الأحد، 3 نوفمبر 2019

تفكيك العقل النخبوي السياسوي الطوائفي (118) حراك ظاهره الدولة المدنية وباطنه الطائفة... (التظاهرت اللبنانية أنموذجا)!!

تفكيك العقل النخبوي السياسوي الطوائفي (118)

حراك ظاهره الدولة المدنية وباطنه الطائفة... (التظاهرت اللبنانية أنموذجا)!!

-------------------------------------------------------------



يذكرني الحراك الشعبوي المتواصل في لبنان؛ بعبارة يمكن أن تقال على المسرح:(حرك البيادق يا فتى، ودعنا نستعد لفاصل جديد من اللعبة)!!

فما يحدث في الشارع اللبناني راهنا ـ بمعزل عن حقيقة وواقعية ضغوط مشكلات الجماهير؛ ومعاناتها القاسية الراهنة في المعيشة؛ مثل أغلبية شعوب دول المنطقة ـ لا ينفصل عن سياق تلك الموجات الارتدادية لطوفان ما يسمى " الربيع العبروي "؛ والذي في مخططاته يستهدف هدم نمط الدولة الوطنية في المنطقة؛ وتعميم نهج تشكيل دولة الغيتو، ودولة الزنقة، ودولة الحارة؛ حيث يمثل النموذج اللبناني طورها الرسموي المعترف به.

***** 
الدولة اللبنانية في نمطها الراهن بــ "التعايش المشترك" بين الطوائف وفق (كوتة التمثيل السياسوي)؛ لا تزال تتماسك بآليات سيناريو (اتفاق الطائف)؛المعروف بوثيقة الوفاق الوطني اللبناني بالوساطة السعودية في 30 سبتمبر /أيلول 1989 م؛ لذلك لم تقض تطورات الحياة السياسوية على تأثيرات " الجين الطوائفي "؛ لأن الاتفاق لم يحدد إطاراً زمنيا للقيام بذلك؛ فبقيت صيغة دولة الطوائف مستمرة!

وهذا الراهن السياسوي القائم في لبنان يدعو للقول بأنه يعبر عن تواجد بذرة " النموذج التأسيسوي المستقبلي للنمط الدولاتي " المنتظر تعميمه في المنطقة؛ وهو القائم على ما يسمى (نموذج دولة الطوائف)؛ أي الدولة التي تتشكل وفق تجميعات التشكيلات العرقوية والعقدوية والمذهبوية؛ وقد جرى استصناعه في مرحلة هيمنة واستقرار الدولة القومية/ الوطنية الجامعة؛ ليكون نموذجا يجري تعميمه في المنطقة مع المتغيرات الهيكلية؛ لتتحول " الدولة الوطنية " مستقبليا إلى نمط " دولة الطائفة " في توافق مع " سيناريو الشرق الأوسط الجديد "!!

وهذا النموذج الدولاتي يتضمن في بنيته قوانين توظيفه؛ سواء في عملية التشكل أو عملية التواصل؛ والقائم على تجربة تنشيط أو تجميد عامل " الاحترابات المسلحة "؛ من أجل تقنينها الوجودوي بالتشكل؛ أو ضمان استمرارها؛ تطبيقا للخريطة الجاري العمل على تطبيقها.

***** 

والسؤال الجوهري في هذه التدوينة التفكيكوية لظاهرة الحراك المباغتة في الشارع اللبناني هو: هل هذا الحراك يمثل مسلكا منطقيا أم يتدخل الاستصناع  والافتعال والقصدية به؟

ليس لهذا السؤال أي ارتباط بما يمكن أن يسمى (تفكير المؤامرة) والذي يتم إشهاره بالتضاد في وجه الجهد القارئ للظواهر؛ ضمن سياق سيناريوهات الإدارة بالأزمة التي تتلاعب بالأمور في المنطقة؛ وتضغط دوما للتحكم في قوانين الحركة بها؛ تحقيقا لمستهدفين:

** الأول: تواصل التحكم في مخزون الثروات الطبيعية بالمنطقة؛ من بترول وغاز ومعادن وطاقة شمسية مستقبلية.

** الثاني: الإمساك بكافة أوراق القوة في المنطقة؛ بما يضمن سلامة وأمن ومستقبل الدولة الصهيونوية؛ باعتبارها مركزا متصورا مستقبليا بهويتها العقدوية اليهودوية؛ في وسط محيط مفتت من التكوينات العقدوية(مسلمون ومسيحيون؛ سنة وشيعة...إلخ) والعرقوية( عرب وفرس؛ دروز وأكراد وأمازيع ونوبيون...إلخ)!!

وهنا يأتي الحراك في الشارع اللبناني؛ غير منفصل عن هذه السياقات المهيمنة في المنطقة وترتيبات الحركة بها.

فهذا الحراك يأتي متتاليا لحراك الشارع العراقي؛ ومن قبله حراك الشارع في الجزائر؛ فالشارع في السودان؛ وكل هذه المتتابعات من الحراك تشكل ما أسميته في تدوينة سابقة (الارتدادات النمطية للزلزال) الذي طال الدولة السورية؛ والدولة الليبية والدولة اليمنية؛ والذي أفلتت منه الدولة المصرية العتيدة بفضل جيشها والتفاف الشعب حوله.

وإذا كان الحراك في الشارع العراقي يستدعي مفتقد (الدولة/ الوطن) الذي تهتك بآليات السيناريو الأميركي( بول بريمر مهندسا)؛ فإن الحراك في الشارع اللبناني محكوم بآلية نمط مغاير .

فالدولة اللبنانية قائمة ومستقرة؛ ومضمونة البقاء؛ لأن ثوابتها الطوائفية راسخة؛ وقوانين هويتها راسخة؛ وموازين التساند بها عميقة بعد الحرب الأهلية؛ وهيمنة النخبة المسيرة للشؤون الطوائفية بنيويا صارت متجذرة؛ وفيروس التوافق متمكن؛ ولا يتيح إمكانية الاحتراب السابقة؛ لأنه كان احترابا تأسيسويا لاستصناع نموذج الدولة المستهدفة مرحليا أي(الدولة الفيدرالية). كخطوة قد يطالها التفتيت فتتحول إلى "دولة الطائفة ".

معنى ذلك القول أن مداميك (الدولة اللبنانية الطوائفية) صارت عميقة بنيويا؛ وهدمها مستعص حسب حسابات الواقع والقوة؛ وسيناريوهات التصورات المستقبلية لنمط الدولة بالمنطقة؛ في ضوء انهيار (الدولة العميقة) في العراق وسوريا وليبيا واليمن؛ وما يسمى حيادية الدولة في منطقة الخليج وجنوحها البنيوي للتسالم.

***** 


إن الدولة الراهنة بمفهومها السياسوي في الواقع بلبنان؛ لا أحد يقبل بتهشيمها أو إزاحتها من الصورة؛ لأنها دولة ذات هوية متوافق عليها في الداخل اللبناني؛ وفي المحيط العربي وفي الخارج الأوروبي والأميركي؛ وقبل ذلك في الجوار الصهيونوي.

وما يثبت عبر القراءة التفكيكوية ذلك التوافق والاتفاق... أن السيد حسن نصر الله بكل حضوره العميق لدى جمهور المقاومة عبر الخريطة العربية ـ بعيدا عن أية حسابات تلعب على الشق الطوائفي(العرب والفرس والسنة والشيعة) أزاح من خلفية إطلالته التلفازية الأخيرة (علم حزب الله) بدلالته العقدوية؛ ليضع بدلا عنه (العلم اللبناني)...أي إشهار التمسك بالدولة الجامعة لكل المكونات الطوائفية. 

ولعل السيد حسن نصر الله يحاول بذكائه السياسوي؛ أن يزيل أية تصورات من المشهد الراهن تقول بأن حضوره هنا مرتبط بالصبغة الطوائفية؛ إنه يقول لتتراجع الطائفة من المشهد أو تراجعت لتتقدم الدولة.

لكن هل أفلتت خطوته غير المسبوقة إعلامويا تلك من الاشتباكات؟ أغلبية التفاعلات لم تضع هذه الخطوة في سياقها المقصود؛ ولم تعتبرها مبادرة لتصدير نهج الدولة سياسويا بديلا لنمط الطائفة؛ وأن الحراك ينبغي أن يكون منفصلا عن محركاته الطوائفية المسكوت عنها.

***** 

** إذن ما هو الجانب الآخر  للصورة الخاصة بالحراك في لبنان؟ 

لا تنفصل القراءة التفكيكوية عن الامساك بهذا المضمر السياسوي؛ لأنه من صلب الواقع الذي تمت هندسة بنائه حسب التكوين الطوائفي، ورسمنته باتفاق الطائف. 

وبالإضافة إلى ذلك المضمر ينبغي الالتفات إلى علائقية ارتباط هذا المضمر بالمحيط الجغرافي السياسوي؛ والذي قد يفسر منطقية موجة الزلزال الارتدادي في الساحة اللبنانية راهنا؛ ووظائفية هذا الحراك الذي ـ سياسوياـ يقوم به على وجه العموم تكوين تيار السنة ومكوناته برعاته المماثلين عقدويا بالخارج حتى وإن أخفى ذلك؛ فضلا عن بعض اللاعبين المشاركين في التوليفة الطوائفية؛ ولهم دورهم السابق في آلمشكلة اللبنانية(سمير جعجع أنموذجا).

*** وإذا كان المحتجون فور إعلان الحريري استقالته رفعوا شعار  (كلكن يعني كلكن ). فإن تفكيك هذا الشعار  يكشف مربعه الطوائفي ( السني تحديدا )في الوقت الذي يظهر فيه تجاوزه للمجال الطوائفي؛ لأن جماهير الطوائف الأخرى ومنها الشيعية والمسيحية وشريحة سنية تلتزم بالخطاب السياسوي المعبر عن نهج طبقاتها السياسوية.

*** شعار  (كلكن يعني كلكن )ـ صرف النظر عمن يطلقه في الساحات ـ  يعني ظواهريا المطالبة بالإطاحة بالطبقة السياسوية الحاكمة ومقاومة الفساد وإحلال حكومة تكنوقراط؛ ولكن كيف يتأتى ذلك في ضوء بنيوية المحاصصة في توزيع السلطات بلبنان باتفاق الطائف... إلخ.

*** إن خطاب شعارات مطالب الحراك الشعبوي( تحديدا السني وتوافقاته) خطاب مشروع؛ ولا يمكن الوقوف الحذر تفكيكاويا تجاهه؛ في ضوء تعمق المشكلة الاقتصادوية اللبنانية؛ وهيمنة فكر ونمط الفساد المستشري في المنطقة العربية كلها. وهي ما تعتبر مدخلا لحراكات النقمة الشعبوية في المنطقة.

غير أنه من الوجوب عدم الغرق في حصر المشكلة فقط في المسببات الاقتصادوية والاجتماعوية؛ بل يجب استحضار المستهدفات السياسوية المختبئة في باطن الصورة.

*** إن التحليل القارئ لطبيعة قوى الاحتجاج في الشارع اللبناني؛ ينبغي أن يدرك حجم الأوزان الديمجرافية/ السكانية للمحتجين في إطار قرابة الــ ١٨ طائفة وعرقية؛ وتنوعها بين من خرج ومن تأجل خروجه؛ وفق مقتضيات لعبة الشد والجذب؛ وحسابات الإثبات.

*** إن الرصيد الديموغرافي الذي لم يخرج من الشيعة والعلويين والموارنة والمسيحيين والروم الارثوذكس إلخ؛ ينبغي أن يوضع في سياق فهم آليات الحراك ودوافعه المضمرة؛ وهي سياسوية عميقة.

لذلك فإن القراءة التفكيكاوية لا ينبغي أن تهمل السياسوي بعلائقه المتعددة في اللعبة الداخلية؛ ولا ينبغي أن تتغافل عن إدراك التقنيات السياسوية المرتبطة بأدوار وأوزان وتنظيم الكتل الطوائفية في الصيغة اللبنانية؛ وكذلك جهوزيتها التنظيمية والانضباطية الحزبوية.

إن مراقبة الفضاء الإعلاموي المتابع للشأن السياسوي اللبناني تكشف عن تغييب مقصود للبعد العلائقي بين كتل الكمون الراهنة خارج شوارع الحراك التظاهراتي وبين المسألة السورية / الإيرانية؛ وهي مسألة في ذروة الأهمية؛ ولا ينبغي للعقل السياسوي أن يتغافل عنها؛ بل ينبغي أن يستحضرها بقوة بعيدا عن حضور دوافعية الغلاء والفساد في الشارع اللبناني.

*****

من الافتراضوي أن يعلم كل اللبنانيين طبيعة التركيبة الداخلية، وقوانينها وسياقاتها، وحسابات توازناتها وتوافقاتها. وأن هذه التركيبة أقيمت بمعايير منضبطة وحاكمة؛ على الرغم هوامش المراوحة والمناورة؛ التي تقتضيها صيغة التوافق السياسوية في دهاليز اتفاق الطائف الحاكم لشؤون الصيغة اللبنانية.

لذلك ليس من المستغرب التركيز في هذه التدوينة التفكيكاوية على حصاد المسألة السورية المخيفة في المجال اللبناني؛ بل ينبغي استحضار هذه المسألة إذا شئنا توفير فهم استراتيجاوي لقضية الحراك المباغت في الشارع اللبناني.

*** أولا: إن الكتلة المعادلة الوازنة في التركيبة الطوائفية اللبنانية ذات انتماء لحزب الله وحركة أمل؛ وقد لعبت العناصر المعسكرة لهذه الكتلة دورها الإسنادي للدولة السورية بقوة في ذروة أزمة هدمها بفعل الخارج الإرهابوي؛ المرتبط بمشروع تدمير الدولة العراقية. وقد مثلت هذه العناصر مع عناصر الحرس الثوري الإيراني قوة دعم هائلة بخبراتها في نمط تجربة طرد القوات الصهيونية من جنوب لبنان؛ لذلك امتلكت تقنيات وتكتيكات حروب العصابات المتناسبة مع مواجهة عصابات هدم الدولة السورية.

*** ثانيا: إن اقتراب المسألة السورية من انتهاء مرحلة إنقاذ تلك الدولة من الانهيار البنيوي؛ يعطي قوة حضور أكثر بريقا لحزب الله في الداخل اللبناني؛ وهذا ما يدخل في إطار الحسابات الاستراتيجاوية؛ في ضوء أن القضية لا ترتبط بمقاومة العدو الصهيونوي الذي تشكلت بسببها الصورة الإيجابوية للحزب ومقاتليه في الساحة اللبنانية والمحيط العربي. لكن بسبب المسألة السورية تحول حزب الله إلى خصم؛ نتيجة حسابات بعض الدول الإقليمية التي كانت أو لا تزال ترعى سيناريوهات فوضى ما يسمى الربيع العربي.

*** ثالثا: إن تضخم الدور السياسوي لحزب الله بهويته الشيعية في الخارج مدعوما بالقدرات والحضور الإيراني يحقق حضورا قويا للدولة الفارسية من المنظور المغاير في عمق الخريطة العربية بهويتها العقدية السنية؛ وهذا هو ما يتضاد مع حسابات الدول المضادة سنية الهوية؛ وبالتالي لا ينبغي إتاحة الفرصة لهذا الحزب لمزيد من التمكن والتعملق الداخلي في لبنان الطوائفي. في ضوء خروجه عن السياق المحلي وامتداد حضوره العملاني في سوريا واليمن.

*** رابعا: إن التزام جمهور حزب الله وحلفائه من أهل المذهب وبعض العقائد المغايرة(التيار الوطني الحر) بعدم المشاركة في الحراك يحصر ذلك الحراك في التصنيف الطوائفي التقليدي؛ وبعد الرد على استجابة سعد الحريري لذلك الجمهور بالاستقالة رفعت عناصر الحراك شعار (كلن يعني كلن)؛ وهو ما قد يوفر فرصة الرد على هذا الحراك(السني) بحراك مماثل من الطرف الآخر.



*** خامسا: ينبغي إدراك دلالات مقصود السيد حسن نصر الله والعلم اللبناني بجواره بقوله: "ما بدأ شعبياً وعفوياً ومطلبياً لم يعد كذلك بنسبة كبيرة، والحراك لم يعد حركة شعبية عفوية؛ بل حالة تقودها أحزاب معينة؛ وتجمعات مختلفة معروفة بشخصياتها". نصر الله يعمق الرؤية للمسكوت عنه في المشهد: "هناك تمويل في الساحات وهناك جهات تمول، وأتمنى لمن يعتبر نفسه من قيادات الحراك أن يشرح للناس ما يحصل، وهل السفارات والأثرياء الذين يمولون نشاطات في الحراك يريدون مصلحة لبنان؟"!!

*** سادسا: إن الطبقة السياسوية الحاكمة في لبنان التي نالت ما نالته من خطاب الاحتجاج لا تمتلك آفاقا واسعة للحركة؛ فهي محكومة جبرا بقواعد توزيع السلطات المقوننة وفق اتفاق الطائف؛ وبالتالي فهي ملتزمة بالدوران في إطار هذه القواعد مع بعض التغييرات الشكلانية.

***** 

وبالتالي فإن محدودية الحركة تجاه التغيير البنيوي المتمنى في لبنان يجعل حسابات تقدير هذا الحراك مرتبطة بما قاد إليه الجهد التفكيكوي المرتبط بالمسألة السورية ومستقبلها والأوزان المكتسبة في الداخل اللبناني بسببها؛ بالنظر إلى طبيعة العلاقة التاريخية للدولة اللبنانية مع الدولة السورية؛ وهي حسابات لا ينبغي التغافل عنها أو إهمالها وفق الحسابات السياسوية.  فمهما تجلى ذلك الحراك بأنه متماه مع مطلب نمط الدولة المدنية؛ ففي الحقيقة أن الطائفة تكمن داخله؛ وهكذا تمثل (التظاهرات اللبنانية أنموذجا)!!

                       "رأفت السويركي"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق