تفكيك العقل النخبوي الاصطلاحوي المناور ( 117)
"النخبة" حين تتذاكى تتلاعب بالكلام...
(تهجير أهل سيناء أنموذجا)!!
-------------------------------------------------------
تعتبر مداخلة الدكتور صلاح سلام عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان في الندوة التثقيفية للقوات المسلحة الـ31 بمناسبة احتفالات نصر أكتوبر المجيد أفضل نموذج لخطاب ما يمكن أن يثير الالتباسات المفاهيمية لدى المتلقى؛ خاصة إذا كان يحيل في "المسكوت عنه" إلى مصفوفة ما تروجه كتائب التضاد مع نظام إدارة الدولة المصرية الراهن!
لذلك فإن ما ذكره الدكتور السيناوي المولد كما أعلن يمثل حالة نموذجية صالحة للقراءة التفكيكوية المقاربة لنسق خطاب العقل النخبوي السياسوي المتنشط والمناور؛ سعيا للكشف عن نمطية تفكير هذه النوعية النخبوية، ووقوعها أسيرة هيمنة خطاب قولبة شعاراتية منبتة الصلة بالواقع الموضوعي للمجتمع. وقد يكون ـ وهذا على الأرجح ـ الإنزلاق غير المقصود في أفخاخ تعبيرات مروج لها للهيمنة على العقل الشعبوي بفعل خصائص حروب الدعاية المضادة الحديثة.
*****
والسؤال الأكثر إلحاحا بعد أن اعتمرت ساحات الفضاء الافتراضوي بتماثلات هذا النموذج الظاهرة هو: هل النخبة المصرية المتنشطة وهي تمارس الضجيج السياسوي الشعاراتوي بمعزل عن قواعد إدراك فقه الحالة؛ وتحديات الواقع وقياسات حسابات القوة؛ وقواعد التواؤم في الهدف بين الضرورات والمستحقات؛ هل هذه النخبة... تقف في مربع التوصيف المستحدث بأن أفرادها (يقولون ما لا يقصدون)؛ اشتقاقا من الوصف القرآني الكريم للشعراء {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ}؟
وتجاوزا لما قاله الدكتور صلاح سلام؛ حيث يجري تفكيك خطابه لاحقا؛ فإن دراسة مسلكيات هذه النخبة في إنتاج خطابها وشعاراتها تؤكد افتقاد الكثير من أفرادها لآليات التناسق في القول والفعل؛ وتقودك للاقتناع بأنهم عناصر منبتة الصلة بالواقع وضروروات الحركة به؛ بل وترسخ الشعور بأنها نخبة تعيش حالة المراهقة السياسوية، فمفردات قاموسها الاصطلاحوي لا يتجاوز القوالب المعجمية لهذه الاصطلاحات النظرياتية.
والجاذب للالتفات أن تلك النوعية النخبوية التي ينبغي أن تمتلك قدرات القراءة التمحيصية في مفردات خطابها ـ لأنها نخبة ـ لكنها تدرج الاصطلاحات المتسللة لكلامها قبل أن تلوك مفرداتها بتلقائية؛ خاصة وأن خطابها يكون متحركا بفعالية موقف سياسوي يعلن الشكوى من نظام إدارة الدولة والذي قد لا يكون متوافقا مع رغائبها السياسوية.
وقد بدا الدكتور صلاح سلام عندما طرح تساؤلاته أنه يرفع "مظلمة" أهل سيناء؛ واحدا منهم؛ ومشتغلا وظيفويا بينهم؛ وفق تعبيره الذي أشهره بثقة مطلقة: ( نائب رئيس جامعة سيناء)؛ وهو الأمر الذي سارعت الجامعة إلى نفيه فورا في بيان قاطع: " الدكتور صلاح سلام" ، " الذي عرف نفسه كنائب لرئيس جامعة سيناء." "لا يشغل هذا المنصب الرفيع في الجامعة لأنه لم يشغله من قبل ، وبالتالي فإنه لا يتحدث باسم جامعة سيناء ولا يعبر عن رأيها"!!!
وهذا الأمر يدعو للدهشة الكبيرة؛ فكيف له أن يعلن بثقة عن وظائفيته ومركزيته هكذا بثقة مطلقة؛ فيما "جامعة سيناء" تنفي وتنسف هذا القول بالمطلق؛ ما يقتضي أن يثبت بنفسه أسانيد ودلائل ما أعلنه على رؤوس الأشهاد؛ ويشهر الوثائق التي تثبت ما أعلنه بثقة من أنه يشغل وظيفة نائب رئيس جامعة سيناء؟!!
*****
ولأن الدكتور صلاح سلام يحمل لقب عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان؛ فإن هذه الانتمائية السياسوية؛ ووقوعه في إطار نسق خطابها الموصوف بالمدني بكل ضجيجه المعبأ في تضاد مع البنية المؤسسية للدولة هي ما حققت التغلب في خطابه لقاموس مفردات هذا الانتماء السياسوي النظرياتي.
لذلك فهو قد مارس كعادة رفاقه أعضاء ما يسمى "جماعات المجتمع المدني" مارس بكائيات المظلومية النخبوية بتلقائية ومن دون وعي. وقد تعثر حين طرح تساؤلين لهما أبعادهما الخاصة ذات الارتباط بالقضايا الاستراتيجية والتكتيك العسكريتاري ببعده الأمنوي.
** أولا: لقد تساءل في لقاء مفتوح مذاع على الهواء عن موعد انتهاء "العملية الشاملة في سيناء"؛ في الوقت الذي توالي القوات المسلحة بالتتابع إطلاق البيانات العسكرية؛ بحصاد كل خطوة تندرج في إطار هذا الجهد المتصدي للإرهاب المستزرع في سيناء وفق كتلته ذات السيولة؛ ونمطيته الحركية تحت الأرضية التي أسميتها مسبقا بحركة الجرذان(الفئران).
وفي هذا الإطار العسكريتاري الباذل الجهد والأرواح من الجند (جيش وشرطة)وظيفويا لتجفيف منابع الإمداد اللوجيستاوي، يمكن أن تتواصل العملية وتستمر مراحلها وفق استراتيجية الرصد والمباغتة والتصدي الاستباقي؛ وكذلك المتلقي لمباغتة الجرذان الذين لا يتورعون عن المساس بالمدنيين فيسقطون ضحايا الغدر الإرهابوي.
والسؤال كيف يصوغ الدكتور سؤاله الإشهاري بطريقة ذات قصدية تستهدف دفع الرئيس السيسي لإعلان موعد يعد من أسرار الحرب المتواصلة بميدانها اللامحدود ومنافذه الكبيرة؛ بقوله: (متى تنتهي العملية الشاملة لـــ ...). فهل يسعى الدكتور المتساءل للغمز من قناة عملية تنظيف سيناء من الإرهاب؛ والتي تحمل مسمى{العملية الشاملة سيناء ٢٠١٨م} فيما تكاد سنة ٢٠١٩م تنتهي والعملية لا تزال مستمرة.
إن هذا التساؤل عن موعد انتهاء العمليات العسكريتارية في سيناء ليس بريئا كما يختبئ في متنه؛ لأن القيادة العسكريتارية المصرية ستعلن في التوقيت المناسب ما ينبغي إعلانه عن موعد الانتهاء؛ لكن هذا التساؤل قد يخفي في مضمر متونه محاولة التقليل من حجم المنجز العسكريتاري وفق القراءة التفكيكاوية للخطاب!!
** ثانيا: ويربط الدكتور صلاح سلام سؤاله عن موعد انتهاء العملية الشاملة في سيناء بدافعه الذي حدد توصيفه بـــ ( ليعود من تهجروا إلى ديارهم). وهذا الربط حتى وإن كان بريئا في ظاهره فهو يخفي مسكوتا عنه يختبئ في عقول العديد ممن يكونون النخبة المتنشطة في مصر؛ وهذا الربط يحوي درجة من الخطورة؛ وفق التالي:
- يستخدم الدكتور صلاح سلام اصطلاح(التهجير) الدال على الجبرية والقسرية في هذا الفعل؛ متغافلا عن الحقائق العسكريتارية والقانونية والسياسوية والاجتماعوية التي تفترض تحريك شريحة محددة من السكان للضرورات العملياتية؛ من موقع لآخر لضرورات متعددة في استراتيجية إعطال الفعل الإرهابوي؛ والذي يخرج عن قدراته المحدودة ليؤكد أنه فعل عولمي مرتبط بمخططات مضادة للدولة المصرية.
ـ وحين يشهر الدكتور صلاح سلام تعبير (التهجير)؛ فهو يمارس ترديد اصطلاح مشبوه؛ تروجه وتحاول ترسيخه الجماعات والجمعيات الماسونية المضادة لسيادة الدولة المصرية؛ ويعمق بإعادة إشهاره آداء "الملطمة" المتأخونة؛ الساعية للحفاظ على قوائم الإقلاق لهذه الدولة؛ حفاظا على منافذ الإمداد والتموين عبر إبقاء الأنفاق للجماعات الإرهابية لتواصل جهودها في عزل سيناء المباركة عن جسدها المصري؛ بهدف تنفيذ ما تسمى (صفقة القرن) والتي سعت الجماعة البنائية المتأخونة لتطبيقها.
ـ وعندما يقوم الدكتور صلاح سلام بالترويج لمستهدفه السياسوي بقوله (ليعود من تهجروا لديارهم)؛ فإنه يتغافل عما حدث في أرض الواقع من خطوات مدروسة، تأخر اتخاذها بتأثيرات المنطقة (ج)؛ ضمن ما أسميها (اتفاقية السادات/ السلام)؛ وقد نجحت الدولة المصرية في تحقيق التفريغ الأمني للمساحة المناسبة الحافة بالحدود مصدر السيادة من السكان؛ كما يحدث في كل دول العالم(السور الحدودي العازل بين الولايات المتحدة والمكسيك أنموذجا).
ـ وما يدعو للدهشة هو أن الدكتور صلاح سلام؛ وهو النخبوي ابن سيناء؛ والمقيم بها يتجاهل كل الخطوات التي اتخذتها الدولة المصرية لإعادة ترتيب حياة أهل سيناء؛ عبر توفير البدائل المكانية المناسبة؛ والتعويضات السخية الممنوحة لمن جرى نقلهم من منطقة الكيلومترات الخمسة بعد إنجاز تدمير ما أمكن اكتشافه من الأنفاق العابرة للحدود المصرية؛ وكانت تتخفى أسفل البيوت في غزة لعبور كل التجاوزات.
*****
وأمام هذا الخطاب النخبوي المثير للالتباسات؛ كيف كانت آلية الاستيعاب؟. لقد أبرز الرئيس عبد الفتاح السيسي قدرة احترافية عالية لدى التعامل مع هذا الخطاب المثير. إذ كانت مهارة السيسي بارزة؛ أولا بالتقاط الاصطلاح المستتر باستخدام مفردة "التهجير".
وهذه المهارة التي أظهرها الرئيس المصري في التقاط الفخ اللغوي تمثل دالة على القدرة الفردانية الرئاسية والتي قد تفلت من ماكينات استقبال الكثيرين؛ فلا يتوقفون أمام مثيراتها الإبلاغية. إذ أن كلمة (التهجير) قد تمر مرور الكرام لدى الكثيرين؛ ولا تكتسب مدلولها المضمر المرتبط بالمظلومية؛ غير أن الرئيس السيسي لم يمررها؛ فتولى التقاطها؛ والتعامل معها بما يتناسب بكافة المعلومات الحقيقية.
لقد أنجز الرئيس السيسي التوضيح ببراعة رجل الدولة بقوله: "يا دكتور إحنا مهجرناش حد، كل كلمة وليها معنى، اللي عملناه في سيناء أيه؟ كان يوجد بيوت ومزارع ملاصقة للخط الحدودي مع قطاع غزة، بجانب آلاف الأنفاق، وبهدف التخلص من هذه الأنفاق، كان لابد أن نخلي هذه المناطق من البيوت والمزارع والمواطنين، طب بلا مقابل، لا بمقابل، بتعويضات بعد السؤال عن سعر المتر للمباني والمزارع؛ دفعنا ثمن الأراضي والبيوت والمزارع، يبقى أنا ما هجرتش حد، الناس مشيت صحيح لكن إحنا ما هجرناش، وفي مليارات ادفعت، إحنا ما هجرناش يا دكتور".
ويكشف الرئيس السيسي تفاصيل الصورة المدعاة ضوضاء بالتهجير وهو يقول: "إحنا ما هجرناش حد إحنا أدينا فلوس للناس، الموضوع أمن قومي لـ100 مليون مصري". و"بنبني النهاردة في رفح الجديدة، وكمان المجتمعات البدوية الجديدة اللي أهالي سيناء بيفضلوها".
*****
حين يستهلك الدكتور صلاح سلام تعبير (التهجير) من دون التفكر في دلالاته السياسوية؛ فقد غاب عنه التوفيق والحيطة؛ لأن تبنيه لمظلمة (التهجير) يستهلك اصطلاحا إرهابويا مضادا لتوصيف فعل أمنوي من حق الدولة أن تمارسه؛ لأنه ينظف منطقة تقع ضمن ممارسة السيادة للدولة على أراضيها؛ وقد كانت تعاني إشكالية استخدام المنطقة الحدودية في عبور الفعل الإرهابوي من الأنفاق وتهديد الدولة وأمنها.
وما يسقط توهمات وصراخات "المظلومية" المدعاة؛ والمروج لها أن تلك المساحة المأهولة بالسكان كانت مشغولة بطريقة غير متناسبة مع الاشتراطات الأمنوية؛ إذ كانت تشكل مساحة ملغومة عبرها يتهدد الأمن الوطني المصري؛ وعلى الرغم من ذلك لم تضع الدولة يدها عليها من دون مقابل؛ بل اشترتها من سكانها بمبالغ تعويضية هائلة؛ وهو ما ينفي عن فعل نقل السكان سمة (التهجير القسري). حيث حسب تعبير الرئيس عبد الفتاح السيسي " الموضوع أمن قومي لـ100 مليون مصري".
*****
"إخلاء مش تهجير" كلمات رئيس الدولة المصرية؛ وهي عبارة توضح "الوعي المغلوط" الذي يهيمن على عقول وخطاب شرائح من النخب المصرية المتسيسة في موضوعة تنظيف سيناء من جرذان الإرهاب؛ والتي - تلك النخب - لا تلتفت إلى أن الجهد التفكيكوي لما تقوله يمكن أن يكشف (المسكوت عنه المضمر) في متون خطابها؛ حيث بخطابها السياسوي تكون محلا لانطباق مقولة الإمام على ابن أبي طالب عليهم {تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا، فَإِنَّ الْمَرْءَ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ}.
فالمضمر الدفين الذي تتجمل النخبة في التعمية على ظهوره؛ خاصة إذا كان المستهدف مكروها أو مرفوضا أو مريبا أو مثيرا للقلق لا يمكن أن يتوارى بالمطلق؛ لأنه مخبوء تحت اللسان؛ فيفلت للعلن من دون إرادة القائل؛ عبر تبني إشهار اصطلاح أو مفردة محددة؛ تلقي على ذهن المتلقي المتنبه إشارات مخاطرها. وما عبارة (تهجير أهل سيناء) إلا من هذه النوعية؛ حيث تتذاكى النخبة وهي تتلاعب بالكلام؛ فينفضح مقصودها المريب... (تهجير أهل سيناء أنموذجا)!!
"رأفت السويركي"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق