاتية"؛ وهذا ما تحقق لها بالدعوة لإعادة إنشاء دولة الخلافة عبر المرشد؛ وإنشاء التنظيم الدولي المتجاوز للحدود بأدواره التدميرية المشهودة الآن.

***الدافع الثاني؛ وهو على درجة كبيرة من الأهمية؛ ويرتبط بمصدرية تلك الفكرة التي أدخلها "البناء" بنمط "الزواج المغلق"؛ فقد اقتبس نمطها أو أعاد تكرارها من نمطية "الزواج اليهودي" المغلق!! 

ولعل هذا الدافع الثاني المثير للدهشة يُحيل العقل التفكيكي إلى التفكير في ضرورة فهم أن العقل المؤسس الأول لحسن البناء يتحرك بدافعية كوامنه الوجدانية؛ لأنه استنبط هذا النوع الزواجي لتنظيمه المتأخون من "الزواج العرقي اليهودي المغلق".

ففي الزواج اليهودي؛ يُمنع زواج اليهودي أو اليهودية من بقية الديانات الأخرى؛ وتحديداً لدى الطائفة "اليهودية الأرثوذوكسية" التي ترفض - حسماً - الارتباط بالزواج من غير اليهود؛ فيما تجيزه الطائفة اليهودية المحافظة - نفعياً - طمعاً في أن يَتّهَّود الزوج أو الزوجة من غير اليهود!! 

وفي الزواج اليهودي تتخذ الإجراءات الرسمية للزواج بطلب إلى "الحاخام" يتضمن لقب واسم وعمل وتاريخ ميلاد طالب الزواج؛ وقيمة المهر والمؤخر الذي يرغب في تسجيله، فيحدد سكرتير الحاخام له موعداً لا يتجاوز خمسة عشر يوما لتوقيع وثيقة الزواج، قبل الاحتفال بالزواج وفق القواعد الدينية.

• إن النرجسية النفسانية للكائن اليهودي تجعله يشعر بالتمايز العرقي عن بقية الأقوام والأعراق؛ فيحرص على عدم اختلاط "الدماء اليهودية" بدماء الآخرين عبر الزواج؛ لذلك لا يسمح باختلاطها مع الدماء الأخرى؛ فيحصر زواجه في النمط العرقي المغلق أي من اليهود فقط! 

• والمثير للدهشة هو ذلك التماثل مع نمط زواج المتأخونين؛ وحسب ما نُشر من تصريحات بعض الأعضاء يقوم "مسؤول الشُعْبة" أو "مسؤول الأسرة" الجامعة للأعضاء بدور "الخاطبة"؛ حيث يقوم بترشيح "إحدي الأخوات" للزواج من أحد شباب الإخوان؛ ويطلب منه رؤيتها مع أخوات الجماعة في مسجد معين؛ ليحدث الارتباط الرسمي في المسجد إسباغاً للطابع الديني على الزواج الإخواني.

إن ذلك التماثل في نسق طقوس "الزواج اليهودي" وطقوس "الزواج المتأخون"؛ يُحوِّل الجماعة "المتسيسة" تحديداً إلى "جماعة دينية" مماثلة للمسلك اليهودي وتُكفِّر غيرها من المسلمين باعتبارها "الفرقة الناجية" ويُسمى مؤسسها "الإمام حسن البنا" ولتصير بذلك طائفة مغلقة اجتماعياً ومماثلة لليهود؛ فتُحرِّم في طقوسها الزواج من غير المتأخون أو المتأخونة؟!

ولا تغيب عن الذاكرة ما ذكره المتأخون صبحي صالح، المحامى وعضو لجنة إعادة صياغة الدستور المصري أيام حكم الإخوان بتحريم زواج الإخواني من غير الإخوانية، بدعوى أن غير الإخوانية غير مكتملة الإيمان؛ ومن ثم لا يجوز الزواج منها؛ حتى ولو كانت مسلمة؛ لأن زواج المتأخون من المتأخونة يؤدي إلى إنجاب إخواني بالوراثة!! 

وربما تُعيد هذه النمطية المغلقة في طبيعة الزواج الإخواني التذكير بالوجدان اليهودي المُسْبَق لدى المؤسس الأول "حسن البناء" الذي تعود جذوره حسب المصادر والمراجع ورواية الأستاذ عباس العقاد إلى "يهود المغرب" من أسرة قَدِمَتْ إلى مصر فِراراً من أحداث الحرب العالمية الأولى؛ وقد ولد "حسن البناء" لاحقاً في أكبر منطقة يهودية بمصر في محافظة البحيرة التي يوجد بها " ضريح أبو حصيرة" مقصد حج اليهود إليه إلى اليوم!!

وبذلك فإن قاعدة الزواج المتأخون التي أسسها "حسن البناء" كان محركها الأول الرغبة في "القولبة الوجدانية" لأعضاء الجماعة لتصير نسيج وحدها ومغلقة؛ بما يضمن تكريس الترابط العضوي بين الأعضاء؛ وهو ما يتحقق أيضاً لدى التنظيم المتأخون؛ باعتماد المصاهرة بين الأعضاء نهجاً تنظيمياً يرفض الزواج من خارج إطار التنظيم؛ بل إن مكتب الإرشاد نفسه يشهد صلات مصاهرة عميقة على سبيل المثال لأربعة أعضاء على رأسهم المرشد من دون ذكر بقية الأسماء!!

*****

إن حرص التنظيم المتأخون على ممارسة هذه الطريقة المغلقة في الزواج تكشف العلل الكامنة في العقل النخبوي الإسلاموي المتأخون؛ وبأنه عقل تنظيمي مغلق لجماعة مُبْتَدِعَة دينياً... تُمارس بِدعةً لا دينية مماثلة لليهودية؛ فكما أن اليهودي لا يتزوج إلاَّ من يهودية... فالمُتَأَخْوِنَ لا يتزوج إلاَّ مُتَأَخْوِنَة؛!! 

"رأفت السويركي"

الأحد، 23 أكتوبر 2016

شكراً "فيس بوك"... إنه أستاذي عالم العربية ا.د أحمد يوسف!!
----------------------------------------------


أجمل مفاجأة جديدة أسعدني بها "فيس بوك"؛ هي تذكيري بموعد بدء صداقة التواصل الالكتروني مع عالم اللغة العربية الكبير الأستاذ الدكتور أحمد يوسف علي؛ الذي يُعد لديَّ جوهرة إنسانية بمعنى الكلمة بجانب قامته الثقافية العالية.

تواصلت معه صوتياً عبر الهاتف، وكتابة عبر هذا الفضاء الافتراضي؛ وأنا في انتظار أن تتاح لي فرصة اللقاء الشخصي في موعد قريب، لأقدم إليه فروض التقدير العميق؛ لما لمسته من عمق إنساني جميل دال على شخصية تفيض بتواضعها الجم كرماً شعورياً آسراً.

أستاذي الأستاذ الدكتور أحمد يوسف الذي كنت أتمنى أن أكون طالباً أجلس في مقاعد الدرس بالجامعات أمامه كي أتلقى علوم اللغة منه؛ عوضني عن ذلك وهو يفيض بعلمه الكبير كلما تهاتفنا؛ أو تشرفت بتكريمه لي معقباً أو داعماً في بعض القضايا التي تُثار على "فيس بوك"؛ بما يضيف إلي الكثير والعميق من المعلومات.

لكنني قبل أن أتواصل معه في هذا الفضاء الافتراضي؛ كنت أحد قارئي ودارسي مؤلفاته العديدة التي سمحت لي الظروف بالحصول عليها من مكتبات القاهرة ومعارض الشارقة للكتاب؛ وقد استفدت شاعراً من كتابه "مفهوم الشعر عند شعراء العباسيين" والذي بذل خلاله جهداً مميزاً في التأصيل المعرفي لهؤلاء الشعراء من بشار إلى أبي العلاء؛ عبر الرصد الشامل لدواوينهم وأشعارهم المبعثرة في الكتب، ومناقشاتهم مع نقاد عصرهم والروايات المحيطة بأعمالهم؛ ومن دون شك فهذا الكتاب يحوي جهداً علمياً كبيراَ. 

أما كتاب " اللغة الأدبية والتعبير الاصطلاحي" فتجلى فيه الأستاذ الدكتور أحمد يوسف في التأسيس البحثي البلاغي الجديد في العربية؛ والذي وفق تصوري المتواضع أشعر أنه يُعدُّ تمهيداً لمشروعه الكبير الذي يفيض ببعض نفحاته أسبوعياً في صحيفة "العرب" القطرية حول القرآن الكريم؛ إذ أنه في هذا العمل الجديد؛ يوظف محيط جهده العلمي الهادر في إبراز جماليات وغنى التعبير القرآني؛ عبر – كما وصفتها مُسبقاً – استخدام مهارة النحلة في جمع الرحيق من أزهار القرآن.

إذ "ينتقي الأستاذ الدكتور أحمد يوسف "كلمة قرآنية" محددة أمثلها بـ "الزهرة"؛ فيهبط إليها؛ ويمتح من رحيقها استقاءً وأخذاً منها خلاصتها؛ ويعيد تقديمها عسلاً معرفياً مختوماً باقتداره البلاغي في مقالته. وبعد أن يجمع رحيق المعنى من كل "زهرة / كلمة قرآنية" يتفرغ ذهنياً لإنتاج عسل المعنى؛ فيأتي عذب المذاق وما أطيبه في شفاء قلوب "القرآنيين".

و"يقدم للمتلقى ما يحيط معرفياً بالكلمة الطيبة ودلالاتها القرآنية، وربطها بالمجال الدلالي القرآني باعتبارها شجرة طيبة؛ كاشفاً الدلالات المعرفية والنفسية للمفردة؛ مع الإشارة إلى تحليلها "الفوناتيكي" و"الفونولوجي" لتبيان ما تحدثه الأصوات داخل البنية اللغوية للكلمة/ الزهرة من كشف جماع المعاني والدلالات التي تكمن في باطنها".

*****

أستاذي الدكتور أحمد يوسف؛ جَعل الله أجرك كبيراً؛ أولاً لإنسانيتك وتواضعك؛ وثانياً لجهدك في علوم اللغة؛ وثالثاً لمشروعك الدُّرِّي القرآني المنتظر.

"رأفت السويركي"
شكراً "فيس بوك"... حقاً إنه صديقي الدكتور مصطفى بيومي!!
----------------------------------------------

عقل "فيس بوك" الفاعل في هذا الفضاء الافتراضي لا ينسى؛ ذاكرته المبرمجة ذات يقظة فائقة، بعد أن يفتح آفاقا لا حدود لها لعقد الصداقات، لا يُهْمِل التذكير بكل محاسنها. وإحدى محاسن عقل "فيس بوك" أنه ذكرني بموعد بدء صداقتي للعزيز طيب النفس؛ وجميل الشخصية الأستاذ الدكتور مصطفى بيومي Mustafa Bayyumi؛ صاحب القامة البحثية بعمقها الجديد؛ وإطلالة الود التي تفوح من كلماته ومداخلاته.

والصديق الرائع الدكتور مصطفى بيومي عرفته قبل الصداقة الافتراضية من إسهاماته النقدية البارزة؛ وإطلالاته المتميزة في عالم النقد الثقافي الجديد عبر كتبه وأبحاثه؛ متسلحاً بأحدث النظريات في هذا المجال؛ ليس مُنبتاً عن الجذور العربية الأصيلة؛ ولكنه الذي يقيم عليها أساسات الجسر الواصل بين القديم والحديث؛ من منظور إنساني عميق.

الدكتور مصطفى بيومي لا يُضحي بالموروث من أجل الحداثة وما بعد الحداثة؛ ولكنه محكوم في الفهم الثقافي والنقدي بأن الثقافة هي خطاب إنساني، محذراً من الوقوع في خطيئة التقسيم بفخ "ثقافة الأنا في مقابل ثقافة الآخر"، ويحيل ذلك إلى خلل هيمنة مفهوم "الاستعمارية"؛ والذي قد تقع في شَرَكِهِ بعض الأنا التي تتصور شغف مطمع الآخر؛ وبعض الآخر الذي قد يتربص بـ "الأنا"؛ فيما الثقافة هي تجلٍ لطبيعة إنسانية. 

الدكتور مصطفى بيومي في هذا المجال معطاء بالمؤلفات الدالة على حضور واثق من أدواته الثقافية حين يقارب إشكاليات التراث؛ ويفككها بعلمية متخصصة محصنة بالأدوات التي هي من جنسها الثقافي؛ لذلك تجد منتوجاته الثقافية عامرة باصطلاحات مثل "التناص" و"التفكيك" و"المقاربة" و"سوسور" و"رولان بارت" و"دريدا"؛ وتوالد الدال، والنسق والعلامة اللغوية؛ والحداثة وما بعدها؛...إلخ

وأذكر أنه نشر تدوينة على جداره بعنوان "التفكيك" كانت دالة على اقتداره العلمي من خمسة أسطر؛ وخضت شخصياً مغامرة تفكيكها ظهرت في كتابة كبيرة الحجم بعنوان "تفكيك" قول الدكتور مصطفى بيومي حول "التفكيك"؛ وأبرزت فيها طبيعة انتمائه الثقافي؛ واحترافه العلمي في عرض موقفه من القضية بذكاء مشهود.

إن الانتاج العلمي للصديق الدكتور مصطفى بيومي يجعلنا نطمئن إلى مستقبل المدرسة النقدية الثقافية في مصر والعالم العربي؛ لأنه يحمل رؤية بمنظار العصر لموروث عربي عميق أصيل؛ ينبغي أن نوالي النظر إليه برؤى تعيد إنتاجه فهماً بما يوافق تطور الفكر الإنساني كيما يبقى فاعلاً في وجداننا.

 الصديق الدكتور مصطفى بيومي... أشكر "فيس بوك" الذي أتاح لي هذه الصداقة المعرفية والإنسانية.

 "رأفت السويركي"


 

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2016

تفكيك خطاب العقل النخبوي الإعلامي المهيمن (43 )
إعلام واقع "خريج التوك توك"... يكشف واقع "إعلام التوك توك شو"؟!!
-----------------------------------------------

تجبرني المستجدات السياسية اليومية في المسألة المصرية لتأجيل مواصلة حلقات سلسلة "تفكيك خطاب العقل النخبوي الإسلاموي المتأخون"؛ خاصة إذا طرأت متغيرات تتطلب إلقاء أضواء الكشف عن محركاتها؛ وأحدها يرتبط بحالة الهياج العشوائي للتنظيم المتأخون الذي لا يهدأ عبر الأتباع في الداخل المصري بدعم الخارج سعياً لمزيد من التوتر.

وفي هذه المرة تنتقل الكتابة إلى عنوان "تفكيك خطاب العقل النخبوي الإعلامي المهيمن"؛ بمناسبة قصة السائق الذي وصف نفسه بأنه خريج "التوك توك" في مقابلة من نوعية ما يُسمى "تلفزيون الواقع" والتي تبدو في ظاهرها عشوائية وبمحض المصادفة غير أنها في حقيقتها ذات قصدية عن سبق إصرار وترصد؛ ضمن برنامج "واحد من الناس" للإعلامي التلفزيوني عمرو الليثي؛ والتي يمكن إطلاق اسم "واحد من الإخوان" عنواناً لهذه الحلقة!!

ومفتاح القراءة التفكيكية هنا سيكون اصطلاح "خريج التوك توك" الذي ورد على لسان ذلك المواطن الذي لم يذكر مقدم البرنامج اسمه؛ غير أن المواقع الإلكترونية قدمت بعد ذلك من المعلومات ما يكفي لكشف شخصيته؛ ومحركاته الإنفعالية والقولية؛ وبالتالي خطابه السياسي إذا كانت هذه المعلومات حقاً موثوقة.

وعقب رواج مقطع فيديو الحلقة مرر الإعلامي عمرو الليثي تصريحاً يُفيد أنه تلقى اتصالا هاتفياً من المستشار السياسى لرئيس الوزراء المصري للتعليق على الفيديو غير أن الليثي أوضح للمستشار "أن فريق البرنامج لا يعرف أي معلومات عن السائق ولا حتى اسمه الأول، خصوصاً وأنه غادر بعد ما أنهى كلامه مباشرة"!!!

والتساؤل المهني المنطقي لكشف ضعف هذا القول: كيف يُحصِّن "فريق البرنامج نفسه" إذا تعرض للمساءلة القانونية عن بث مادة لا يعرف أية معلومات عن قائلها؛ وهل يجوز للإعلامي أن ينقل أية معلومات تصله أو يسعى إليها من أي مصدر من دون تأمين مصداقيته المهنية بالدليل الثبوتي حين المراجعة القانونية؟

واستطراداً فإن ما يقفز إلى الأذهان على الفور هو ما المقصود من سؤال الجهة الرسمية عن "سائق التوك توك"؛ لذلك اشتعلت المواقع بأخبار اختفاء هذا الشخص وأسرته عن الأنظار وأنه لا أحد يعرف مكانه؛ إيحاء بأن الأمن سيلاحقه أو أنه يلاحقه!!

فهل يمكن أن تسقط الدولة العميقة في مصر في فخ إلقاء القبض على شخص بالتعبير الشعبي "يُهرتل" بعبارات سياسية محفوظة ومكرورة؛ ليس بها جديد أكثر مما تقوله برامج تلفزيون الواقع و"التوك شو" نفسها كل ليلة، وتنقل كثيراً منها عن حسابات وسائط التواصل الاجتماعي؟

والسؤال الكاشف هنا يدور حول ظاهرة دأب الفضائيات التلفزيونية وتحديداً الخاصة والمملوكة لفئة الرأسمالية الطفيلية المصرية في صناعة صورة مزيفة بأن الدولة المصرية في مرحلة الرئيس عبد الفتاح السيسي هي دولة بوليسية قمعية ستقبض على أي شخص يقول ما يخالف المطلوب.

ولكن هذا الخطاب النخبوي المشبوه يتهاوى أمام نمط خطابات "الصراخ والولولة" التي تطلقها برامج الواقع و"التوك شو" كل ليلة من دون وازع وطني أو تقدير حالة... ولم تثبت أية محاولات رسمية من الدولة للجمها أو قمعها؛ على الرغم من أنها نوعية منفلتة من الإعلام التلفزيوني الناشز التي تبني وعياً مضللاً بحقائق الحياة والأحداث في مصر الآن. 

إنها إذن محاولة نخبوية إعلامية سياسية مدروسة لترسيخ الصورة المشوهة للدولة المصرية الجديدة، والتي تجدها بكثافة في خطابات التنظيم المتأخون وكذلك لدى التيارات الإيديولوجية من الاشتراكيين الثوريين وجماعة 6 ابريل وأمثالها ممن تحترف الدعوة لما يُسمى "الديموقراطية" و"حقوق الإنسان". 

*****

وتجلية لألغاز مسألة "خريج التوك توك" فإن من المواقع الالكترونية المنحازة له ما كشف معلومات عن هذا الشخص؛ وأوردت أن اسمه هو "مصطفى عبد العظيم الليثي" ويبلغ من العمر 35 عاماً؛ وقد اختفى وغادر شقته الصغيرة التي يقيم فيها بمساكن الشباب – أي مشروع أقامته الدولة - بمدينة 6 أكتوبر جنوب القاهرة عقب تصريحه للبرنامج، وهو متزوج ولديه ولدان وزوجته تعاني من عدة أمراض"!!

فيما ذكرت مواقع أخرى مضادة لتوجهه: أن اسمه هو: محمد جابر، ووظيفته الأصلية هي مدرس إعدادي؛ وأنه كان عضواً بحزب جماعة الإخوان المسلمين "الحرية والعدالة"، وأنه يمتلك محلاً لصيانة الكومبيوتر؛ وهو متزوج وله ولدان؛ ووالد زوجته هو صاحب مدرسة خاصة يعمل مديراً لها؛ وتلك المدرسة موضوعة تحت الحراسة لأنها "مدرسة إخوانية".

وأمام الروايتين يبدو الاختلاف كامناً فقط في الاسم من دون بقية المعلومات حول أسرته؛ وبتحليل منطوق كلماته يتكشف أن هذا الشخص الذي يدَّعي أنه خريج "التوك توك" نال حظاً كبيراً من التعليم أكسبه طلاقته الحكائية؛ وانسيابية كلماته وتدفقها بيسر وحماسة انفعالية؛ حتى ليبدو أنه قد حفظها عن ظهر قلب من دون توقف أو تردد؛ وهو ما قد يدل على طبيعة وظيفته كمعلم!!

وإذا أخضعنا للتفكيك ما قاله لنعرف حقيقة خطابه السياسي وما الذي يستهدفه؛ لبدت جلية محاولته ترسيخ صورة سوداوية للدولة في إطار العزف الراهن المضاد لها؛ حيث نجد أنه أشار إلى العناصر التالية:

- يقول:" بالله عليك... دولة - يقصد مصر- لها برلمان ولها مؤسسات عسكرية ومؤسسات أمنية خارجية وداخلية ولها 20 وزارة، حالها يبقى بالوضع والشكل ده إزاي؟!!". إنه بهذا القول يعيد تكرار ما يضخه الخطاب الإعلامي المضاد بترويج صورة مخادعة حول مصر الدولة المتماسكة التي يَأتي جيشُها في المركز الثاني عشر عالمياً الآن حسب التصنيف الأميركي؛ وهو أقوى من الجيش "الإسرائيلي"؛ ويتصدر الموقع الأول عربياً.

- ويضيف:" قبل الانتخابات الرئاسية – يقصد مرحلة المتأخون المعزول محمد مرسي - كان عندنا سكر يكفينا ورز بنصدره، إيه اللي حصل؟ نتفرج على التليفزيون نلاقي مصر فيينا - يقصد مرحلة السيسي- ننزل الشارع نلاقيها بنت عم الصومال". وهو بهذا القول يُعيد ترديد الخطاب المتأخون والمتوهم بأن مرحلة محمد مرسي كانت سخاء رخاء!!

- ويواصل: "الناس اللي فوق - يقصد الرئاسة المصرية - جايبين 38 وفداً، وبيصرفوا عليهم 25 مليون جنيه، المواطن الفقير مش لاقي الرز في الشارع، هل ده يرضي ربنا؟"! ورغم عدم دقة الأرقام التي ذكرها فإنه يتناسى أن الاحتفالية هي بمرور 150عاماً على إنشاء البرلمان المصري. وهو بذلك يعيد الخطاب المتأخون نفسه؛ المضاد للديمقراطية ويشوش عليها تباكياً بالجوع فيما لا يوجد بيت مصري ينام من دون طعام؛ وينسى أن ينظر إلى ما يرتديه من ملابس ظهر بها في فقرة البرنامج؛ وهي ملابس لا تتفق مع الصورة النمطية الشائعة عن ملابس سائق "التوك توك"!!

- ويستطرد: "بيطلعوا في التليفزيون ويقولوا مصر بتنهض- يقصد تصريحات السيسي - وما فيش أي حاجة، وبنرمي الفلوس في مشاريع قومية ملهاش لازمة، والتعليم متدني لأسفل مما تتخيل، إزاي يبقى عندي بني آدم تعبان ومش متعلم وأعمله مشاريع زي ديه"! إنه هُنا يكشف هويته الوظيفية الأصلية كمعلم ويعيد تكرار خطاب التنظيم المتأخون في تربصه بالدولة محاولاً أن يهيل التراب على كل المشروعات الجديدة الدالة على استراتيجية إعادة بناء دولة؛ تكريساً لشعور تيئيس الجماهير بأن عبد الفتاح السيسي لم يفعل شيئاً.! 

- ويواصل:"بالله عليك دي مصر يا جدعان اللي كانت مِسلِّفة بريطانيا، مصر اللي عملت تاني خط سكة حديد في العالم، وكان الاحتياطي النقدي بتاعها أكبر احتياطي نقدي في العالم، يوصل الحال بيها كده؟"! وهذا القول من الغرابة أن يقوله سائق توكتوك؛ إلاّ إذا كان يجتره من الخطاب المتأخون وهو حقٌ يراد به باطل؛ فالدولة في مرحلتها الراهنة من رئاسة السيسي الذي أمضى عامين ليست مسؤولة عن التردي البنيوي الذي حدث في المرحلة المباركية – أربعة عقود - وفترة تمكين المتأخونين القصيرة التي أضاعت الاستقرار؛ وكادت تفتت مصر!!

- ويوالي:"مصر اللي كان تحت سيطرتها السودان وتشاد والسعودية، حبة دول من الخليج يتريقوا علينا ويقولوا بنديكوا وبنعملكوا، وإحنا اللي كان تشريفاً لينا كانت كسوة الكعبة بتطلع من مصر، هل ده يليق بمكانة مصر؟ هو ما فيش حد قلبه على مصر ولا بيحبها يقول لأ"!! ويأتي قوله هذا تأكيداً جديداً بأنه يردد خطاب المتأخونين والمتأدلجين الراهن في سعيهم الدؤوب لنزع مصر من سياقها العربي بإثارة الشبهات والفتنة ضد الالتفاف العربي الخليجي حول مصر لفض كل جهود دعم الأشقاء للدولة الجديدة؛ ويتناسى أيضاً ما يمكن تسميته قانون "دوران الثروة" الوجودي الذي يمكن إدراكه من السُنَّة القدرية المكنونة في القول القرآني الكريم: { وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس} - ( آل عمران: 140).

- ويصل "خريج التوك توك" إلى "مربط الفرس" الذي يقصده بالقول:" شوية تجار بيضحكوا على الناس بحجة الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية - يقصد السيسي والحكومة المصرية- وعهودهم بعيدة كل البعد عن الديمقراطية والعدالة"!! وهنا تأكيد جديد على أنه يعيد ترديد مقولات المتأخونين نفسها والمتأدلجين؛ بزراعة الشكوك في مستقبل الدولة أن تكون هناك ديموقراطية في إطار إعادة البناء بالشروط الموضوعية؛ لأن الذين يحكمونها هم من العسكر.

إن منطق تفكيك الخطاب لا يضع "خريج التوك توك" في موقف الاتهام بالانتماء للتنظيم المتأخون؛ اذا لم يكن منتميا بالفعل غير أنه على الأقل يثبت تأثره بخطاب ما تردده الفرق السياسية الضالة المضادة للدولة المصرية راهناً؛ وما تضخه عبر فضائياتها الموجهة من الخارج ومواقعها الالكترونية.

ولعل التغريدة على موقع "تويتر" التي كتبها من يُسمى الدكتور علي القرة داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي يرئسه المتأخون الكبير الدكتور يوسف القرضاوي تثبت ذلك؛ إذ قال في نصها:"أكاد أجزم بأن #خريج_التوكتوك المصري يفهم في السياسة ويحترق قلبه على بلده أكثر من كل الذين يحكمون مصر الآن ومن كل من يساندهم !" وهكذا يارجل يصل بكم المستوى من الاحتقان ضد الدولة المصرية!!

*****

إن مقصود هذه الكتابة هو الانطلاق من حالة دراسة خطاب "خريج التوك توك" إلى تفكيك آداء "خطاب العقل النخبوي الإعلامي المهيمن" الذي أشهر تلك الحالة؛ وفي واقع الأمر أن نوعية الآداء الإعلامي الذي تعكسه نوعية "برامج الواقع" و"التوك شو" المباشر أو المسجلة يمكن أن يوفر للجهد التفكيكي ضبط تشابهات كثيرة في الآداء متماثلة مع آداء وسيلة النقل المسماة "التوك توك" في الواقع المصري!

لذلك يمكن اقتراح توصيف بإطلاق مسمى "إعلام التوك توك شو"؛ على الحالات التي لا تلتزم بالشروط العلمية المستقرة في علوم الإعلام؛ أي التي تضمن معيار التوازن بتقابل الرأي والرأي الآخر في الوقائع حين تمرير الرسالة الإعلامية إذا كان البحث عن الحقيقة هدفاً؛ حتى لا يترك المتلقي أسير وجهة نظر واحدة ترسخ صورة مغلوطة لديه خاصة في قضايا الرأي العام.

وغياب شرط ذلك التوازن يجعل الآداء الإعلامي منتجاً صورته عشوائية خارجة عن الالتزام بالقواعد والأسس والنظم والمعايير المستقرة؛ وهو ذاته ما يتوافق مع "آداء التوتوك" في الشارع كوسيلة انتقال هجينة، وعشوائية في الحركة والشكل، وغير منضبطة أو ملتزمة بالقواعد المرورية وشروط القيادة.

*****

إن ظاهرة "التوك توك" كانت نتاج فعل الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مصر؛ خلال المرحلة المباركية من الحكم الهابط الذي ارتفعت فيه معدلات البطالة المخيفة وتسرطنت، نتيجة افتقاد خطط التنمية؛ فحدثت الهجرات المعاكسة من الريف إلى حواف المدن ونشأت التجمعات السكانية العشوائية الخانقة؛ في الوقت نفسه انتعشت وتوحشت الرأسمالية الطفيلية المصرية بكل مواصفاتها المرضية؛ بل وأنشأت فضائيات خاصة؛ تفرض من خلالها خطابها الانتفاعي السياسي والاقتصادي والقيمي؛ وتمارس ضغوطاً شتى على الدولة المصرية في الوقت الراهن؛ لتوجسها الكامن بأن نهوض الدولة التنموي من جديد الذي ترعاه المؤسسة الوطنية العسكرية يمكن أن يُعيد مصر إلى مربع قديم تحن إليه الجماهير، حين كانت تقوم فيه الدولة بالنشاط الزراعي والتصنيعي والتأميمي؛ وهو ما يتصادم مع المصالح الاستراتيجية للرأسمالية الطفيلية!

لذلك فإن تعبير من وصف نفسه بأنه "خريج مدرسة التوك توك" كان تعبيراً جمعياً مقبولاً من العقل النخبوي الإعلامي؛ متفقاً مع الإدراك الداخلي لهذا العقل بأن مدرسة "إعلام التوك توك شو" هي ظاهرة مهيمنة في غياب إعلام الدولة؛ وكان يقتضي الموقف المهني أن يقوم المذيع بالتعقيب على كلام المتحدث، وإبراز مدى صوابه وخطئه بحيادية مفترضة من الإعلام حتى وإن كان من نوعية "إعلام الواقع" في غياب من يتولى طرح وجهة النظر المقابلة... وهذا هو ما لم يحدث!!

*****

والسؤال المهم: إذا كانت ظاهرة "التوك توك" صارت واقعاً دالاً على التردي الخدماتي للنقل طيلة المرحلة المباركية؛ وجاء الرئيس المتأخون المعزول محمد مرسي ليُرسِّمها وجوداً رسمياً في أحد خطاباته حين قام بتوجيه التحية إلى سائقي التوك توك؛ أي يعترف بها في الوقت الذي تعاني فيه الدولة من وجودها العشوائي؛ فهل كان خطاب "خريج التوك توك" يوفر المشروعية الإعلامية للبروز؟

إن أي عقل سياسي يقرأ الصورة بعلمية اجتماعية؛ لا بد أن يضع بث وإشهار خطاب "خريج التوك توك" بكل محموله السياسي الناقم على الدولة المصرية الآن وبالطريقة التي تم تعميمه بها وللوهلة الاولى في إطار التجهيزات التي يُعلن عنها من الفريق المتأخون والفرق المتأدلجة؛ بما يروجون له عما يسمونه "ثورة الغلابة في 11/ 11 حركة غلابة".

ويأتي خطاب "خريج التوك توك" ليرفع معدلات التهيؤ للتمرد الاجتماعي ويحقق ظروف المزيد من الحشد المتوهم الذي تحلم به تلك القوى الناشزة اجتماعياً؛ بترويجها أن ما تقدمه الدولة في مصر الآن هي وعود وهمية سيترجم الرد عليها في "غضبة شعبية تنتظر السيسي في الساعة11 يوم 11/11".

ولعل الاتجاه الرافض لذلك الخطاب، وما يثار من ضجة حوله يجعله وسيلة للاتكاء على مضمونه ضمن إطار رفع معدلات التوتر الاجتماعي بما يشهده الشارع من ارتفاع مفتعل في الأسعار؛ وحجب واكتناز السلع في مخازن خاصة بسبب جشع الرأسمالية الطفيلية التجارية؛ والتحركات الجرمية كما حدث في قضايا تعطيش السوق من عملة الدولار. 

إن الإعلام الخاص العشوائي المشابه في آدائه لآداء "التوك توك"" بما يقدمه من برامج الواقع و"التوك شو" يحاول أن يوفر شروط رفع درجة الاحتقان الشعبي؛ حين لا يتبع القواعد الإعلامية المتعارف عليها؛ وهو في رسالته أحادي النظرة؛ إذ لا يقوم على سبيل المثال بكشف صور الفساد والتواطؤ والطرق الملتوية التي تتبعها الرأسمالية الطفيلية في الحصول على امتيازاتها وتضخيم ثرواتها.

ويزيف ذلك الإعلام خلله المنهجي بالتركيز على تدني مستوى الخدمات في المرافق العامة نتيجة التردي الاقتصادي في مصر خلال المرحلة المباركية؛ ولا يقوم لو كان أعلاماً وطنياً على سبيل المثال بكشف التكلفة المالية المُغالى فيها للحصول على الخدمات من المرافق الاستثمارية الخاصة التي تمتلكها هذه الفئة من رجال المال والأعمال؛ والتي نمت وتسرطنت مقابل إهلاك الدولة التي كانت تهتم فقط بتوفير الرواتب الشهرية لملايين الموظفين الذين لا يعملون.

*****

كان ينبغي على الإعلامي عمرو الليثي نجم برامج الواقع ألاّ يترك الميكرفون والكاميرا في استحواذ "خريج التوتوك" وهو يكرر خطاب الفريق المتأخون بسرعة صاروخية؛ من دون تعقيب توضيحي منه، حتى لا يضع نفسه في حرج ما يطاله الآن من توصيفات مرتبطة بأنه كان مستشاراً للرئيس المتأخون المعزول محمد مرسي. 

وفضلاً عن ذلك وهو الذي اهتم في برامجه بالعشوائيات وإلقاء الأضواء على مابها؛ كان ينبغي أن يخصص من حلقات برامجه ما يقوم فيها بزيارة المجتمعات البديلة الجديدة التي أقامتها الدولة تنفيذا لوعود الرئيس عبد الفتاح السيسي بالخلاص من العشوائيات خلال عامين على الرغم من كبر عددها.

فهل نستفيد من خطاب "خريج التوتوك"... بأنه كشف واقع "إعلام التوك توك شو"؟!!

"رأفت السويركي"

 خريج التوتوك يتكلم بما لا يتناسب مع قول سائقي التوتوك
 عمرو الليثي ينقل رسالة لا تنفصل عن تهيئة المناخ لما تسمى ثورة 11/11
 شهادة تحدد ملامح خريج التوكتوك
 اخرى تتفق في تحديد الهوية السياسية
 عمرو الليثي يحاور المعزول محمد مرسي وفي الصورة الثانية يرافقه مستشارا

الأحد، 2 أكتوبر 2016

حين تكون قراءة اللوحة الخطوطية... ملتبسة!!



إشكالية أثارتها "حروفية" منير الشعراني

حين تكون قراءة اللوحة الخطوطية... ملتبسة!!
---------------------------------

كنت ولا أزال أتابع المشروع التشكيلي للفنان الحروفي الكبير منير الشعراني باهتمام كبير، في إطار اهتمامي الذاتي بتقديم مشروع شعري تجريبي خاص بالقصيدة الشعرية البصرية منذ ثمانينات القرن الماضي، وقد نشرت عدداً من قصائد هذه النوعية الشعرية البصرية في دورية "شؤون أدبية" الصادرة عن اتحاد كتاب وأدباء الامارات.

وتنطلق هذه التجربة الشعرية من إحساس معرفي، بأهمية أن تسترد الثقافة العربية جانبها البصري المسكوت عنه، بدلاً من هيمنة الشفاهية على النوع الشعري العربي تاريخياً إلى الآن، وكانت قصائد تلك التجربة؛ يتماهى فيها الشكل مع المضمون، لتكون القصيدة وحدة واحدة، لا ينفصل فيها الشكل عن مضمونها القولي.

لذلك يشدني أي عمل تشكيلي، للتأمل والتفكيك، للإمساك بمواطن الجمال، والاستمتاع بما يصل إليه العقل من رسائل المبدع في النص أو اللوحة، ولعل صداقاتي الكثيرة للتشكيليين في "فيس بوك" تقدم لي وجبات تشكيلية دسمة، استمتع بها؛ وأحيانا أتدخل بالتعقيب على بعضها، وأسجل انطباعاتي، وملامح تفكيكي لهذه الأعمال الفنية، مباشرة أو من خلال ما يقوم الأصدقاء بإعادة نشره عبر صفحاتهم.

*****

وكانت أحدث تلك المحاولات، من خلال صفحة الأستاذة الدكتورة اعتدال عثمان Etidal Osman حيث قدمت تحليلاً للوحة التشكيلي الحروفي الكبير منير الشعراني التي نشرها بعنوان" لا إبداع حيث لا حرية"، وتولت الدكتورة اعتدال تحليل مكونات اللوحة الحروفية باقتدار بما نصه:" حكمة أصابت كبد الحقيقة كما يقال، اللاء الأولى والثانية متناظرتان ومغلقتان على أول واخر حروف كلمة "حرية، حيث يرتكز التشكيل على قاعدة إبداع المؤطرة بألفين سامقتين... لون الحروف الأصفر الذهبي المشع بالمعنى ذي النقاط الحمراء النارية يبرز على خلفية اللون الأزرق المركب".

*****

وكان أن تداخلت بكتابة تعليق على اللوحة محتواه:" استخدام هذه النوعية من الحروف الاسلامية يعطي ايحاء بالقداسة الروحية التي تكسب المقولة قيمة، ولو كانت العبارة توسطت المركز في فضاء اللوحة لكانت الدلالة أعمق، باعتبارها مقولة مركزية، غير أن موقعها الراهن أعطى انطباعا بأنها مقولة صاعدة إلى المركز".

ولمزيد من التوضيح ذكرت أنني توقعت" أن يضع الشعراني عبارته المركزية وسط فضاء اللوحة، كأنها الكوكب الدري الذي يتوسط الفضاء التعبيري، وقد أعطى استخدام الخط الاسلامي إحساسا بقداسة الرموز الاسلامية، فهناك ما يُعطي انطباعا بمئذنتي المسجد، وكتلة خطية تعطي الانطباع بالقبة الرئيسة لمسجد، إنها قراءة شكلية للوحة"، راجيا أن تكون القراءة مناسبة.

*****

ويتدخل المبدع منير الشعراني (Mouneer Alshaarani) بالكتابة :" ليس هناك ما يُسمى خط إسلامي، هو خط عربي لأن مادته هي الحرف العربي، وهو ليس مرتبطًا بالدين، بل استخدمه الدين كما استخدم اللغة التي تكتب به:" إنا أنزلناه قرآنًا عربيًا"، ولا رموز دينية في العمل، وهو يدور حول مسألة أرضية لا علاقة لها بالكواكب والفضاءات الميتافيزيقية، ولا علاقة للعمل بأي من الرموز المقدسة ولا بالمآذن والقباب، هو عمل مرتبط بالأرض والإنسان وإحدى المسائل التي يفتقدها في عالم يسيطر عليه المال والسلطة والدين المبرمج على خدمتهما."

*****

ونحن هنا إذن إزاء قراءة ذاتية ملتبسة للوحة الحروفية للشعراني؛ والتي أعتقد أنها تثير قضايا مهمة جداً في إطار التلقي للعمل التشكيلي الحروفي، وقد تكون الإشكالية خاصة بهذا النوع من العمل التشكيلي، الذي راكم أنماطاً من التعامل معه، تكشف عن إشكالية كبيرة فيما يتعلق بالعمل التشكيلي الحروفي، الذي يواجهه المتلقي المسلح بالمعرفة التشكيلية؛ فما القول بالمتلقي غير الاختصاصي، الذي يُقلّبْ في اللوحة، محاولاً تفكيك المقولات المرسومة، أو الكلمات المركزية في العمل التشكيلي الحروفي.

وهذا ما نحاول التعامل معه، لكشف كوامن هذه الإشكالية الفنية، متمنيا أن تكون في مداخلات الأصدقاء لاحقاً ما يجلو المزيد من جوانب القضية عبر الحوار الفني الدقيق:

• إن اللوحة التشكيلية؛ أية لوحة، تُعرف بأنها المساحة المنبسطة، المتضمنة للخطوط والأشكال التي يبتدعها الفنان، حاملة المضامين ذات الهدف المقصود، بحيث يصل إليها المتلقي عبر توظيف البصر، لمعرفة أحاسيس وأفكار الفنان التشكيلي، الكامنة في مخيلته، مترجمة لونيا وخطوطياً، بتشابكاتها في المساحة الفراغية المؤطرة، وبالتالي فموضوع اللوحة، هو تجسيد لمعتقد ورؤية، وثقافة ومسلكيات الفنان، في واقعه الاجتماعي.

• لكن اللوحة "الخطوطية" التشكيلية؛ تثير لدى مشاهدتها - على الرغم من جمالياتها - التباسات كبيرة، لأنها تخرج بالنوع عن وظيفته الإبلاغية المرتبطة بالكتابة؛ فيُضطر الفنان الخطوطي؛ لأن يرفق اللوحة بنص العبارة أو الكلمة التي أخضعها للعمل التشكيلي، نتيجة الخروج بالحرف عن شكل بنيته المتعارف عليها، ما يُحوِّل خطابها الإبلاغي إلى وظيفة جمالية تزينية؛ بوساطة المدِّ، والتدوير، والكسر الحاد، مُستفيداً من مرونة الحرف اللغوي، وتميز الحروف بالمطواعية؛ والاستجابة لتلبية رغبة الفنان وتصوره، ومحاولته ابتكار شكل جديد للحرف؛ قد يكون ذا نهايات مفتوحة لأعلى أو مغلقة، مع استخدام "التوريق" و"التضفير" من خلال المساحات المتعارف عليها بالتربيع والتدوير؛ وكل ذلك بغرض تقديم معمار مميز للحرف؛ مستفيداً من بنيته اللينة.

• لذلك تتجلى إشكالية كبيرة أمام الفنان الحروفي، ويجري اختبار نجاحه بوساطة المتلقي الاختصاصي؛ بقياس مدى التوفيق في إيصال المعنى الذي يستهدفه، عبر تحليل كيفية تطويع الفنان لبنية الحرف، بحثاً عن الإشارات الدالة على المعنى المقصود؟ ورصد مدى نجاح الفنان التشكيلي في إثارة خيال المتلقي، وذائقته بالتعبير عن الرسالة التي يستهدفها، وهل ابتدع الفنان الخطوطي من حركات الحرف ما يُغني عن الشرح؛ أم أنه يثير الالتباس في ذهن المتلقي؛ وتلك إشكالية بنيوية تؤثر على التعبير التشكيلي، فشكل الحرف ذو دلالة، إذ أن امتداده الطولي يُعطي الشعور للمتلقي بالتوغل في الارتفاع، وامتداده العرضي يعطي الإحساس بالتواصل الأفقي، وهكذا من الفنيات المحكومة بشكل الحرف، وهذا عكس التشكيل اللوني غير الخطوطي؛ حيث يتيسر للفنان التشكيلي؛ أن يمنح المتلقي الإيهام بمساحات اللون، واندماجاته، وتقاطعاته مع الألوان الأخرى.

• وهنا إذن تتجلى القيمة الجمالية للتشكيل الحروفي، أكثر من الاهتمام بالوظيفة الإبلاغية للعبارة أو الكلمة، والتي ينبغي أن تكون بالضرورة مانعة لإثارة الالتباس في التبليغ. لذلك على سبيل المثال اضطر قُدامى الوراقين، أو النسَّاخين إلى الالتزام باستخدام خط النسخ عند كتابة "القرآن الكريم" وكتب "أصول العقيدة"؛ منعاً لحدوث اللبُس لدى القراءة، وبذلك تمكن "القرآن الكريم" من الوصول كتابة سليماً من التحريف، منذ كتابته الأولى في الرقاع وجذوع الأشجار، بفضل جهد النساخين الأوائل الذين تولوا كتابته، ونسخه.

• وبعيداً عن هذه الوظيفة الإبلاغية المقدسة، يكون لفناني التشكيل الخطوطي الحرية المطلقة؛ كيفما شاؤوا لتطويع وتوظيف الحروف، وفق خيالاتهم وتجريبيتهم، وحسب مهارة واقتدار كل منهم، ليقدم لوحة تشكيلية، عِمادُها حركة الخط، واستجاباته، وتعلاقاته مع حروف أخرى، وقد يكون ذلك باستخدام اللون الأسود فقط، أو الألوان الأخرى، وهنا أيضاً، يخرج العمل الحروفي من وظيفته حامل خطاب إبلاغي مباشر، إلى خطاب جمالي مُثير للخيال.

وتخليصا للمتلقي من حيرة تفكيك الشكل الخطي، فإن الفنان الحروفي يقدم مرفقاً نص الكلمة أو الجملة المرسومة؛ منعاً للحيرة، التي قد تُفقد الحرف إبلاغيته الجمالية، فيبدأ المتلقي في التعاطي معها شكلاً جمالياً أكثر من التفكير في كيفية تعبير الفنان عن مدلول الكلمة أو الجملة المتشكلة.

*****
وهنا نبدأ التعاطي مع ما أثاره تعقيب الفنان الكبير منير الشعراني من قضايا مهمة، خلال تعقيبه على تعليقي:

- فقد كتب: " ليس هناك ما يُسمى خط إسلامي، هو خط عربي ، وهو ليس مرتبطًاً بالدين،...". وللتداخل مع رأي الشعراني، يُقال: إن المراجع اللغوية والتاريخية حسب المؤرخين ترسخ الانطباع بإسلامية اللغة العربية، فحسب ما ورد عن ابن عباس: " إنَّ أول من كتب بالعربية ووضعها هو إسماعيل بن إبراهيم على لفظه ومنطقه "، وهذا يعني أن اللغة العربية كانت "لغة التوحيد الإبراهيمي" وهو جوهر " العقيدة الإسلامية "؛ وبالتالي فلا غضاضة من إسباغ هذا الوصف الإسلامي عليها بالقول "الحرف الإسلامي".

- وفضلاً عن ذلك؛ فمن المعروف أن "الخطُّ العربي" انتشر في صدر الإسلام منذ بدء رسالة الرسول الأكرم محمد بن عبد الله "ص"، والذي عمل على نشر تعليم الكتابة بين المسلمين؛ نساءً ورجالاً حين حدد شرط تحرير بعض القادرين من أسرى قريش عقب "معركة بدر"؛ بأن يُعلم كل أسير منهم عشرة من أطفال المسلمين القراءة والكتابة. ما يعني الإشارة إلى زخم انتشار الكتابة العربية بدءاً من المرحلة الإسلامية.

- وتاريخياً، لا يمكن التغافل عما طال الخط العربي من تطوير كبير؛ في عهد بني أُمية؛ كما قفز الخط العربي قفزات هائلة مع الدولة العباسية، بإدخال الخليل بن أحمد الفراهيدي "علامات الفتح والضم والكسر والسكون والشد". ما يعني أيضاً، إسلامية الحروفية العربية.

- ولا يمكن نسيان ما قدمته مدينة "الكوفة" لإسلامية الخط العربي في ظلِّ عمر بن الخطاب، والتي ولّدت "الخط الكوفي"، الذي اعْتُمد خطُّاً دينياً لنسخ القرآن، بما يتميز به من بنية الحروف العمودية القصيرة، والحروف الأفقية الطويلة. وهو ما يُعد من ثوابت شكل الكتابة الحروفية إلى الآن، وبالتالي فهذا يؤكد أيضاً إسلامية الحروفية العربية.

- إن التشكيل العربي الحروفي، هو تشكيل محاط بضوابط العقيدة الإسلامية، مثل تحريم التجسيد، والتصوير والنحت، كضرورة مرحلية من ضرورات إنهاء "عبادة الأوثان". وقد انقضت تلك العلة التحريمية بانتهاء حالة صناعة الإنسان لتمثال إلهه من التمور أو الأحجار، ولأن صُلب عملية التشكيل الحروفي، هو تشكيل؛ يعتمد التشجير الممتد أفقياً إلى ما لانهاية، مع اللعب بالأشكال المُجرَّدة للمربع، والدائرة، والمُعيَّن، وشبه المنحرف، وسواه من الأشكال الهندسية الهاربة من التجسيد.

وبتأمل اللوحة الحروفية؛ تجد أنها تلتزم بمناخات التعبير الإسلامي، فيما يتعلق بالحروف، وامتداداتها وتحليقها في الفراغات الممتدة واللانهائية؛ تعبيراً عن مساحات الكونية اللانهائية. لذلك تأتي الحُروفية، باعتبارها شكلاً تعبيرياً إسلامياً، حيث تتخذ الطابع الديني ذاته؛ الملتزم إلى الآن بالتحريم، وكل أعمال منير الشعراني الحروفية التي اطلعت عليها؛ تلتزم بتلك الضوابط العقدية الإسلامية. إذن حين نصف الحروفية العربية بالإسلامية فلا نقع في الخطأ، لأنه فن ملتزم بتحريمات الإسلام عبر كراهات التجسيد.

- وإذا كان الفنان منير الشعراني ينفي إسلامية الحروفية التشكيلية؛ فإن ارتباط الحروف العربية بكتابة الوحي أكسبها الهوية الإيديولوجية الدينية؛ ويحضرني هنا مثال تدليلي عام، فالالمان برعوا في صناعة السيارات، وارتبطت أفخم ماركاتها باسمهم، ولكن جاء الصينيون واليابانيون، وصنعوا أيضا السيارات، لذلك شاعت تسميات السيارات اليابانية، والسيارات الصينية والكورية والهندية، بجانب السيارات الالمانية. ومع الاختلاف في التتشبيه لا بأس إذن من وصف الحروفيات العربية بالإسلامية، نتيجة التماهي المطلق بين اللغة العربية كنوع وهوية؛ والإسلامية كمسمى عقيدي.

- أما بالنسبة للآية الكريمة " إنا أنزلناه قرآنًا عربياً "؛ فهي تؤكد هوية اللغة العربية إسلامياً، ولا ضير من ذلك، لأن الإسلام هو العقيدة السماوية، ولا يمكن تجريدها، من هويتها؛ باعتبار حروفها أدوات الإبلاغ العقدي.

*****

لقد كان رأي الفنان منير الشعراني صائباً، حين ذكر أنه :" لا رموز دينية في العمل، وهو يدور حول مسألة أرضية لا علاقة لها بالكواكب والفضاءات الميتافيزيقية، ولا علاقة للعمل بأي من الرموز المقدسة ولا بالمآذن والقباب".
وصواب القول واجب، حين يتأمل المتلقي اللوحة الخطوطية بعد قراءته للعبارة التي وضعها الفنان خارج إطار اللوحة، ولكن لدي قناعة بأن هذا الكشف لمقولة اللوحة يفقد العمل متعته المفترضة، لأنه يحرم المتلقي من أن يُعمل عقله في تفكيك اللوحة، ورصد المؤشرات الكامنة بها، وتأمل أجوائها؛ فحين يكتب الفنان بجانب لوحته على سبيل عبارة "معاناة شجرة" فإنه يحرم المتلقي من متعة توليد المعاني بذاته، من الأشكال والألوان وكثافاتها ومساحاتها، أي يفقد لذة استنباط الأشكال المندمجة في اللوحة.

*****
وتجربتنا في القراءة مع خطوطية منير الشعراني تلك؛ أغفلت من دون تقصد، الالتفات للمكتوب النصي خارج إطار العمل، أي عبارة " لا إبداع حيث لا حرية"، ما استدعى النظر إلى الحروف داخل اللوحة ككتلة لونية بصرف النظر عن معناها؛ وانطلاقا من المعرفة بطبيعة الخطوطية وظلها العقدي والروحي المهيمن استحضر ذهن التلقي كل المفردات عن العوالم المقدسة، وقاس عليها مدى تجسيد الشكل لتلك الاجواء.

وهنا كان اختيار عبارة " لا إبداع حيث لا حرية" ذات الحمولة السياسية؛ يخرج بها عن وظائفية الحروفية العربية في هويتها التي اشتهرت بها، لتصبح تجريباً فنياً؛ من حق الفنان أن يقوم به، ولكنه يُخرج المتلقي عن دلالات حقل الإيصال الأساس للرسالة التشكيلية الحروفية، إلا لو كانت قصدية الفنان من العمل هي إبراز جماليات توظيف الحرف بعيداً عن مدلول العبارة.

وقراءتي تلك غير المتعمدة؛ تكشف الصورة الذهنية المرتبطة بالحروفية في التشكيل، إذ أنها أكثر التصاقا بالأجواء الروحية، ومكوناتها السديمية، والمتلقي كثيراً ما يرحل ذهنياً وبصرياُ مع امتدادت، وانحناءات الحروف، وانكساراتها، لأنها في امتداداتها العلوية تُذكِّر بالمآذن، وانحناءاتها توحي بالقباب، والحركات الصغيرة للحروف، وتشكيلها ونقاطها، تعطي إشارات بالمنمنات الزخرفية.

لذك يحدث الالتباس في عملية التلقي؛ وهذا ليس عيباً لدى الفنان إذا كان يقوم بالتجريب، وأيضا ليس لدى المتلقي، لأن المتلقي وفق نظريات القراءة الحديثة، أيضاً يُعيد انتاج معنى النص، أو الشكل الذي يًبدعه الأخر منتج النص الأصلي والذي تنقطع صلته بالعمل الإبداعي فور إنجازه ونشره.

*****
الإشكالية الالتباسية تلك أن الفنان منير الشعراني، عمل حُروفيا على عبارة ليست من حقل التعبير الديني " لا إبداع حيث لا حرية"، غير أنه كَبَّلَ نفسه؛ في الوقت ذاته من دون قصدية، فالتزم بالمحرمات العقدية للتصوير الإسلامي؛ بتشكيل عبارة ليس لها ظل ديني؛ وكان ينبغي أن يجسدها حروفياً بطريقة مغايرة للنمط المعروف في التشكيل الحروفي، لأن محمول العبارة سياسي أرضي، غير أنه شكلها بنمط هو من تقاليد التشكيل الحروفي.
كما أن عبارته تركز على قيمة "الحرية والإبداع"، وربط ذلك حسب تعقيبه بالقول:" هو عمل مرتبط بالأرض والإنسان، وإحدى المسائل التي يفتقدها في عالم يسيطر عليه المال والسلطة والدين المبرمج على خدمتهما".

*****

وكقارىء لعمله؛ يمكنني القول إنه ربما قصد استخدام هذه النمطية المستقرة للحروفية بهويتها الدينية، للتدليل على فقدان قيمة الحرية بهيمنة المال والسلطة والدين؟ّ!... وهنا هو مكمن الالتباس... ربما!!


 لوحة فنان الخطوط منير الشعراني
قصيدة بصرية من تجاربي على صعيد الشعر والشكل.
-------------------------------------------
هذه المقالة نشرت على جداري في "فيس بوك" بتاريخ 11 مارس/ آذار 2016

                                                                      "رأفت السويركي"
----------------------------------------------------------