الأربعاء، 22 مارس 2017

"شجرة التنوير العربية"... تواصل دورة تساقط أوراقها مباغتة رحيل "السيد ياسين"... في ذكرى غياب "علي مبروك"!!

"شجرة التنوير العربية"... تواصل دورة تساقط أوراقها

مباغتة رحيل "السيد ياسين"...

 في ذكرى غياب "علي مبروك"!!
---------------------------------------------

هكذا شجرة الفجيعة تكبر ساقُها القاسية؛ وتضغط علينا بأفرعها الجرداء المقفرة من الورق المتساقط بفعل إقفار الموت والفقد والغياب.

 الراحل الكبير السيد ياسين

 
الراحل الكبير الدكتور علي مبروك
*****

ما كدت أتهيأ للتذكير بالراحل الدكتور "علي مبروك" الذي غاب العام الماضي عن دنيانا في صباح يوم الأحد 20‏ مارس/ آذار 2016م وقد أصابني غيابه بهزة كبيرة؛ حتى باغتني هذا الفعل الوجودي الذي لا مهرب منه بخبر إعلان اختطاف الموت للراحل الكبير منزلة في عقلي وقلبي... المفكر الكبير السيد ياسين؛ يوم الأحد 19 مارس/ آذار 2017م.
لذلك كانت حيرتي لدى الكتابة بحجم الحيرة أمام فعل الموت. إنها كتابة المباغتة التي تفقدك الاستعداد للمفاجأة؛ فلا يكون رد فعلك سوى الدوران في سياق الصرخة وهز الرأس تعبيراً عن فقدان الحيلة. هل يملك أحد منا أمام حادث الإخبار بفقدان عزيز سوى صرخة الفجيعة.

ما أقسى الشعور بالفقد الذهني حين يباغتك الخبر بموت السيد ياسين ومن قبله الدكتور على مبروك وجورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري ونصر حامد ابو زيد وسواهم من العلامات التي تشعر أنها أحدثت انقلاباً في حياتك؛ انتشلتك من محيط التبعية الصماء لتلقي بك إلى شاطىء التفكر والتعقل وممارسة الإنسانية. انتزعتك بجهدها الفكري - الذي تتفق معه أم تختلف مع بعض فروعه- من أزقة ببغائية الموروث والخرافة لتضعك في قلب ساحات الجدل والمحاورة والوعي وصولاً إلى نور اليقين.

غياب العلامات الفكرية المبدعة والريادية بفعل الموت المتواصل يمثل خسارة فادحة للإنسان العربي والمسلم؛ فهؤلاء كانوا شموعاً شاحبة في خيمة مظلمة عاتية السواد يطوقها الموروث القولي المتمكن بتسرطنه من تلابيب الأمر لدى فهم العقيدة والسياسة والثقافة.

وهؤلاء هم أساتذتي الذين علموني بما أنتجوه من كتب ودراسات ومقالات؛ والذين كما كتبت مسبقاً أنني أدين لهم بثقافتي ومعرفتي الحرة؛ تطبيقاً للمقولة الشهيرة المنسوبة إلى علي ابن أبي طالب "من علمني حرفاً صرت له عبداً أربعين عاماً"؛ أجر التعلم منه وليس عبودية المخلوق للخالق كما يفهم المقولة العقل المغلق الذي يأخذ بظاهر القول في لغة ذات كميائية إبلاغية غير محدودة بقدرتها اللامحدودة لتولید الألفاظ واستيلاد المعاني عبر تقنية الاشتـقاق؛ والذي يجعلها تحمل رسالة السماء إلى أن تنقضي الحياة على الأرض بطاقة وقدرة ما تتيحه من فعالية التأويل.

*****

** السيد ياسين "علامة التحليل السياسي والاجتماعي":
-----------------------------------------------------


الراحل الفذ السيد ياسين ماذا يمكن أن تكتب حوله؟ كلماتك المتعجلة لا بد أن تكون مناسباتية؛ يحكمها فعل الموت المباغت؛، لذلك فالعبارات تضيق عن الإحاطة بقيمة ومنزلة السيد ياسين؛ ذلك الرجل الهادىء الرزين المتأمل العميق.

التقيته لمرة واحدة شخصياً فأسرني بطبيعته الإنسانية؛ لكني ترحَّلت في عوالمه الفكرية لسنوات وسنوات وتعلمت من كتاباته وكتبه الكثير الكثير؛ فأغنى فهمي وعقلي، وفتح لي آفاقا مشرعة باتساعها المعرفي في التعامل مع الراهن السياسي اليومي والمعرفي المتسع بسياقات ترصد التحولات العولمية في واقعنا.

الراحل السيد ياسين كان رحلة من الغنى المعرفي في العلوم الاجتماعية والسياسية؛ وقد منحته خبراته السياسية والاكاديمية المعرفية قدرات وازنة ثقيلة القيمة عبر ممارساته السياسية والمعرفية والبحثية؛ وقد تجلت قيمته المعرفية في إنتاجه القيم المدعم بقدرات الإمساك المحكم باساسات علوم الاجتماع والسياسة والاقتصاد السياسي في حقولها المتسعة والمختلفة. 

*****

لم يكن الراحل السيد ياسين أسير الماضي بعلومه ولكنه ممن فتحوا لي آفاق التصورات الاستراتيجية المستقبلية السياسية؛ حيث أعطى جهدا دؤوبا للنظر في قضايا ومستجدات ومستحدثات العولمة وهي تهيمن وتعيد صياغة العالم من جديد. الراحل في كتابه البارز" آفاق المعرفة في عصر العولمة"؛ يضع نصب عينيه تعظيم الاستفادة من التحول الهيكلي العولمي؛ بالاستفادة من المعلومات المتاحة عبر الانترنت وتحويلها إلى مصدر التطور المعرفي الذي نحتاج إليه في هذا الزمان الذي نعاني عربياً من تردي العملية التعليمية؛ عبر الاستفادة من ظاهرة "التعليم عن بعد".

في المسألة الفكرية بتعقيداتها المختلفة لا ينبغي وأنت تعيش عوالم الراحل السيد ياسين ألا وتغوص في ثراء قدرته التحليلية؛ وإذا كنت عروبي النهج والانتماء وطنياً لا يجوز لك أن تتجاهل كتابه البارز "تحليل مفهوم الفكر القومي"، وإذا كنت تعيش الاعتزاز بهويتك وتحاول أن تفهم تصوراتها عليك أن تخوض جهد التفاعل مع كتابه "الشخصية العربية بين تصور الذات ومفهوم الآخر"؛ وإذا كنت مصرياً مهجوساً بشعورك الوطني وتعيش قضايا وتحديات الواقع ومتغيراته وتطوراته؛ فينبغي أن تثري ذاتك المعرفية بكتابه "مصر بين الأزمة والنهضة". 

الراحل السيد ياسين بموسوعيته المعرفية البناءة في كتاباته يطالبنا بـممارسة "النقد الذاتى المعرفى" لكشف العيوب الفلسفية العميقة "لما نعتنقه من إيديولوجيات" ولا نكتفي "فقط بنقد الممارسات السياسية السلبية". 

*****

وفي "الزمان العالمي من التنمية إلى العولمة" يطالبنا الراحل بالاقتداء بـ "نموذج الدولة التنموية – الذي- وجد تكريسا له أساسا فى اليابان وتسيطر فيه وزارة التجارة والصناعة MITI على مجمل النشاط الاقتصادى، ثم ظهور الصين من بعد باعتبارها دولة تنموية جبارة".

وفي "الزمان العالمى من التطرف إلى التنمية" يرصد الراحل الكبير العقبات المتعددة التي منعت المجتمعات العربية من أن تعيش عصر صعود العقل والعقلانية، لعل أهمها الجمود الفكرى والتعصب المذهبى وطغيان النصوص...، ووضعت الخطوط الحمراء أمام انطلاق العقل النقدى لكى يعرض كل شىء على المساءلة...، خصوصا بعد تطور مناهج العلوم الاجتماعية واللغوية التى سمحت بتفسير وتأويل النصوص الدينية فى أى دين وفق المناهج اللغوية الحديثة التى ركزت على تشريح النصوص بشكل عام...">

وحين النظر إلى موضوعة "الهوية العربية والهويات الوطنية" يطالب الراحل بالوصول إلى "الهوية الإنسانية" التي يقول حولها:" إننا جميعا - بشكل أو بآخر- متشابهون مهما اختلفت جنسياتنا لأننا بشر"؛ وحسب ما قرر الكاتب الأميركى مارك توبن فى كتابه - ما الإنسان- حين قرر أن الإنسان هو الإنسان فى كل مكان. وهى الفكرة الجوهرية التى ركز عليها الفيلسوف جيرمى ديـكين فى كتابه الأخير - حضارة التعاطف- والتى يرى أنها تمثل مستقبل الإنسانية فى القرون المقبلة بعد أن تمر بمرحلة العنف الدموى والإرهاب المعولم".

ولأن الراحل الكبير كان إخوانياً في مرحلة شبابه الأولى ثم تحرر من الانتماء لهذه الجماعة، فقد وصف مسلكيتها في إحدى كتاباته بأنها تمارس "سياسة خداع الذات الإخوانية". وذكر بحرفه:"لا يمكن وصف سلوك جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية بعد أن أسقط الشعب حكم الإخوان الديكتاتورى فى 30 يونيو إلا بخداع الذات! وقد برزت مؤشرات خداع الذات بالزعم الإخوانى أن الملايين التى خرجت فى 30 يونيو أقلية ولا يكونون أغلبية. والزعم الثانى أن 30 يونيو التى خططت لها المبادرة الشعبية التى تمثلها حركة «تمرد» هى انقلاب عسكرى وليست ثورة".

إن هذه المتابعة السريعة لعوالم المفكر الراحل السيد ياسين تدور على حواف بعض كتاباته؛ لكن التفرغ لقراءة أعماله لا تعادله متعة؛ فالدعاء أن يرحمه الله؛ إذ ترك فراغاً كبيراً على الشجرة حين سقطت ورقته.

*****
 
  فيس بوك يذكرني بكتابتي حول غياب علي مبروك

** ذكرى رحيل علي مبروك "مفكك فكر الخرافة ":
------------------------------------------------


أما الراحل الذي أعاد "فيس بوك" تذكيري بكتابتي المسبقة حوله؛ فهو الراحل الدكتور على مبروك الذي افتقده عالم التنوير الإسلامي في صباح الأحد 20 مارس 2016 م وكانت بداية معرفتي القرائية بعقل "علي مبروك" باقتنائي كتابه " ما وراء تأسيس الأصول - مساهمة في نزع أقنعة التقديس"، الذي اشتريته من أحد باعة الكتب في شوارع القاهرة خلال عطلة صيفية، وقد أدهشني الكتاب بعنوانه المتحرك في عوالم خفايا تأسيس الأصول، وزاد الأمر تشويقاً بعبارة "مساهمة في نزع أقنعة التقديس"، وفي هذا الكتاب عمل "علي مبروك" على كشف تمازج الديني والسياسي في العمل، واضعاً اليد على إشكالية ذلك التماهي الوجودي العميق، ومدى هيمنة الديني على السياسي، حتى صار السياسي يرتدي قناعاً دينياً في حياة الأمة.

وبذلك يقدم علي مبروك رؤية مقلقة حول كيفية تفكيك الديني عن السياسي، وصعوبات هذا التفكيك لدينا، وليكشف كيف أن هذا التمازج يؤسس لعجزنا الذي نشعر به ونراه، لأن هذا التماهي والتمازج لم ينتج لدينا سوى العقل التابع، لسطوة ما أسسه الشافعي والأشعري. وهو المعاكس لفعل التفكيك الذي صار في المسيحية بين العقيدة والسياسة.
وعليَّ الاعتراف شخصيا أن هذا العمل أسهم كثيراً في مساعدتي على فهم كثير من الظواهر التاريخية المهيمنة على عقولنا، ودفعني للبحث عن كل مؤلفاته التي تعيد النظر والتفكيك في تراثنا الإسلامي ونصوصه الحافة المؤسسة.

إن شعوري بغياب "على مبروك" فادح، لأنه أيضاً من أصحاب العقول الممنهجة؛ التي أضافت لي في رحلة المعرفة الكثير؛ وكلما أمسكت أحد كتبه قفزت إلى ذهني صورة وسيرة المرحوم الدكتور نصر حامد أبوزيد، فكلاهما تناول الإمام "الشافعي" بعمل فكري متميز، ونصر ابوزيد وعلي مبروك كلاهما من المدرسة الفكرية التنويرية الراسخة، التي رعاها المفكر الكبير الدكتور حسن حنفي أطال الله في عمره بانتاجه الكبير والثمين.

*****

كان الراحل "علي مبروك" مهجوساً بمصدرية الفكر المهيمن على حياتنا والمكبل لإمكانات التطور المنشود، ولا غرابة في ذلك لأنه ابن عقلية رواد التنوير، وعلى نهجهم مضى، يُشرع عقله في مساءلة الموروث، استكمالاً لجهد الآباء الأولين، في رحلة تحرير "العقل النقدي" من تكلسه التاريخي، واجتراره للمسلمات، واستسلامه للقداسات البشرية؛ المصنوعة لكلام البشر السابقين أيضاً، ممن صنعوا وقوننوا الجُدُر الحافة بصلابة حول النص القرآني المقدس، وجعلوا من أنفسهم الخاصة المميزين باحتكار تأويل كلام الله، وهو الكلام المنزل على قلب الرسول الأكرم للناس جميعاً من دون وساطة.

*****

كان "علي مبروك" خطوة إضافية في مشوار الوعي المعرفي العربي والمسلم، ليذكرنا بضربات طه حسين، وعلي عبد الرازق، ونصر حامد ابو زيد وسواهم، ممن ينبغي أن تفخر بهم الأمة، لأنهم حاولوا تحريرها من ركامات المستهلكات الفكرية. "علي مبروك" كان امتداداً شرعياً لهم. وكان إضافة جديدة للجيل التنويري العربي المعلم، ومنه الجابري وطرابيشي ومحمد الطالبي وعبد المجيد الشرفي، ومحمد مفتاح وطه عبد الرحمن، وعبد الله العروي ومحمد اركون، ومالك بن نبي والمهدي المنجرة، والعشرات ممن تروج أسماؤهم لدى النخب المهتمة بقضايا الفكر والعقل العربي والإسلامي. 

*****

إن مشروع "علي مبروك" الفكري ينبغي أن يلتفت إليه الكثير من المثقفين ممن يغيب عنهم رصد أعماله المميزة، والتي سيجدون في ضفافها الكثير من الجهد التفكيكي المهم المتصدي لفكر الخرافة والجمود. لذلك أعيد التذكير بغيابه داعياً له بالرحمة وخير الثواب جزاء إعماله عقله المعرفي. 

                                                                                 "رأفت السويركي"
------------------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق