الثلاثاء، 21 مارس 2017

جورج طرابيشي علَّمني "كيف تحاور الحجة بالحجة"!


جورج طرابيشي علَّمني "كيف تحاور الحجة بالحجة"!
----------------------------------------

 

في الزمن الرقمي تغيرت قدراتنا، الحواسيب مثلت ذاكرتنا ومخزن ذكرياتنا. "فيس بوك" يمثل تطبيقا لهذا التحول الذي طالنا وجوديا؛ صار أكثر انضباطا ودقة بالتذكير بالمواقف والمناسبات. أذكر ذلك بمناسبة اعادة تذكيري باعترافي المسبق بافضال المفكر الراحل جورج طرابيشي على قدراتي في التفكر والتحليل والتفكيك المعرفي حول القضايا الخاصة بالعقل العربي والمسلم.


في تلك الكتابة أعلنتها واضحة من دون مواربة في إطار رد الفضل إلى أهله أن المفكر الراحل "جورج طرابيشي" هو أستاذي الذي علَّمني "كيف تحاور الحجة بالحجة"! ففي فضاء المعرفة المفتوح والاتصال غير المحدود بحدود أو موانع؛ يمكنك أن تكون طالباً في مدرسة من تشاء.

وعبر الكتب أدين بتربية عقلي وأدواتي؛ وتنمية قدرات حُجَّتي إلى كل كاتبٍ عكفتُ على كتبه؛ جامعاً حصاد اجتهاده المعرفي، وهم كُثْرُ، منذ بداية ارتباطي بالقراءة المتخصصة أو الحُرّة، والصفحات تنوء بأسمائهم الكريمة إذا ذكرتها، ولا يمكن أن أنسى فضل كل هؤلاء الذين ساهموا من بعيدٍ في تربيتي الفكرية.

اخترتهم عن طيبِ خاطر؛ حتى وإن لم أكن أظن يوماً أنني سأقترب من مؤلفاتهم، ومنهم من كانت تحيط باسمه الوصايا الحافة المُحذِّرة من الاقتراب مما يكتبون؛ إما بمفاهيم ومحاذير دينية؛ أو سياسية أو فكرية، لكن منهج تقييد العقول بالممنوعات والمحرمات، يُعطِّل فضيلة ينبغي على الإنسان أن يسعى إليها، انطلاقاً من أنه مأمور بالسعي، والتفكر والتأمل؛ لذلك اقتربت عقلانياً من كُلِّ صاحبِ حُجَّةٍ وبُرهانٍ، لاكتشاف عالمه الفكري، واختبار أدواته، حيث أنه بمنهج اللا ممنوع، يُمكنُك أن تُشكِّلَ عَقْلاً مُدْرِكَاً الحقيقة من جميع أوجهها، وتباينات النظرِ إليها.

*****

وكانت رحلة الاقتراب الراصد من جورج طرابيشي تتم في هذا السياق؛ خاصة وقد تنقل مشروعه بين الأنماط المختلفة من المدارس الفكرية؛ سياسياً وفلسفياً وثقافياً، بتنوع مدهش؛ جامعٍ بين الفكر النفساني، والسياسي القومي، والماركسي، والفلسفي، وكذلك حسب توصيف أستاذتنا الدكتورة اعتدال عثمان Etidal Osman "النقد الثقافي"؛ فدخل الفذ الراحل جورج طرابيشي في عوالم القامة الفكرية الكبيرة محمد عابد الجابري، في سِجَالٍ غير مُتناظر؛ حول مركزية فكرة "نقد العقل العربي" للجابري، وليقدم طرابيشي مشروعه المناظر في" نقد نقد العقل العربي".

وقد التهمت كتب العلمين الكبيرين؛ من دون انتماء أو تحيُّز لأيٍّ منهما، تحيز العصبية الفكرية؛ وتعلمت منهما الكثير، بل وفتح كلاهما لي خزانة البحث عن المرجعيات التي لم أكن أفكر يوماً في السعيِّ للحصول عليها، أو حتى تصفحها؛ لقِدَمِهَا، أو لصعوبة احتمال الصبر على التجوال في متونها، بلغتها الحجرية؛ وعنعناتها السردية طويلة النَفَس. 

وقد توَّجَ الراحل جورج طرابيشي مشروعه الفكري بمؤلفات متنوعة عديدة، أبرزت موسوعية طاقة عقله المبدع؛ ودأبه المعرفي الذي لا يَكل؛ ومهارته في كيفية بناء حجته، ومصدرية هذا البناء الحجاجي، التي لا تخضع للتهويمات، قدر اعتمادها على المعلومات من مصادرها، ليُقدم جهداً موثوقاً، عليك أن تحترمه؛ سواء قَبِلْتَ بما توصل إليه أو اختلفت معه؛ لأن طرابيشي، كان يُعلمك أيضاً: كيف تُحاوِر الحُجَّةَ بِالحُجَّة.

*****

إن مشروع جورج طرابيشي التنويري الجامع؛ والذي يبقى لنا بعد رحيله جسداً إلى حيث ترحل كل الخلائق، تحتاجُ إليه الأمةُ، للخروج من نفق ماضويتها العقلية؛ بكل أسطورياتها ومتخيلاتها، لتعيد تأسيس رحلةِ نهوضها من جديد؛ كي تسترد ما فقدته وهي متخلفة؛ ومتقاعسة في رحلة الحضارة.

وفي مناسبة غيابه، أعاد "فيس بوك"تذكيري مرتين بحادث الغياب المفجع الذي حرمنا طاقة عقلية فذة لها مالها وعليها ما عليها؛ لكن يكفي أنه حاول إثبات قدرة العقل العربي المغيب بممارسة التفكر تلك الفضيلة المفقودة لقرون في حياتنا.



                                                                                  "رأفت السويركي"
-----------------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق