الأُذْنُ تَعْشَقُ قبل العَين أَحْياناً... فأبصروا الشعر؛ لا تسمعوه!!
-----------------------------------------------------
قصيدتي البصرية “هي الشجرة... هذا النهر”.
قصيدتي البصرية “حادث القبض على الابيض”.
حين وضع الشاعر العبَّاسي المجدد بشَّار بن برد "الأذن" في موقعها الصحيح؛ كاشفا حضورها غير الحقيقي المعمم؛ فإنه يؤكد استثنائيتها حسب بيته الشعري الذي صار يجري في موقع مضرب الأمثال:
يا قومِ أذْنِي لِبْعضِ الحيِّ عاشقة والأُذْنُ تَعْشَقُ قبل العَين أَحْيانا
بشار بن برد يُشْهِرُ بذلك مفهوماً مُغيَّباً في الثقافة العربية؛ التي اعتمدت تاريخياً على فرض الهيمنة الاتصالية للحنجرة والأذن؛ أي القول والقيل والقال؛ وتغييب الحضور الإبصاري؛ فصارت ثقافة العرب صوتية؛ تزدحم مُتُونُها بعمران ما كان مختلقاً ومكذوباً؛ وما هو منحول؛ ... إلخ من الاصطلاحات التي يدرك فقهها أهل اللغة.
*****
والمؤسف أن هذا الإخفاء العمدي لحق العين عربياً في استرداد حضورها الاتصالي تعبيرياً لا يزال يتواصل، ويتعمق حتى في العصر الحديث، عصر “هيمنة الصورة”؛ الذي اعتمد آلية “الكتابة/ الصورة” بديلاً عن نمطية الشفاهية والتلقينية؛ لذلك لا تزال الأنماط الشعرية الموصوفة بالتجديدية والتحديثية، تحافظ في زمن الطباعة على "أس" النبر، وإيقاعية الحرف المقول؛ ما جعل القصيدة العربية بنيويا تتسم بالغنائية؛ وتتحكم حتى بخناق الإيقاع الموسيقي النغمي المرافق.
والأشد والأنكى في تلك المسألة... أن ما تُسمى "قصيدة النثر" تحافظ أيضاً على البنية الإيقاعية الصوتية المنتحلة الخاصة بها؛ والمموسقة قولياً؛ حتى ولو لم تلتزم بوحدات الإيقاع الموسومة بالتفعيلة؛ باعتبارها ابنة مُهجَّنة من الفن القولي الشفاهي؛ وتخرج أيضاً من "جُبِّ" النبر، لتسوح في صحراء الإيقاع!!
*****
والسؤال الجوهري في هذه القضية هو: هل لدينا أقوى من العين أداة أساس أخرى؛ تشكل اتصالنا اللزومي بالموجودات في الحياة؟ أي تساعدنا في التعرف إلى المحيط بنا؛ والتعارف مع عناصره؛ بالتآلف والقبول والترافض؛ أو التآمن والتخاوف؛ والتحابب والتباغض؟!
إن عيننا في الحقيقة هي دليلنا الوجودي وقد ظلمناه -عربياً- ثقافوياً؛ وقمنا بتهميشه من أجل إعلاء شأن الحنجرة والأذن؛ تعظيما لآليات “الصناعة القطيعية” لإنتاج جماهير التبعية في التلقي المهيمن عليها عبر منبر الخطابة والميكروفون؛ فوقعنا في المأزق الحضاري؛ في أسر "سحر الصوت" على حساب "إشارة الرؤية"؛ لذلك وُلِدْنَا، ونضجنا وكبرنا على حضور "النبرة"؛ في “هدهدة” الأم لوليدها؛ في " زقزقة" العصفور فوق الشجرة؛ في مخادعة “ همسة” الشفاة بكلمة الحب؛ في “طنطنة” وهدير الصوت الرعدي لتمكين وتفعيل التحشيد السياسوي!!
لذلك لماذا لا نعيد للعين حضورها؛ مقدارها ومعيارها؛ لأننا نستهلكها، ونجهدها إلى أن يصيبها الكلل من طيلة النظر، والإعياء من التفرس؛ فنساندها بالمنظار الطبي للقراءة أو السير؟!
*****
تاريخنا التعبيري الثقافوي يضع الاستثناء عند أجمل اللحظات للأذن؛ معترفاً - وهذا هو المسكوت عنه – بهيمنة فعل العين أساسا في عملية العشق كما أكدها بشار بن برد؛ وهل هناك أجمل من العشق؟!
** هذه النقطة الفارقة كانت دافعاً ذاتوياً وشخصانوياً لخوض غمار تجربة إعادة الاعتبار الحضوري للعين في فعل التلقي الشعري؛ بمجموعة "قصائد بصرية"؛ بلغت العشرين قصيدة عدداً بخلاف ما لم تكتمل؛ وقد نشرت بعضاً منها في ثمانينات القرن الماضي، ضمن دورية "شؤون أدبية" الصادرة عن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات.
** في هذه "القصائد البصرية" التي لم أتدخل في عملية التعريف بمحمولها الشكلاني وكشف مرموزها تاركا ذلك الفعل للمتلقي، كان الشكل المتماهي مع الإيقاع التفعيلي يتغلب لإثبات “الشعرانية”؛ فيمتد بالمتلقي قصدياً زمن التلقي التأملي في متن الشكل بحثاً عن "مرموزات" الجسد الشعري في القصيدة؛ بدافعية تحاول الفكاك من أسر "النبر" الشفاهي المهيمن على النوع التعبيري. لأننا في الواقع نحيا في وجود كلي صوري؛ و”المشاهدة/ الرؤية” دلالة على إثبات وجود الحياة؛ لان انقطاع الإبصار بعد وجوده يعني بيولوجيا الدخول في حالة مغادرة الحياة بالموت؛ مع الإدراك أن كف البصر للبعض، يمثل الاستثناء الذي يؤكد صواب القاعدة حسب قول المناطقة.
** وقد يتساءل متسائل: ما ضرورة وجدوى تلك المغامرة التعبيرية؟ وقبل المحاججة رداً على تساؤله؛ فالأمر مرتبط بوجوبية إعادة الاعتبار إلى “العين العربية” ثقافوياً في عصور الإثبات اليقيني، بالدليل المنظور إليه بعد انقضاء “عصور الرواة”؛ والسؤال المقابل هو: لماذا كتبت العرب معلقاتها في زمن الشفاهية بماء الذهب وقامت بتأطيرها.
لقد ذكر ابن عبد ربّه في "العقد الفريد ": " بلغ من كلف العرب به - أي الشعر- وتفضيلها له أن عمدت إلى سبع قصائد تخيّرتها من الشعر القديم، فكتبتها بماء الذهب في القباطي المدرجة، وعلّقتها بين أستار الكعبة..."؛ وهذا ما ذكره كذلك ابن رشيق وابن خلدون وسواهم.
** ألا يدل فعل العرب ذلك على إدراكهم اليقيني بأهمية "ثقافة العين" التي كانت حاضرة لديهم؛ وكانت محل الإجلال؛ وآليات ممارستها كانت متواجدة فعليا على الرغم من تغييب خطابها لصالح الأذن والحنجرة؟! إن العلة في هذا الأمر تعود مسؤوليتها على عاتق الرواة؛ الذين أخفوا قصدا و عمدا من مروياتهم بغرض الحفاظ على وظائفيتهم ما يؤكد وجود الثقافة البصرية بعمق في حياة العرب!
*****
ومع تذكير "فيس بوك" لي بموعد إشهار قصيدتي البصرية "هي الشجرة... هذا النهر" على جداري؛ أعيد التفكير في سؤال مهم للغاية؛ هو: لماذا لا نبصر الشعر أيضاً قبل أن نسمعه؟ أليست الأذن تعشق قبل العين أحياناً؟!!
"رأفت السويركي"
----------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق