في نسف غايات ما تسمى "السلفية الجهادية"...
هل وافق الرسول الأكرم على دعوة انطباق الجبلين على الكفار؟!!
-----------------------------------------------
-----------------------------------------------
ولأن الثدي الذي تمتح منه هذه التكوينات السياسوية حليبها؛ أي الموروث القولي الموصوف بالفقه البشري الماضوي المهيمن والذي يمثل أس البلاء لا يزال يحظى بالرعاية المطلقة من المؤسسات الاجتماعية الرسمية تاريخيا؛ ولا يتعرض هذا الموروث لتفكيك الفكر العقلي النقدي الإيماني - وأعيد التأكيد على القول الفكر العقلي النقدي الإيماني - فإن هذه التكوينات المصطنعة والتي جرى تخليقها في معامل الاستخبارات الاستعمارية سيظل توظيفها مستمرا؛ مهما ادعى الغرب مكافحتها؛ لأنها تحقق غاياته وتمهد الأرض لتطبيق سينايوهاته، فيما يتعلق بالتفتيت وإشعال حروب الطوائف لتكريس سيناريوهات الشرق الأوسط الجديد، الذي تتوسطه في القلب الدولة اليهودية!!
وفي هذا الإطار ستبقى المنطقة تعيش تحت وطأة حضور هذه التنظيمات الحركية المعممة بالأسلوب الهوليودي كما في حادث برجي التجارة بنيويورك؛ وتخترع لها دوما المزيد من السيناريوهات لترسيخها مسخا كابوسيا يعيد انتاج التطبيق العقيدي وفق مفاهيم ماضوية في المعاملات كانت مناسبة لزمانها الأول؛ فيما فعل التوحيد الإيماني وحصاده في نماء من دون فعل أعمال عسكرية موصوفة خللا بالجهاد القتالي.
*****
لقد تناسى هؤلاء أن دعوة الجهاد القتالي الأولى كانت ظرفية ومتواكبة مع شروط موضوعية تحكم لها بالنجاح؛ وقد تغيرت هذه الظروف، وتحتاج لإعادة تغليب حضور العقيدة السمحاء دعويا بمنهج الحكمة والموعظة الحسنة؛ وهو منهج العمل الرسولي والنبوي في نشر العقيدة الذي تتناساه هذه العناصر التي تصر على العودة إلى نهج الحياة في الكهوف.
كيف لهذه العناصر الكهفية التفكير أن تتناسى فعل الرسول الأكرم ( ص ) وقوله الشريف بعدما لقي ما لقي من أهل الطائف وقول جبريل له: «... إِنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ، وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ، ثمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ أُطَبِّقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ وَحْدَهُ، لَا يُشْرِكُ بِهِ شيئًا».
إنها فعلا الثيمة الدعوية الإسلامية الحقيقية التي تقوم على نشر العقيدة بالدعوة؛ وهي الثيمة التي لم يحد عنها الرسول الكريم (ص ) والذي لم يحتج في مطلع الدعوة إلى معجزة سماوية مادية تدمر الكافرين والمشركين بانطباق الجبلين على رافضي الدعوة بالتوحيد.
لقد بدأ انتشار الإسلام في مطلع نزول الرسالة وأغلبية مراحل تاريخه بالدعوة القولية، استهدافاً للعقل مناط التكليف؛ فيتحقق الاقتناع المستجيب للفطرة التي خلقها الله، ولم تكن مسلكية المجاهدة العسكرية إلا توافقاً مع شروط تاريخية؛ سمحت لنمط التوسع التأسيسي للعقيدة ليكون بهدف زيادة رقعة انتشارها، عبر التبليغ الدعوي السيَّار مع القوافل التجارية أو الجيوش؛ فيما تلك الشروط كلها تغيرت الآن، بدءأً من موازين القوى، والقدرات الاستراتيجية للمستهدف غزوهم.
*****
وقد أعاد "فيس بوك" تذكيري بكتابة سابقة بعنوان نسف مشروعية ما يُسمى "السلفية الجهادية" في إطار سلسلة "تفكيك العقل النخبوي الإسلاموي الماضوي المهيمن"، ذكرت خلالها وصفي للعقل الماضوي المسمى السلفي بأنه عقل سياوسوي مُخادع في خطابه؛ ونسق صناعة مقولاته؛ لأن هدفه يتجسد في الهيمنة على عقول جموع المؤمنين، من ذوي النوايا الحسنة؛ خاصة ممن لم تتوفر لهم التجربة العقلية، لمساءلة ما يسمعونه من تلك النخب الماضوية الهوى والتفكير التي تمارس فعلاً سياسياً؛ حتى وإن هربت كالعادة من الاعتراف بأنها تؤدي دوراً سياسياً؛ يرتدي مسوح الدين.
فالدعوة التي تقوم بها تلك النخب الماضوية؛ عبر منابرها المختلفة، تستهدف تحقيق هدف سياسوي؛ هو إحياء نمط المجتمع القديم؛ القائم على نسق العقيدة ولكن عبر المفهوم الماضوي لهذا المجتمع، ولعل الدعوة الجامعة لكل ما يُسمى - مع التحفظ - "تيارات وفصائل الإسلام السياسي"؛ لا تتجاوز ما يُعلنه " تنظيم داعش" على رؤوس الأشهاد، ومن قبله "تنظيم الإخوان المسلمين"، بسعيهما لاستهداف إعادة نمط الدولة الدينية المسماة "دولة الخلافة".
*****
وماضوية تفكير عقل هذه النخب؛ في ذلك المسعى السياسي، تتأسس في مجملها على النصوص البشرية الحافة بالقرآن الكريم، مع توظيف آياته الكريمة بعمليات تأويل ابتدعتها لأنها مُغايرة لروح النص المقدس؛ وحُمولاته الدالة على كل شيء كريم؛ وسماوي القيمة؛ من فيض الله على جميع خلقه.
ولعل خطاب ما يُسمى "الداعشية"؛ هو أوضح كاشف لفساد التفكير الماضوي؛ بل وغيبوبته العقلية؛ المتوغلة في غابات المجهولية، إذ أن هذا الخطاب لا يخجل من إعلان قناعاته المزيفة بالفهم الخاص المتراكم حول أفكار السلف الصالح، فيما أهل هذا السلف؛ بُرءَاء مما ينسبه هؤلاء إليهم؛ من غرائب الأقوال والأفعال؛ لأن منها ما هو مكذوب؛ أو منحول؛ أو مدسوس عليهم عبر الرواة؛ لتنافيه مع قيم الإسلام الحقيقية وحكم العقل الإيماني.
*****
لقد جاءت "الداعشية" لتكون الصورة المثلى المعاصرة للتعبير عما وصلت إليه أمور الدعوة المزيفة، في جانبها الحركي بفكرها السياسوي المضلل؛ الذي يرتدي مسوح العقيدة ويسيء إليها؛ أكثر مما يخدمها.
إن "الجهاد" هو الشعار المخادع الذي ترفعه الماضوية عبر وليدي تنظيم الإخوان الشرعيين: "تنظيم داعش" الآن؛ ومن قبله "تنظيم القاعدة"؛ وهذه الماضوية الموصوفة بـ "السلفية الجهادية" تُمارس الاحتيال بلفظة "الجهاد"، وتعطيها الأولوية من منظور أن تلك "القيمة الجهادية" هي صورة من صور ضرورات خروج التبليغ بالعقيدة في البدايات حين كان "الإسلام غريباً"، كما كانت الحال في مكة والمدينة أول الهجرة؛ ووقتها لم يستجب له إلاَّ الفرد بعد الفرد بسبب نقص الاتصال التبليغي؛ لكن هذا الدين القويم لم يعد غريباً الآن:
- حسب دراسة أجراها "منتدى بيو للأبحاث" في العام 2010، بلغ عدد المسلمين 1.62 مليار مسلم حول العالم، ليكون ثاني أكبر الأديان في العالم من حيث عدد المعتنقين بعد المسيحية، بنسبة تفوق 23% من سكان العالم." موقع ويكيبديا".
- تتوقع الدراسة أيضاً أن تكون الديانة الإسلامية هي الديانة الأولى في العالم؛ بعد الديانة المسيحية بدءاً من سنة 2070؛ بفضل عدد الشباب المسلمين، وارتفاع معدل الخصوبة لديهم، الذي سيصل إلى 75 % مقابل زيادة بنسبة 35 في المائة عند سكان العالم.
- الإسلام هو دين الأغلبية في الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا ومناطق من آسيا؛ فضلًا عن مجتمعات كبيرة في الصين، وفي البلقان وأوروبا الشرقية وروسيا، وهناك أيضًا عدد كبير من المهاجرين المسلمين في أجزاء أخرى من العالم، مثل دول الاتحاد الأوروبي التي يبلغ عدد المسلمين فيها حوالي 16 مليون 3.2%.
وبالتالي فإن عِلَّة رفع شعار "الجهاد" لنشر العقيدة هي علة فاسدة؛ لأن القانون الطبيعي بالتوالد يعمل تلقائياً لتغليب عدد المسلمين في كافة أنحاء العالم؛ ورفع هذا الشعار غير الواقعي في زماننا الراهن من المنظور الماضوي يَضُرُّ بالعقيدة أكثر مما يفيدها.
*****
إذ أن أنماط الخلل الماضوي في تطبيق هذا الشعار عبر "العُنف المقدس" بالتفجيرات والتفخيخات والانتحاريين؛ سيتسبب في التضييق على المسلمين في دول المهاجر، بينما هم يقومون بيولوجياً بتغيير تركيبتها العقدية، وينشرون الإسلام بتؤدة عبر الامتداد البشري في مجتمعاتها التي تفتقد الخصوبة الإنجابية.
ولأن هذه المجتمعات "عِلمانية العقيدة"؛ فإنها تحترم بل وتقدس قناعات؛ ومعتقدات وديانات الناس، وتعتبر ديانة الفرد شيئاً خاصاً به، فلا تقترب منه؛ طالما أنه يحافظ على حقوق الآخرين، ويحترم الضوابط الحاكمة.
ولكن استمرار صناعة صورة ذهنية عنفوية تحت مسمى "الغزوات" سيهدد وجود المسلمين في هذه الدول، ويدفع التيارات السياسية والعقدية المختلفة بها إلى بدء التضييق على من يهدد السلام الاجتماعي لهذه المجتمعات، وفق ما يرسخ حالة "الإسلاموفوبيا"، التي تدفع العقيدة الإسلامية السمحة ثمنها كبيراً بسبب انتشار وهيمنة الغيبوبة الماضوية المؤلمة.
وإذا كانت "غربة الإسلام" في البدء منطقية ولها ما يبررها، فإن عودته "غريبا فى آخر الزمان كما بدأ لا يعرفه حق المعرفة إلا القليل من الناس، ولا يعمل به على الوجه المشروع إلا القليل من الناس وهم الغرباء" حسب قول "بن باز"، فإن السبب وراء ذلك، سيكون بفعل الفهم الماضوي المغلوط لعقيدة السماحة والدعوة الحسنة، التي تتبناها عقول ماضوية شكلية الانتماء للعقيدة وليس روحها؛ لأنها تتيح للانتحاري قاتل نفسه والأخرين، غطاءات فقهية، توفر تبرير الفعلة بقولهم المشهود في المراجع الفقهية: " إذا كان في قتله نفسه إيمان أمة؛ أو صلاح أمة أو ما شابه"!، وكتب ومواقع الفقه تمتلىء بمثل خطابات الغيبوبة هذه وأكثر وأعجب!!
*****
إن ما يبطل وينسف فكرة "الجهادية " الماضوية الراهنة، هي أن الطرف الآخر المستهدف الجهاد في أراضيه هو الأقوى الآن، وقادر على الرد بشراسة تدميرية فضائية وبحرية وأرضية، ولكن مع توافر وسائط التبليغ الإعلامي العولمية، يمكن أن تؤدي الدعوة العقدية الغرض الترويجي الجهادي بالدعوة القولية كما كانت البداية؛ والذي يسانده نموذج مسلكي مشرف؛ ومعاصر إنسانياً وثقافياً، وليس ماضوي المسلك والملبس، وخرافي الخطاب في عصر العلم والتجريب، وهو يفكر بإيقاع زمان خطوات الدابة ناقة وحصانا، فيما العالم يفكر بسرعة وفعالية المسابير والسفن الفضائية.
*****
لقد جاهد السلف الصالح بمعايير عصرهم فنحجوا، وانتشرت علي أيديهم عقيدة العقل والقلب والسماحة؛ لكن الخلف الماضوي التفكير والمسيء بأفعاله لهذا السلف، يضرُّ الآن بمسلكياته الكهفية بالعقيدة، لأنه يرفع شعارات "فقه الغزو، والجزية، والغنائم وأسواق السبايا وبيع العبيد"؛ وهذا ما سيكون حقل التفكيك في كتابات تالية.
"رأفت السويركي"
----------------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق