تفكيك العقل النخبوي الرأسمالوي العولمي المتصهين (82 )
من "وعد بلفور" إلى "قرار ترامب" بالقدس عاصمة لـ " الدولة الصهيونية "... قراءة مغايرة!!
------------------------------------------------------

من وعد بلفور إلى قرار دونالد ترامب... اللعبة الرأسمالوية العولمية
والصور من شبكة الانترنيت


من وعد بلفور إلى قرار دونالد ترامب... اللعبة الرأسمالوية العولمية
والصور من شبكة الانترنيت

الفضاء مشتعل في الوقت الراهن بضجيج اللحظة المأساوية التي تمر بها المنطقة؛ بفعل الجرأة الوقحة والمنطقية من المنظور الأميركي سياسوياً للرئيس "دونالد ترامب"؛ والتي قونن " أميركيا/ صهيونيا " من خلالها اعتبار "القدس" عاصمة لــ "الدولة المتصهينة"، ووقع إشهاراً بذلك له الصفة الرسمية!
إن هذه الفعلة الكريهة، وردود الأفعال المترتبة عليها... ينبغي تفكيك خطابها، وصولاً إلى القراءة الصواب لها، حرصاً على عدم الانجرار العاطفي بالوقوع في أفخاخها وسيناريوهاتها المقصودة؛ والمصطنعة بحرفية ومهارة "مراكز التفكير"..."Think tanks" التي تخدم مؤسسات الاستخبارات الرأسمالوية؛ مستفيدة من خبرات الماضي المكتسبة، عبر التجارب المماثلة من سيناريوهات تم تنفيذها؛ وجرى اختبار وقياس نجاحها في الوصول إلى تحقيق المستهدف منها على كافة المستويات "الحكومية" والشعبوية.
*****
وإذا كانت هذه التدوينة التفكيكية ترى من المنظور الوجدانوي والأخلاقوي إلى أن ما ارتكبه دونالد ترامب هو فعل أحمق؛ فإن الفهم التفكيكي لهذا التصرف يُزيح تلك المشاعر وارتباطها بالوجدان الوطني جانباً؛ لينظر إلى هذا الجرم الفادح الذي ارتكبه ترامب من المنظور العلموي.
فما فعله دونالد ترامب بهذه الخطوة يبدو منطقياً - على الرغم من كراهيتنا له ورفضه قلباً وقالباً - لأنه يحدث في هذا التوقيت ضمن سياق استكمال سياسويا فعاليات "نهج العولمة"؛ الذي قادته وتقوده الولايات المتحدة الأميركية بنظامها الرأسمالوي الجامح بشراسة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي الخصم الأيديولوجي القديم وتفككه؛ باعتبارها تمثل قمة قوة التعبير والصانع لمسلكية التطور الرأسمالوي في نقلته العولمية، والتي تعلن بها هيمنة "المركز" على كل "الأطراف" المحيطة بها؛ وتطويعها مهما طال الأمد؛ للاندراج في سياق النوع السياسوي المرتبط بتطور النظام الرأسمالوي المهيمن!
إن ما فعله دونالد ترامب وهو – بصفته الشخصانية - العنصر المليارديري الذي يرئس "دولة المركز" في ذلك النظام العالمي؛ يمثل فعل المبادأة الاستثمارية المحسوبة؛ والاقتحام الجريء والمغامرة، وكلها سمات تتميز بها "شخصية الرأسمالوي المقامرة" ضمن إطار تكريس تطبيق هيمنة الطور العولمي للرأسمالية في منطقتنا؛ وهي منطقة الثروات الريعية المختزنة؛ من خامات النفط والغاز والمعادن؛ والطاقة النظيفة غير النافدة؛ والتي يمكن استيلادها من وجود الحزام الشمسي العريض الذي يميز المنطقة جغرافيا.
*****
إن ما ارتكبه دونالد ترامب من جُرم فاحش، هو في حقيقته تأكيد كريه لكينونة وتواصل مراحل تكريس "المشروع الصهيوني" / الرأسمالوي في حقيقته متدثرا للتمويه بغطاء عقدي "يهودوي" الهوية؛ إذ أن هذا المشروع المُقْتَحِم للمنطقة – وهي منبع الهويات العقدية الحنيفية واليهودية والمسيحية والإسلامية - جرى استيلاده سياسوياً وفق ما يناسبها منذ البدء برعاية "الرأسمالية التجارية التقليدية" آنذاك.
فقد كانت بريطانيا تمثل المركز الرأسمالوي القديم قبل انتقالاته إلى الطور الجديد المغاير عبر أميركا؛ فأشهر ذلك النظام القديم "المشروع اليهودي"؛ تتويجاً لذروة اختتام نمطية مرحلة "الغزو الاستعماروي" المباشر القائم على الاحتلال المادي للدول. لذلك كان إطلاق "وعد أو تصريح بلفور" بتاريخ 2 نوفمبر/ تشرين الثاني 1917م، والذي يشير إلى تأييد الحكومة البريطانية إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وكان الرد المضاد توصيفه بأنه عطاء "ممن لا يملك إلى من لا يستحق".
وانتهى طور الاستعمار الرأسمالوي القديم؛ ليتولد الطور الأميركي العولمي القائم على الهيمنة والاستحواذ بديلا عن الاحتلال المباشر، بفعالية احتكار الربط "السيبراني" الافتراضي الذي يحقق مستهدف العالم "قرية صغيرة"؛ لذلك فإن القرار البغيض لدونالد ترامب الخاص باعترافه غير المستحق بالقدس عاصمة لـ "الدولة الصهيونية" يأتي استكمالاً لمشروع انتزاع "فلسطين التاريخية" من نسيجها الأصيل "غير اليهودي"؛ تعبيراً عن التطور البنيوي لنهج تحقيق فعالية "طور العولمة"؛ وتكريسها في تفتيت المنطقة العربية؛ ضمن استراتيجيتها بإحداث تفتيتات العالم إلى جزر تكون موظفة في حقيقتها لخدمة الرأسمال الإمبريالي؛ وتلبية شراهته لتحقيق الربحية من كل أرجاء الكوكب.
لذلك لا ينبغي عزل هذا التصور التفكيكي عن مركز الصدارة في الفهم الموضوعي الحقيقي لما يجري من سيناريوهات مرحلية، يتم تأجيلها أو تطبيقها بناء على دراسات "تحليل الحالة" التي تكشف توافر الشروط الموضوعية لإنجاز المهمة المستهدفة.
إن قرار ترامب القائم على تكريس مشروع الاغتصاب الرأسمالوي القديم لفلسطين في إطار عولمة ذلك النظام، مرفوض منا شعوباً عربية، كما تجلى في ردود الأفعال الكبيرة التي هزت العديد من مجتمعاتنا المحكومة ذهنياً بالفهم المرتبط بانتمائها العقدي وظروفها السياسوية؛ لكن هذا القرار الأميركي في حقيقته - الذي تقف وراءه مراكز التفكير، ومؤسسات صناعة والادارة بالأزمات - يندرج ضمن النهج الرأسمالوي الهوية ولم يتخذ خبط عشواء، إذ جرى التمهيد المسبق له، وفق تراتبية قانون أن العولمة تتبنى وتصطنع الحركة السياسوية التي تخدم حركتها على الأرض.
*****
دونالد ترامب لم يخترع العجلة؛ فالكونغرس الأميركي صدق في أكتوبر/ تشرين أول 1995م على قانون يسمح بنقل السفارة الأميركية من "تل أبيب" إلى القدس، والاعتراف بالقدس في ذلك العام عاصمة لـ "إسرائيل"؛ ونقل السفارة الأميركية من "تل أبيب" إلى القدس في موعد أقصاه 31 مايو/ آيار 1999م.
وقد منح الكونغرس الحرية للرئيس الأميركي بسلطة تأجيل التنفيذ لمدة ستة أشهر، مع إحاطة الكونغرس بهذا التأجيل، فلم يقم بهذه الخطوة لمقتضيات الضرورة أيٌّ من الرؤساء الأميركيين المتعاقبين: بيل كلينتون، وجورج بوش الابن، وباراك أوباما؛ بسبب وجود أولويات استراتيجية مغايرة لهم في المنطقة؛ منها غزو العراق، وتدمير ليبيا، وتفتيت سوريا وما يسمى مشروع الربيع العربي؛ وجاء الدور ليقوم "المغامر الرأسمالوي" دونالد ترامب؛ بالخطوة المؤجلة، بعد أن وضعت أمامه "دراسات تحليل الحالة" بإمكانية البدء في التنفيذ المؤجل لتكريس إكمال مشروع استصناع الدولة الصهيونية بعاصمتها التاريخية.
"الكونغرس الأميركي" أعاد تكرار صناعة "مسلكية بلفور"؛ بلعب دور المانح الذي "يمنح مالا يمتلك إلى من لا يستحق"؛ وفي الحالين كان الطرف المشترك المستفيد هو "الدولة الصهيونية"؛ الابنة الشرعية للنظام الاستعماروي في طوريه الاثنين: التقليدي "بريطانيا"، والحديث/ العولمي "الولايات المتحدة الأميركية"!!
وبذلك تكون بريطانيا عبر "بلفور" أول من اغتصب "فلسطين العربية" وتحويلها إلى "إسرائيل الصهيونية"؛ وتكون الولايات المتحدة الاميركية عبر دونالد ترامب أول من اغتصب "القدس القديمة" من نسيجها وأعلنها عاصمة رسمية لـ " الدولة الصهيونية".
*****
ترامب يرتدي القلنسوة
لقد توهم الكثيرون انتهاء تنفيذ "سيناريو الشرق الأوسط الجديد" الذي تضمن قصدياً... إسقاط نظام الدولة وتدمير وتفتيت العراق إلى طوائف؛ وتدمير وتفتيت ليبيا إلى مجتمع "زنقات"؛ وتدمير وتفتيت سوريا بالمماثلة؛ وبدرجات متفاوتة في السودان واليمن؛ والأمر نفسه الذي فشل في مصر بفضل قوة جيشها الوطني ورجاله المخلصين؛ لكن ذلك السيناريو لا يجري إنهاؤه ولكن تعليقه إلى حين؛ حيث يتم توظيف تعديلاته المرسومة بناء على "تحليل الحالة". وما اعتراف الولايات المتحدة الأميركية بالقدس عاصمة مغتصبة لـ "الدولة الصهيونية"؛ إلا حلقة من حلقات هذا السيناريو المتغير، والذي يستهدف صناعة الشرق الأوسط الجديد!
إن التقنين الأميركي لاغتصاب "القدس"؛ يمثل مخالفة فجة لقرارات الأمم المتحدة، التي لا تعترف بسيادة " الدولة الصهيونية إسرائيل" على "مدينة القدس" بشكل كامل؛ ولكن السؤال هو... منذ متى تضع الولايات المتحدة الاميركية وزناً للتنظيمات الدولية الحاكمة مثل الأمم المتحدة ومؤسساتها؟ ومتى احترمت قراراتها إلا بما يخدم مصالحها واستراتيجياتها الكونية؟!
ومنذ متى لا يتورع النظام الرأسمالوي الذي عماده الأساس يتشكل من شخصيات يهودية الهوية في كافة أطواره القديمة؛ بدءاً من طور "المُرَابي الصغير"... وصولاً إلى طور "الشركة العولمية العابرة" لا يتورع عن سرقة الأفراد والشعوب والأوطان والمقدرات الخاصة بهم؟!!
*****
إن المشروع الاغتصابي والاستيطاني "الصهيوني الإسرائيلي" لفلسطين، يرتدي ظاهرياً المسوح العقدي والهوياتي؛ لترسيخ وجود ما تسمى" الدولة اليهودية"، في وسط تشكيلة مصطنعة يجري ترتيب الظروف لإشهارها لاحقاً مهما كانت المتغيرات من التكوينات الهوياتية العرقية والعقدية المذهبية.
ووفق هذا السيناريو ستتشكل خريطة "الشرق الأوسط الجديد" العقدي العرقي الهوية، تتوسطها الدولة اليهودية؛ وفي القلب "القدس/ أو بالعبرية حسب ويكيبديا: יְרוּשָׁלַיִם يِروشالَيم - أورشليم"؛ وسط المحيط الحاف بهذه الدولة العرقية؛ ويكون من الدول الصغيرة السنية والشيعية، والكردية والعلوية، والأمازيغية والنوبية، والمسيحية؛ و ... و ... إلخ مما تحتفظ به السيناريوهات المختبئة في الأدراج!!
*****
إن الرهان الأميركي في مرحلته الرأسمالوية العولمية مع "قرار ترامب" بانتزاع القدس وتحويلها إلى "أورشليم" يرتكن إلى اليقين بأن فعالية المواجهة المضادة لن تكون ناجعة؛ كما حدث في مواجهة "وعد بلفور"؛ فقد لقيت الجيوش العربية المهترئة بفعل الخيانة والفساد التسليحي آنذاك الهزيمة من العصابات الصهيونية المدعومة بالأسلحة، والمحمية من القوة العسكريتارية الجوية البريطانية.
وفضلاً عن ذلك وجود ما لا يجري الكشف الفاضح عنه للدور المخزي "المسكوت عنه" عمداً بالتضليل لما تسمى "جماعة الإخوان المسلمين"؛ والخاص بالقرار المشبوه المفاجئ الذي اتخذه "حسن البناء"، بسحب المقاتلين المنتمين للجماعة من أرض المعارك فور وصول الجيوش العربية إلى فلسطين؛ في حرب كانت تحتاج إلى نمطية حروب العصابات؛ وليس بكتل الجيوش النظامية من دون طيران حربي يدعمها؛ لأن العصابات اليهودية كانت تتمركز في مواقع يسهل الدفاع الفردي عنها بالمدافع؛ وكانت تحتاج إلى نمط المواجهة الفدائي.
القرضاوي ينفي ضرورة الجهاد في فلسطين المحتلة
كتابتي السابقة التي تكشف دور حسن البناء في إضاعة فلسطين
"حسن البناء" - وقد سبق أن قدمت تفكيكاً لقراره المشبوه ذلك - لم يكن يسعى لتحقيق الانتصار الحاسم على العصابات الصهيونية؛ وإنما اتخذ المشاركة غطاءً لتكوين ميليشياته العسكرية؛ فأصدر أوامره بإعادتها إلى مصر؛ بعد أن تلقت التدريبات محليا وميدانيا، ومارست العمل القتالي في أرض المعارك. والأمر هنا لا يسعي لكشف "الوجدان اليهودي" للبنَّاء؛ الذي يجعله يصف اليهود في كتابه "أحاديث الثلاثاء" بأنهم "جنس انحدر من أصول كريمة"؛ ويقول بفجاجة أن" وطنهم الأصلي فلسطين"!!!
إن ما يدعم هذه القراءة التفكيكية على هامش اغتصاب القدس رسمياً بالفعل الأميركي؛ هو استحضار الأدلة التي تنفي الطابع العقدي عن هذه المسألة؛ وتكشف كيف أن ما توصف توهماً بتنظيمات وجماعات الإسلام السياسوي والجهادوي... ليست سوى "بيادق" يلعب بها الراعي الإمبريالي الأميركي على الرقعة في إطار حالته العولمية.
فهذا التصور المعمم شعبوياً تجاه " أسرلة وصهينة القدس" وحتى – من المؤسف - نخبوياً بأنه يأتي تلبية لتحقيق مشروع عقدي خاص باليهودية؛ هو من دون شك يخفي ما هو في حقيقته يمثل التوظيف السياسوي حسب "فقه الحالة"؛ ليتواءم مع مواصفات وعناصر الجغرافيا الثقافوية المتمكنة من عنق عقل ووجدان أهل المنطقة؛ والتي تهيمن عليها وجدانيات و"فكرانيات" الماضوية المطلقة في النظر إلى الحياة والوجود، والفعل وقوانين الحركة بها من منظور "الحلال والحرام"؛ ومشروعات التمكين بنمط المغالبة والتصارع السياسوي لتحقيق الغلبة العقدية.
لذلك يستدعي ذلك العقل النخبوي المهيمن في المنطقة من مخزونه الماضوي فكرة المسلكية "الجهادوية"؛ ليتشكل منها ما يُسمى "الإسلام السياسوي"؛ والذي نشأ انطلاقاً من الفكر البنَّائي المنتسب إلى "حسن البنَّاء" ونسقه "الماسوني" و "الخوارجي" في بناء جماعته المتأخونة وتنظيمها الدولي؛ برعاية الغرب الرأسمالوي التقليدي والمعاصر؛ واحتضانها لتنمو وتنتشر وتتوحش؛ أداة من أدوات ذلك الغرب ومشروعه المتنامي وصولاً إلى تحقيق المرحلة العولمية.
ان ما جرى استيلاده من أنماط "القاعدة" و"داعش"... وقس على ذلك كل التنظيمات "العقدية الإرهابوية" المسلك، التي تتوجه أساساً إلى داخل دول المنطقة؛ تدميراً وإسقاطاً لأنظمة الدولة بها من أجل تعميم الفوضى في الخريطة؛ فإنما تتغافل عمداً عن المستهدف الحقيقي المفترض أن تقوم به في فلسطين المحتلة؛ لتحريرها الوجوبي المفترض من "اليهود الصهاينة".

*****
ومن هنا يبدو حجم الإشكالية الراهنة الخاصة بالقدس العاصمة الفلسطينية التاريخية بمفرداتها الدينية؛ وخطورة الاغتصاب الذي مارسه دونالد ترامب لها بناء على حسابات استراتيجاوية رأسمالوية في الأساس تحكمت في استصناع الدولة الصهيونية، وهاهي تنتزع قصراً العاصمة القديمة؛ لتحول تسميتها من "القدس" إلى "أورشليم"؛ فيتحقق "سيناريو العولمة" في المنطقة؛ لأن التحرك الرسمي من أجل فلسطين محكوم بالاتفاقيات الموقعة والناظمة لتدخل الجيوش إذا حدث خلل في الالتزام ببنودها.
غير أن الأهم والمخزي بالنسبة للتنظيمات العقدية المتسيسة هو أن "الجهاد العقدي" مرفوع من الخدمة في فلسطين حسب ما أفتى به “القرضاوي” على نهج مرشده الأول"حسن البناء" !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق