كشف مأزق ما يُسمى "الإسلام السياسوي"...
إنهم يُخادعون الناس... وينسبون أنفسهم زوراً لأهل السلف!!
---------------------------------------------
يعيش ما اصطلح على تسميته "الإسلام السياسوي" في هذه المرحلة مأزقا تاريخيا؛ إذ يقدم هذا النمط وجهه إلى العالم حركة عنف تحيط بها الشبهات؛ في الخطاب والممارسة والصورة وفق النتيجة الموضوعية لهيمنة تصور بشري مغلق وقع أسير الفهوم المغلوطة للعقيدة؛ متجاوزا سماوية الرسالة السمحاء ليتصلب جامدا عند بشرية الممارسة؛ مبتعدا بذلك الفهم القاصر عن قيم الإسلام الرحمانية؛ ليقع في حضن التدين الكذوب؛ الذي أنتجه الفهم القاصر لجوهر وحتى شكلانية الرحمانية الإلهية ممن يطلقون على أنفسهم العلماء؛ وهم لا يحظون من هذا المسمى إلا بدور فريق كورس تكرارية الرواية، والتشبث بتكريس مرجعية وتقديس الضعيف والمكذوب البشري الحاف بخطاب السماء الذي لا يأتيه الباطل!!
هذا النمط من المتعارف عليه بالإسلام السياسوي المشبوه؛ والذي يجري توظيفه عولميا واستخباراتيا راهنا في آداء أدوار مكروهة؛ هو بعيد بعد المشرقين حسب التعبير القرآني الكريم عن حقيقة الإسلام؛ ومرتد إلى عمق زمان الجاهلية الفكرية الأولى في الخطاب والصورة؛ في الممارسة والنمذجة؛ ويتصدر مشهده أنماط بشرية من أشخاص شعث غبر؛ كأنهم يخرجون من كهوف الأرض؛ لم يلمس أجسادهم الماء؛ وما تطيبوا أو تهذبوا؛ وحصروا حسب فهومهم المغلوطة العقيدة الحق فقط في فقه الغزو والسبي والجزية ومتوهم الجهاد، وليس الدعوة الى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة؛ فكان جل جهادهم هو تكفير المسلمين المؤمنين؛ وقتلهم تفخيخا وتلغيما وحرقا ضمن إشاعة طقوس القتل العام المستهتر بالانفس التي حرم الله قتلها.
*****
إن هؤلاء المصابين بالهوس العقلي والعصاب النفساني؛ يصنعون بممارستهم تلك صورة مشوهة للإسلام؛ دالة على جهلهم بالعقيدة وروحها؛ وكاشفة لانقطاعهم العقلي عن معنى الحياة، ومفهوم العقل الأصلي، وسنن الله الرحمانية في إلهام الناس لتوظيف هذا العقل فيما يكشف عظمة الله في خلق النفس والبدن، وتأهيل الأرض سعيا لرفاه الإنسان.
*****
"فيس بوك " أعاد تذكيري بكتابة سابقة تدور في إطار تفكيك العقل النخبوي الإسلاموي الماضوي الموصوف مخادعة بالسلفي؛ وقد مارست خلالها تفكيك هذا الاصطلاح، لتبيان ضلالته ومقصوده باكتساب مشروعية لا يستحقها عبر الانتساب قصرا وجبرا إلى أهل الماضي؛ فيما الزمان تغير؛ والعلل تبدلت وانقضت، والإحكام دوما تكون ابنة زمانها.
*****
ففي إحدى تجليات "العقل الماضوي" المهيمن الآن؛ والمسمى تمويهاً "السلفي" كان الداعية الكويتي الدكتور إبراهيم الكندري أكد: أن إزالة الأصنام والأوثان ضرورة شرعية، معتبراً أن ذلك ينسحب على الآثار التاريخية ومنها أبو الهول والأهرامات". مضيفاً:"النبي صلى الله عليه وسلم قام بتحطيم الأصنام التي كانت في مكة... لأن أعظم المصالح على الإطلاق إقامة التوحيد وتشييد أركانه، وهدم الشرك وآثاره، ولا مفسدة أعظم من ترك صروح الشرك والوثنية عند القدرة عليها..."!!
وفي السياق نفسه كان ما وصف بأنه القيادي فيما يسمى "الدعوة السلفية الجهادية في مصر"، مرجان سالم الجوهري، نادى بتحطيم تمثال أبي الهول والأهرامات والتماثيل التي تمتلئ بها مصر قائلا: "إن المسلمين مكلفون بتطبيق تعاليم الشرع الحكيم، ومنها إزالة تلك الأصنام كما فعلنا بأفغانستان وحطمنا تماثيل بوذا"!!
وهاتان الشهادتان المتشابهتان، تكفيان للتعبير عن هيمنة خطاب "ذهنية الماضوية" الدينية والفكرية في المنطقة، ويمكن اتخاذهما دليلاً؛ ومنطلقاً لتفكيك عقل هذه النخبة، التي لم تخرج من "جُبِّ التاريخ" إلى الآن في القرن الحادي والعشرين، والذي انتهت فيه المنطقة العربية والإسلامية منذ قرون من عبادة الأوثان، وانقضت بالتالي علة صناعة ونحت التماثيل من أجل تقديسها أو عبادتها!
*****
والمثير في الأمر أن أغلبية الباحثين في علوم العقيدة؛ والسياسة والاجتماع؛ لا تزال تُفْرِطُ - من دون وعي - تورطا في استخدام اصطلاح ما يوصف بـ " السلفية"؛ بل وترويجه في تراكيب مختلفة؛ منها: "التيار السلفي"؛ "الحزب السلفي"؛ "مشايخ الاتجاه السلفي"؛ "أهل السلف"؛ بل إن المكتبة العربية ذات الاختصاص؛ تمتلىء أرففها بالعديد من الكتب التي تحمل المسميات نفسها.
وهذا الإفراط غير المدرك لمحمول الخطاب يجعله يبدو وكأن المصطلح صحيح ومتفق عليه، بل ومُجْمًعٌ عليه؛ حسب لغة أهل الرواية والحديث، ومستقر أكاديمياً، ما يعكس في واقع الأمر تفريطاً في التزام العقل النخبوي الأكاديمي بمعايير التوصيف العلمي، المفترض اتباعها منهاجياً، حين رصد ظاهرة ما، وإخضاعها للدراسة.
ومبلغ التحفظ الكبير على هذا الإفراط التفريطي هنا؛ يأتي من كون تحديث توظيف مُسمى "السلفية"، في واقعنا المعاصر يخفي من أساليب المخادعة الكثير، لأن تركه يروج ويتعمق في لغة الخطاب اليومي، بهذه الصيغة، يرسخ صناعة صورة ذهنية غير دقيقة، لتيار عقدي ماضوي التفكير متسيس، بما يُسوِّغُ للجمهور غير الواعي وغير المؤدلج تبنيه؛ وتضخيمه من دون أن يتعرض ذلك المسمى إلى كشف الالتباسات المنهاجية والفكرية حول صواب الاصطلاح؛ بل وتعميق مخاطر حضوره في صورته غير الصحيحة.
*****
ونتيجة عدم تصدي العقل الأكاديموي لتفكيك محمول خطاب اصطلاح "السلفية"؛ في صورته السياسية، وتشكلات هذا المسمى المختلفة في الوقت الراهن، فإن المُجتمع بمجمله يقع في فخ تبنيه، وتعميم استخدامه، كأنه اصطلاح دقيق، بينما هو مُغاير لذلك؛ ما يجعل الكثيرين يتبنونه؛ بمحموله السياسي؛ بل وينتسبون إليه زهواً وافتخاراً بظلاله الدينية؛ ومع عدم المراجعة النقدية للمفهوم من قبل النخب الاكاديمية - المفترض أن تكون المرجعية العلمية في الحكم على المفاهيم- يصير من الصعوبة بمكان إعادة تصويب الاصطلاح الملغوم، وهو ما يجعل من العسير إعادة ترويج المسمى الحقيقي؛ النقيض لذلك الاصطلاح، أي "الماضوية" بديلاً عن "السلفية".
*****
إن مسمى "الماضوية" هو الاصطلاح المتطابق مع توصيف الحالة المسماة "السلفية"، حسب جهد إعمال المنهج التفكيكي؛ في الحالة الراهنة؛ التي تحشر نفسها وترتدي مخادعة معطف "السلفية الأولى"؛ لكن تسمية "الماضوية" تحقق مراعاة إدراك المتغيرات الزمنية والموضوعية، التي طالت المُسمَّى المُنْتَسَب إليه؛ لتكون هي التسمية البديلة؛ الأكثر صواباً، والأبلغ تعبيرية في التوصيف.
فما يوصف بـ "السلفية الأولى"؛ كانت تمثل انقلابا ثورياً على واقع الجاهلية الأولى التي أنهى مشروعيتها ووجودها الإسلام بخلل إشراكاتها، وعفوناتها المسلكية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ لذلك عُدَّ قرنُها الأول خير القرون - مع التحفظ تجاه القيمة العددية لمفهوم القرن - بسبب فعل التغيير الهائل الذي أحدثوه في الواقع؛ اما ما توصف بالسلفية في عصرنا الراهن، فهي مسلكية نفسانية مأزومة واقعيا، حيث يهرب أصحابها الى الماضي تمسحا ويندمجون في معانيه من دون شروط موضوعية.
لذلك من الختل الآن القبول بابتلاع إعادة تكريس المسمى الذي وصف به الأولون، على من يغتصبونه راهنا ويطلقونه على أنفسهم في زماننا المعاصر؛ لأن القبول بهذه التسمية القديمة على المعاصرين، لابد أن يشرع القبول بالمفهوم السياسوي المختبىء داخله، أي إعادة إحياء مفهوم مقاومة "جاهلية المجتمعات الحديثة"، وذلك ما يعلن عن ذاته في وثاثق تيارات ما يسمى بـ "الإسلام السياسي"؛ بما تتضمنه من حضور فكر التكفير والتفسيق؛ والتغيير بالقوة والعنف "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف..."، لمجتمعات هي إسلامية ومؤمنة بالطبيعة.
وحين يسمح العقل النخبوي والمجتمع السياسي لفصيل قائم منه الآن بإجازة استخدام لقب "السلفية"؛ فعليه أن يقبل بأن يُطلق هذا الفصيل الماضوي الهوية عليه "العقل الكافر"، والنخب الفاسقة، والملحدة، والتي لا تقيم شرع الله، وبالتالي القبول بمنطق الماضويين في استخدام فعل التغيير بالقوة، تحبيذاً لتفضيل فعل المؤمن القوي، وكله بغطاء مشروعية الشرع والدين؛ الذي لا يمكن قبول تعطيله!!
** من هم "أهل السلف":
------------------
هم من تم الاصطلاح - وفق المراجع العقدية- على تسميتهم بذلك المسمى؛ من " الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين لهم بإحسان وتابعيهم، وأئمة الإسلام العُدُول، ممَّن اتفقت الأُمَّة على إمامتهم وعِظم شأنهم في الدين، وتلقَّى المسلمون كلامهم خَلَفَاً عن سَلَفٍ بالقبول..."، وبالتالي فهُم أيضاً "المذكورون في حديث الرسول الأكرم ص: (خيرُكم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم). وقد اعتبروا في روايات أخرى"الفرقة الناجية، والطائفة المنصورة، لأنهم الصحابة ومَن تابعهم مِن التابعين وتابعيهم".
ولا مُشًاحَة، أو مناقشة هنا تجاه هذه التسمية التاريخية، طالما أنها تعود إلى زمانها الحقيقي، زمن بدء الرسالة وانتصارها؛ أي الزمن الذي استولد مفهومها وتوافق عليه، وفق تقدير سياسي؛ وتصور عقدي مناسب لمن أطلقوه؛ لأنهم استبعدوا من تلك التسمية: " مَن رُميَ ببدعة، أو لَقَبٍ غير مَرْضي؛ كالخوارج، والرافضة، والناصبة، والقدرية، والمرجئة، والأشعرية، والمعتزلة، والجهمية، ونحوهم...".
وبالتالي فإن هذه الكتابة لن تقترب من مناقشة مفهوم "أهل السلف الأصل حسب القرون الثلاثة" تاريخياً، إذ لكل زمان مفاهيمه الخاصة به؛ والتي استقرت وفق الجهاز المفاهيمي لزمانها، بكل ظروفه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والديموغرافية.
لقد كان "أهل السلف" تاريخياً، علامات دينية مضيئة، الذين جاءوا في العقود الثلاثة الأولى التي تحدث عنها الرسول الأكرم "ص"؛ حيث تؤكد المراجع وفق كلام الخواص:" كان لأهل القرن الأول كمال الإيمان، ولأهل الثاني كمال العلم، ولأهل الثالث كمال العمل، ثم تغيرت الأحوال والمواسم في أكثر الناس - ثم يأتي من بعدهم قوم يتسمنون- أي يحرصون على لذيذ المطاعم وينهمكون في التمتع بلذاتها حتى تسمن أبدانهم (ويحبون السمن)...إلخ.
ومع تواجد الرسول الأعظم والخلفاء الأربعة، ومن تلاهم خلال القرون الثلاثة الاولى، لعب ذلك السلف الأول الدور الثوري في تغيير السائد الجاهلي في زمانهم، بكل شروطه العقدية والمعرفية والاقتصادية والسياسية؛ منقلبين على كل صور الكفر والإشراك بالله وارتكاب الموبقات، وقدموا نهج السلوك الحسن المُغاير والمبني على القيم الراقية، وأقاموا بناء أخلاقياً غير مسبوق في زمانهم، لذلك كان مسلكهم حسناً؛ مستمداً من الدين، وقاعدته "لا ظلم اليوم" للذات والآخرين.
لكن زمان هذا السلف، كان رهنا لشروط التطور على الأرض:
- فالسلف كانت وسيلة تنقلاتهم الإبل والخيل، وزمن رحلاتهم قد يصل إلى الشهور.
- السلف كان نظامهم الاقتصادي قائماً على التجارة التي توفر تسعة أعشار الرزق، ومعادلة قيم الأصول لتبادلها.
- السلف كان نظام عملهم الشائع في أغلبيته؛ يعتمد على الرعي وتربية الإبل والغنم والخراف، ورعاية وتأبير أشجار النخيل لإنتاج التمور.
- السلف كان نمط غذائهم يعتمد على الصيد بالصقور؛ واقتناص الطرائد من الصحراوات.
- السلف كان نظام اتصالهم الأساس؛ يعتمد الشفاهة منهاجاً، وتناقل الرواية عن فلان بن فلان، عن فلان ابن فلان، فضلاً عن أن الشعر كان خطابهم الثقافي والإعلامي الأبرز.
معنى ذلك أن خصوصية زمن "أهل السلف" كانت معاييرها تعود إلى أكثر من ألف عام مضت، وقد كشفت الدراسات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية مواصفات الحياة أنذاك، والتي لا يمكن أن تكون نموذجا صالحا الآن، للاقتداء به والبناء عليه راهناً في عصر شهد انقلابات بنيوية هائلة في كل انماط الحياة.
------------------
وهذا يدعونا لرسم صورة الخلف؛ الذي يتبنى فريق منه الدعوة لتبني صورة حرفية من منهج جرى تجاوزه تاريخياً، متناسين أن التاريخ لا يعيد نفسه، كما قال الفيلسوف اليوناني هرقليطس: " إنك لاتضع قدمك فى النهر مرتين"؛ لأن ماء النهر متحرك، وعندما تضع قدمك داخل النهر مرة ثانية فإنك ستضعها فى ماء آخر فى المرة المقبلة.
والسؤال، كيف يمكن في هذا العصر المفارق لزمان السلف بمساحة شاسعة من القرون، أن ينسب فريق من الناس نفسه لذلك التيار الذي تباعد زمانه، مدعياً أنه الخلف لجيل السلف، وهو الجيل الجديد الذي:
- ينتقل بين القارات الشاسعة؛ عابراً المحيطات في ساعات، بالطائرات النفاثة، ومتابعا الرحيل بين المدن بالسيارات والقطارات فائقة السرعة.
- وهو أيضاً لا ينتظر عودة القوافل من رحلتي الشتاء والصيف ليقتني حاجاته المعيشية، بل يدخل إلى محال السوبر ماركت والأسواق الشاملة، وقت شاء ليشتري غذاءه وماءه وكساءه من مبنى واحد.
- يستخدم هذا الخلف النقود الافتراضية عبر "البطاقات البلاستيكية" ليحصل على احتياجاته، ولا يضطر للقيام بالتبادل السلعي، البيض مقابل القمح، أو كيل التمر مقابل الثوب.
- هذا الخلف لم يعد يعتمد الاتصال الشفاهي فقط، إذ ينقر ازرار لوحة المفاتيح في الحاسوب، أو الهاتف النقال ليسجل كل شيء، ويطرح السؤال فتأتيه الإجابة من المعلم "جوجل" الذي لا حدود لعلمه، ولا تعجزه الإجابة عن أي سؤال.
*****
إذن الفوارق الهيكيلية بين أهل السلف وجيل الخلف لا حدود لها، لأن الزمان تغير، والحياة تطورت، في قفزات لا معقولة، تجعل العقل الذي يتشبث بإطلاق تسمية السلف على ذاته عقلاً خارج الحياة، وخارج الزمان، ليكون وصفه "العقل الماضوي"، لأنه يلتصق بهذا التفكير الماضوي ويقدسه، ولا يخرج عن حرفيات مجمل مكونات خطابه القديم، ويعتمد بانسحاق منظومته الفقهية، ومروياته التاريخية التي انقضى زمانها، في حقول الانتاج والإعلام والانتقال والاتصال.
لذلك ينبغي على العقل النخبوي الاكاديمي أن يُعيد دراسة ما يُسمى "الخطاب السلفي" تفكيكا ونقداً ونقضاً، ويكشف تهافته؛ وانقطاع صلته بالسلف؛ إلا بالاسم فقط لأنه تفكير خارج التاريخ، يعشق الماضي؛ ويتماهى في مقولاته؛ ابنة زمانها البسيط، ليعيد إحياءها من جديد في زمان بلغ حداً هائلاً من التعقيد، وتفصله عن زمان السلف قرون من التغيير البنيوي الشامل والكامل.
ووقوعاً في أسر التفكير الماضوي بدأ جيل الخلف في اجترار المقولات والمرويات حول "أسواق العبيد والإماء"، و"فقه الغزو" وأنصبة توزيع الغنائم، و"اقتصاديات الجزية"؛ " وهدم التماثيل، وإزالة آثار الحضارات البائدة لأنها حضارات كافرة؛ وكل هذه القضايا المنتسبة إلى خطابات الماضي، يقومون بتبنيها، ويطالبون بإعادة إحيائها على الرغم من تغير الزمان، وفي حقيقة الأمر فإن هذا النهج الماضوي؛ يخفي هدفاً سياسياً مسكوتاً عنه، بعيداً عن العقيدة الصحيحة أو تطبيقها.
إن إعادة توظيف هذا المسمى القديم "السلفية" في عصرنا الحديث، يذهب باتجاه اتخاذه مسربا سياسياً، يخرُجه من حقله المهتم بالعقيدة ونقائها وحمايتها من الابتداع، إلى "مشروع سياسي- دولاتي" يقام ايضاً على هدي المشروع السلفي القديم؛ أي مشروع "دولة الخلافة"، وقوعاً في تلابيب وأسر التفكير الماضوي سياسيا؛ فالدولة في الزمان الحديث، هي مشروع مدني، وليست مشروعاً دينياً.
وإذا كان " الماضويون " الذين يرفعون لافتة مسمى "السلفية"، يقومون بتسييس المفهوم، وعصرنته تطبيقاً، بتجسيد نمط "دولة الخلافة دينية الهوية"، فإن التناقض الهائل سوف يتجلى بين الأصول التي يتكئون عليها وهي مرجعية "الكتاب والسنة"؛ وبين المفهوم المعاصر لنظام الدولة، لذلك فإنهم يُروِّجون – حسب خطاب تنظيم داعش- اصطلاح "دولة الخلافة" في أدبياتهم؛ بل ويعتبرون مفهوم "دولة الخلافة" تجسيداً سياسياً لفكر "السلف الصالح".
وصرف النظر عن كل اليقينيات المضادة للفكر الماضوي، التي أعلنها علماء إسلاميون، من أمثال الشيخ علي عبد الرازق، فقد أعتبر الخلافة الإسلامية مسألة دنيوية وسياسية، أكثر من كونها مسألة دينية، ودليله اليقيني "أنه لم يرد في القرآن أو الأحاديث بيانٌ بوجوبها؛ أو التأكيد على ضرورة الخليفة"، وكل هذا يثير إشكالية مدى مواءمة المسمى لمقدار التطور العصري المتعمق وهو "الدولة" الذي طال نظام إدارة البشر في هذا العصر.
*****
إن هذا العقل العقدي الأسير للفكر الماضوي والذي يُسمي نفسه بـ "السلفي"؛ يُصرُّ الاَّ يُطلِّ بعنقه إلى خارج "غيابة الجب"، لرؤية متغيرات الزمان والمكان، ويتغافل عن تغير طبيعة المفاهيم والخطابات، التزاما بتقديس الماضي فقط، عبر المتناقل من الكتب والأقاويل والمرويات، بل وقام في إطار توسيع الرقعة التي انبنى عليها المفهوم، ليشمل المسمى أيضاً مَن التزم بالعقائد والأصول حتى وإنْ باعدت بينهم الأماكن والأزمان وبين أهل القرون الثلاثة الأولى.
وبهذا الفعل، سياسياً، يسبغ أهل ذلك التيار على أنفسهم صبغة من القداسة، المرتبطة بقداسة أصول الديانة، في ممارسة منافية لذهنيات الزمان الحديث، التي صارت لا تقبل بناء الدول وفق العقائد الدينية؛ خاصة مع الأخذ في الاعتبار طاحونة التطور العولمي للنظام الدولي الذي يحركه فعل الاقتصاد وليس القناعات العقدية.
إن تراجع دور المرجعيات العقدية، يعد من دلائل قيام النظام السياسي الدولاتي؛ كما تؤكد ذلك العديد من المراجع البحثية؛ وهذا يكشف لا موضوعية "العقل الماضوي" أو ما يُسمى "العقل السلفي" في مشروعه الدعوي النازع إلى التجسد السياسي في الواقع بما يسمى "دولة الخلافة"؛ أي الربط بين "العقيدة/ الدين" وبين "الفعل السياسي". لأن نظام الدولة المدنية الحديث، مفارق موضوعيا لهذا الفكر المنتسب إلى زمن يتجاوز أكثر من ألف عام.
*****
لذلك نرى أبلغ نموذج لتلويث ما فعله السلف الصالح، يتجسد في وهم "دولة الخلافة" التي يحاول إقامتها "الدواعش" بكل مرجعياتهم التي انقضي زمانها، غير أن هذا العقل الماضوي لا يزال متفكرا بمنطق "الغارق في الجُبِّ"، ولم يخرج برأسه ليدرك عمق التحولات المذهلة التي طالت الواقع، فكانوا وهم جيل الخلف... يمثلون أسوأ دعاية لأهل السلف؛ بل إنهم في الحقيقة يخادعون الناس... وينسبون أنفسهم زورا لأهل السلف!!
"رأفت السويركي"
-----------
التعليقات
Raafat Alswerky حمدا لله وشكرا
لا حدود له فهذا من فضلكم الكريم وشهادة نعتز بها، مع اجمل تحياتي الى شيخكم
الجليل.
النهيري حمزة
هذا ماتربينا
عليه سيدي الكريم..
ولن أتردد في انتقاد مالا أوافقك عليه..كما لن أتردد في التنويه
بما أعتقده صوابا..
مع كامل المودة والتقدير الخالصين
Raafat Alswerky والانتقاد لا
يقلل من مشاعري واعتزازي بكم، فاختلاف الاّراء لا يفسد للود قضية، مع محبتي.
حفيظ بن أحمد
الدكتور الحبيب النهيري حمزة
و الدكتور
الكريم Raafat Alswerky أعتذر عن
التأخير في المشاركة لكوني كنت في العمل
..
و عليه و بعد اطلاعي على مقال الدكتور رأفت لا أجد نفسي إلا أن أنوه أدبيا بتدخل بسيط يصب في ذات النهر، و كنت قد تبنيتُ هذا الخط التحريري للسيد رأفت ..
في عرف الطب، يكون عزل المريض و الحجر عليه، هو المطلوب في الحالات الطبيعية، حتى لا تنتقل العدوى للأصحاء، فيحق لنا أن نقول هنا، بعد هذه الرحلة من الإحباطات المفهومية الفكرية، و حمل الكثير من الأمراض الاجتماعية نفسها، التي يعيشها الآخرون، إنه : لا بد من عزل السليم، عزل الأصحاء، حتى لا تنتقل لهم العدوى، بعد شيوع المرض التديني المغشوش، و تفشيه، و إصابته لمن يدعون القدرة على شفائه، ممن أصبحوا هم المشكلة، و ليس الحل .. و من هنا ندرك متى تكون العزلة، لإعادة التزود، و العودة إلى الفهم الصحيح الإيجابي لقيم الوحي بأداة العقل و هدايات النبوة، و ليس السلبي الانسحابي، لما تعانيه الأمة، من شيوع حالة الانفلات في الفهم و الإدراك .. و كما تفضلت أستاذ رأفت، أن جيل الصحابة هم أَمنة الأمة، و هم لبنات بناء الأنموذج، و هم حلقة الاتصال بين الفكر و الفعل، بين المبادئ و البرامج، إنهم جيل الخيرية، و حياتهم معالم مضيئة في بناء المرجعية و الفهم و التنزيل على الواقع، حتى يُحمى الجانب التطبيقي للقيم من الاجتهادات المعوجة - التي ابتلينا بها - و الانتحالات الباطلة، و التحريفات الجاهلة، و الغلو في الدين - كما هو مسرود في المقال العظيم - و تكون ترجماتهم و سيرهم المنجم التربوي، و المَعين الذي لا ينضب لمناهج وسبل الارتقاء بالنشئ إلى تحقيق مقاصد الدين، و التحلي بخصائص الخيرية والصعود نحو الكمال ..
طبتم و طابت أوقاتكم و متعكم الله بالصحة و العافية ..
و عليه و بعد اطلاعي على مقال الدكتور رأفت لا أجد نفسي إلا أن أنوه أدبيا بتدخل بسيط يصب في ذات النهر، و كنت قد تبنيتُ هذا الخط التحريري للسيد رأفت ..
في عرف الطب، يكون عزل المريض و الحجر عليه، هو المطلوب في الحالات الطبيعية، حتى لا تنتقل العدوى للأصحاء، فيحق لنا أن نقول هنا، بعد هذه الرحلة من الإحباطات المفهومية الفكرية، و حمل الكثير من الأمراض الاجتماعية نفسها، التي يعيشها الآخرون، إنه : لا بد من عزل السليم، عزل الأصحاء، حتى لا تنتقل لهم العدوى، بعد شيوع المرض التديني المغشوش، و تفشيه، و إصابته لمن يدعون القدرة على شفائه، ممن أصبحوا هم المشكلة، و ليس الحل .. و من هنا ندرك متى تكون العزلة، لإعادة التزود، و العودة إلى الفهم الصحيح الإيجابي لقيم الوحي بأداة العقل و هدايات النبوة، و ليس السلبي الانسحابي، لما تعانيه الأمة، من شيوع حالة الانفلات في الفهم و الإدراك .. و كما تفضلت أستاذ رأفت، أن جيل الصحابة هم أَمنة الأمة، و هم لبنات بناء الأنموذج، و هم حلقة الاتصال بين الفكر و الفعل، بين المبادئ و البرامج، إنهم جيل الخيرية، و حياتهم معالم مضيئة في بناء المرجعية و الفهم و التنزيل على الواقع، حتى يُحمى الجانب التطبيقي للقيم من الاجتهادات المعوجة - التي ابتلينا بها - و الانتحالات الباطلة، و التحريفات الجاهلة، و الغلو في الدين - كما هو مسرود في المقال العظيم - و تكون ترجماتهم و سيرهم المنجم التربوي، و المَعين الذي لا ينضب لمناهج وسبل الارتقاء بالنشئ إلى تحقيق مقاصد الدين، و التحلي بخصائص الخيرية والصعود نحو الكمال ..
طبتم و طابت أوقاتكم و متعكم الله بالصحة و العافية ..
Raafat Alswerky هكذا دوما
الصديق الكريم حفيظ بن احمد لا يصدر عنكم الا كل صواب وثمين القيمة من الرأي القيم
الموزون، مداخلتكم اضافت الكثير وعمقت ما ورد في متن التدوينة ببراعتكم العلمية،
ولعل كل الخيرين علميا الا يتوقفوا عن كشف حقيقة الزيف التاريخي في هذه الظواهر
الضارة، وفيما تفضلتم بتسميته البليغة بالتدين المغشوش الذي يضر بصورة العقيدة
الحق. حفظكما الله وجعلكما زخرا طيبا للرسالة الشريفة مع محبتي.
حفيظ بن أحمد
كنتَ رائعا و
موفقا سيدي الفاضل و صديقي الألمعي Raafat Alswerky في تفكيك هذه
العقول النخرة في هذا المقال الثري
..
لك مني تحياتي المصدرية و أصدق المشاعر الأخوية ..
بارك الله فيك ..
لك مني تحياتي المصدرية و أصدق المشاعر الأخوية ..
بارك الله فيك ..
Halloo Yaholloo بارك الله فيكم استاذ رأفت وأعانكم الله على كشف
الزيف لمن يتسمون بالسلف وهم متسلفة متنطعون ..حفظكم الله وبارك فيكم وفى جهدكم
المخلص المستنير
Halloo Yaholloo تحياتى لك
سيدى ولجديتك واستقامتك فى الشرح والتحليل
يحيى اللزامي هذه دراسة بالغة الأهمية غاصت في
العمق ،بحثت الظاهرة بشكل علمي رصين خالص التحية والتقدير لفرادة الاسلوب
Raafat Alswerky اعتزازي وتقديري
لحضورك الكريم الصديق البهي يحيى اللزامي والأمنيات ان نعيد جميعا النظر الى المسلمات
المفروضة على حياتنا من دون ادراك لخطورة بعضها وما يترتب على وجودها من مخاطر.
ولَك امتناني ومحبتي.
ناصر عراق يا أستاذ رأفت... أيها الرائع دوما...
رجاء... رجاء... رجاء... اجمع هذه المقالات المدهشة والعميقة والكاشفة والفاضحة
والشارحة... رجاء أجمعها في كتاب وانشره على الملأ عسى أن يفهم الناس المأزق الذي
يمسك بخناق أمتنا من جراء الاتكاء على وسادة الكسل العقلي.... أحييك بشدة أيها الشاعر المجدد
والمفكر العميق على هذه المقالات/ الدراسات الثمينة للغاية... بوركت على الدوام.
Raafat Alswerky الصديق الغالي
المبدع الروائي ناصر عراق، دوما من تفاعلك الكريم استمد الحافز لمزيد من التفكر
والمحاولة، اشادتك تأتي من إنسان فاضل ودود عرفته من سنوات، وأدركت طيب معدنه
الإنساني، فضلا عن ابداعه الروائي المتميز. ومن المؤكد ان تحتوي باذن الله دفتا
كتاب هذه الكتابة، بعد ان يشتد عودها اكثر. ولَك محبتي.
ناصر عراق شكرًا جزيلا استاذ رأفت على استجابتك
، وليس عندي ذرة شك واحدة في أنك ستكشف الكثير من خراب المنظومة الذهنية السائدة
في مقالاتك ودراساتك العميقة. تقبل مودتي وتقديري واحترامي.
Raafat Alswerky الصديق البارع
صاحب صفحة الثقافة الوعي، اشكرك لمساهمتك المميزة بهذه الخطوط العامة وأرحب بأية
مساهمة شخصية حول هذه النقاط لتحقيق التفكير الجمعي حولها وهي القضايا التي أسعى
بإثارتها الى تحريك المياه الراكدة مستفيدين من الامكانات الهائلة لوسائل التواصل
الاجتماعي، لذلك انتظر ما يمكن ان تساهم به وانا على قناعة بانه سيكون مميزا، ولك
تقديري ومحبتي.
Etidal Osman أتفق مع
أستاذ ناصر عراق في جمع المقالات في كتاب، وأتفق أيضا مع الرأي القائل بالتركيز
على المنهج وليس الأشخاص.
تحياتي وتمنياتي بالمزيد من الآراء
النيرة
Raafat Alswerky باذن الله
أستاذتنا الدكتورة سيجري ترتيبها في كتاب، اما فيما يتعلق بالمنهج فهذا ما يتبع في
الكتابة بوجه عام من عدم التطرق الى الأسماء الا ما تقتضيه الحالة، والحلقات
التالية سيجري تعميق تناول القضايا التي تمثل منهاج تفكير التيار الماضوي، وأسعدك
الله .
--------------------------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق