الأحد، 29 يناير 2017

فكرة "نظرية المؤامرة"... بين النفي والإثبات!!


فكرة "نظرية المؤامرة"... بين النفي والإثبات!!
-----------------------------------------------

لا يزال الجمهور العربي يعيش أزمة محيرة، تدور حول موضوعة وجود فكرة المؤامرة من جانب ومن جانب آخر نفي وجود فكرة المؤامرة من الأساس. ولكل طرف أسانيده الفكرية التي يظن أنها تدعم موقفه الفكري.

رافض وجود "فكرة المؤامرة" ينطلق من الشعور بأن الآخر المتهم بالتخطيط والتنفيذ لفكرة المؤامرة لا يتحرك بهذا الشعور ولا حتى يفكر حوله؛ وأن "فكرة المؤامرة" تعبر عن توهمات نفسانية وفكرية لدى الطرف الذي يظنها؛ وعليه أن يتخلص منها ويعمل بجدية أكثر ليفرض وجوده السياسي والفكري.

وعلى النقيض يأتي من يقتنع بفكرة وجود المؤامرة، والذي يبني موقفه من تحليل ثم توصيف ملابسات وجود هذه الافتراضية؛ ويدعم افتراضاته بكشف سيناريوهات وطبائع حركة الآخر القادر على حبك السيناريوهات وتنفيذها، وبالتالي حصد ثمار سيناريوهاته، وتحريك الأحداث في الاتجاهات التي يشاء أن توجه قوة الحركة.

في علوم المنطق والفلسفة توجد قاعدة تقول أنه "لا نفي لغير موجود"؛ بمعنى استحالة التفكير في موضوع ليس له وجود حقيقي، حتى وإن اختفى ظاهريا عن الحضور؛ إذ لا يمكن للذهن البشري أن يخترع كينونة فكرية لموضوع لا وجود له. ومن هنا يتداعي فلسفيا الموقف الرافض لوجود فكرة المؤامرة.

ولعل العقل الذي يروج لنفي وجود "فكرة المؤامرة" هو عقل منتم لسياق المؤامرة؛ حين يلقي بظلال الشك حول وجود فكرة المؤامرة؛ صرفا للنظر حولها ودراستها لكشفها والدعوة لمواجهتها؛ لذلك يستخدم في النفي تأسيس الشعور بأن الطرف الذي يتحدث عن "فكرة المؤامرة" لديه توهمات شعورية أكثر من القناعة بأن الآخر لا يتآمر ولكن يسعى لتحقيق مصالحه.

الآخر محل الوقوف في مربع الاتهام بالمؤامرة؛ هو عقل مستند إلى تاريخ فكري وسياسي عميق؛ يستخدم منهج السيناريوهات، التي يضعها في اطار نمط تفكيره الإداري، مستهدفا تعظيم المكاسب التي يسعى الى تحقيقها؛ أي أنه يتبع مسلك التخطيط المتغير للوصول إلى تحقيق أهدافه؛ وأحداث السياسة المتتالية تثبت ذلك ؛ من مراعاة المصالح الذاتية للطرف الآخر.

لعبة السيناريوهات؛ واستصناع الأزمات؛ وإدارة صناعات الأزمات المتنوعة هي التي تعبر عن "مفهوم المؤامرة"؛ ونفي وجود هذه النمطية من حركة الآخر يرتبط بفكرة نفي وجود المؤامرة الموجودة منطقيا.

حول إثبات ونفي "فكرة المؤامرة" ذكرني "فيس بوك" بكتابة سابقة نشرها لي موقع التنوير الإسلامي المتميز "إسلام مغربي"؛ وهنا أعيد تقديمها لأهمية قضيتها في حياتنا الفكرية والسياسية.

                                                                                  "رأفت السويركي"
-------------------

نفي فكرة المؤامرة... هي مؤامرة!


في أبسط قواعد المنطق الفلسفي المعروفة، يعد نفي وجود الشيء؛ قاعدة لإثبات وجوده، لأن الموضوع المطلوب نفي وجوده، لا يتحقق انتفاء وجوده بنفي فكرة وجوده بذاته، حيث التفكير في نفي وجود الموضوع غير المتحقق، لا يتحقق منطقيا؛ إذ لا تفكير أساسا... في وجود موضوع غير موجود بالأصل.

*****
 
ولمزيد من الإيضاح، كما علمتنا أساسات المنطق الفلسفي؛ فإن نفي وجود الله كما يفعل الملاحدة، هو اثبات لوجود الله في الوقت ذاته، لأن العقل البشري، لا يمكن أن يقوم بفعل التفكر في موضوع غير موجود بالأصل، لذلك حينما تحاول نفي فكرة وجود الله، فإنك من دون أن تدري تثبت بالضرورة وجود الله في اللحظة ذاتها، إذ لا نفي لغير الموجود، ولا انتفاء لموجود بذاته، حتى وإن كان غير معلوم إلا بالضرورة، وهنا تعتبر قاعدة إثبات النفي والوجود لغير الموجود باطلة منطقيا، بحكم انتفاء وجود الموضوع، المطلوب نفيه أو إثباته!

ما تقود إليه هذه المقدمة، هي الإشارة المهمة التي قدم بها الباحث المتميز في الفكر التنويري الديني الصديق Mountassir Hamada الذي تروق لي متابعاته المهمة والجادة، لاتجاهات التفكير الإنساني بدأب علمي قيم، شاهد على عقليته التنويرية الكبيرة، ومشروعاته الفكرية المهمة مثل موقع "إسلام مغربي" ومجلة "أفكار"، وكلاهما أسعد بالتشرف والانتماء إلى قوائم كتابهما.



وقد تابعت إشارته الأخيرة إلى عدد مجلة "ايسبري" الفرنسية الراهن، واهتمام ذلك العدد بظاهرة عقيدة ‘المؤامرة‘ في الفكر الفرنسي المعاصر، ولفت اهتمامي هذا المحور بقوة، لأننا في ساحة التفكير العربي والإسلامي نصطدم كثيرا بوجود فكرة المؤامرة ونفيها، ونعيش صراعات الاثبات والنفي؛ بما يستنفد جهودا كبيرة، إما للنفي أو الإثبات، فيما القضية محسومة فكريا، منطقيا وفلسفيا، بوجود نهج المؤامرة وجودا، وإن كان التوصيف لتسمية الفكرة مختلفا، إذ يقوم الفعل ذاته على قاعدة التخطيط، فعلا ومفهوما.

ويلمس المتلقي المتفحص لطبيعة التناول في الكتابة، أن عدد الدورية الفرنسية، يهدف إلى نفي ‘فكرة الموءامرة‘، ونحن هنا إزاء فخ فكري بتكريس نفي الفكرة، إذ أن نفي ‘فكرة المؤامرة‘، يعد إزاحة لوجود منهج تفكير نفعي غربي، مبني على قاعدة تغليب حاكمية المصالح، وهو النهج الوجودي المتحكم في منهج حركة الآخر المتغلب في حياته؛ وقوائم دوافعه الوجودية، القائمة على قيمة الاستحواذ المطلق على ما دونه.

****
 
وإذا كانت لفظة "المؤامرة"، ذات ظلال مكروهة، معرفيا لنا، وتحيل في التفكير إلى الهامش القيمي، فإن جانبها الآخر المسكوت عنه، يستهدف في حقيقته صرف تفكير متلقي الخطاب عن التوجس إزاء ما يفعله الطرف الآخر، وما يقوم بترتيبه من مخططات أعماله وأنشطته الاقتصادية أو الانتاجية أو تدجين فعله واستئناسه في مواجهة ما يسعي إلى تحقيقه في لعبة الصراع الوجودي.

"المؤامرة" لفظيا، هي تسمية تعبر عن توصيف فعل الآخر، أو تحدد هدف الآخر، وتحيل في مضمونها إلى أنماط أفعاله غير الشريفة، أو غير الإنسانية في حركته في الحياة، لتحقيق هدفه الوجودي، وهو ماديا تحقيق أكبر هيمنة لقوى الرأسمال العولمية على المواد الأولية، والأسواق وتعظيم الربح، وهي فكريا، تشير إلى آلية فرض نمط تفكيره الثقافي والعقدي، من أجل خدمة هدفه الرأسمالي النازع إلى الهيمنة الكلية على الكوكب.

ومن هذا المنظور فإن "المؤامرة" ثقافيا، هي لفظ كاشف لعقلية التفكير القيمي المنحاز إلى موقفية فكرية سياسية محددة؛ تقوم على تحريم أو تعطيل المنهج ذاته الذي يمهد لإتاحة مبررات اعتاد نهج الاستغلال، وهو النهج المقام على توظيف قواعد العلم الكلية لتحقيق أهدافها الخاصة، وهي منهجية مراوغة منافية قصديا في الوقت ذاته لاستخدام الآخر منهج التحليل والتفكيك للخطاب عينه؛ الذي تحتكره لذاتها ومنفعتها، وتحرم في الوقت نفسه إعماله في الحقل المعرفي ليكون أداة دفاع وجودي لدى الطرف المستهدف المقابل، والذي يمثل مشروعا مرشحا للاستباحة؛ ممن يرفع لافتة نفي تفكير المؤامرة.

****
 
إن اصطلاح أو مسمى "المؤامرة"؛ هو لفظ من حقل تسمية مماثل للفظ أو مسمى ‘التكفير‘، ومعبر عن عقليتها، فاستخدام اصطلاح "التكفير"، هو توظيف اصطلاحي قيمي؛ منطلق من موقف قيمي، ظان بأنه بمفرده يمتلك صك قيمة الإيمان؛ لذلك يعكس التوصيف النقيض لما يظن أنه يحتكره على الطرف المقابل له؛ ليجرده من آلية الدفاع عن ذاته؛ ويضعفه، في فعل المجادلة حين إيضاح خرائط الكلام.

 وهكذا يكون التشهير بتوظيف "اصطلاح المؤامرة"؛ ومحاولة ممارسة السخرية من الفكرة ذاتها، والتقليل من اهميتها، ومحاولة إبراز تهافتها، ادعاء بأنها تمثل هاجسا مرضيا؛ دالا على ضعف الذات، ووسيلة هروب من مواجهة هذا الضعف الحضاري، تعطيلا لاستخدام منهج التحليل والتفكيك للخطاب النافي لنهج التخطيط المقصود من الاخر، بهدف كشف محموله السياسي، الذي يقصده الطرف الباث في إطار صناعة فكر المؤامرة.

وما يدعو للدهشة أن من العقول العربية؛ من ينتهز استخدام هذا الاصطلاح تكئة لممارسة جلد الذات، والتقليل من أهمية الحديث حول فكرة المؤامرة؛ باعتبارها ممارسة لمسلكية المظلومية؛ مع غض البصر عن استدعاء آليات الدفاع الذاتية؛ أو إدراك عوامل الضعف الذاتية؛ التي تحيل إلى تزييف الوعي بالأسباب الموضوعية الذاتية إلى تربص الآخر ومخططاته.

*****
 
إن فكرة المؤامرة هي فكرة موضوعية، متحققة في الواقع؛ ونفيها فلسفيا ومنطقيا، يعتبر دليل اثبات لوجودها؛ وعلى حد قول الفلاسفة: أن إنكار الفلسفة هي فلسفة؛ ليثبت بالتواتر ان إنكار المؤامرة هي مؤامرة فعلا!!

                                                                          
                                                                          "رأفت السويركي"
 
 http://www.islammaghribi.com/%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A/%D9%86%D9%81%D9%8A-%D9%81%D9%83%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A4%D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A9-%D9%87%D9%8A-%D9%85%D8%A4%D8%A7%D9%85%D8%B1%D8%A9.html


-----------------------------------------------

السبت، 21 يناير 2017

تفكيك العقل النخبوي الأميركي السياسوي (57) خطاب "ترامب"... ارتداد للداخل يفضح توحش "العولمة الأميركية"!!

تفكيك العقل النخبوي الأميركي السياسوي (57) 

خطاب "ترامب"... ارتداد للداخل يفضح توحش "العولمة الأميركية"!!
-------------------------------------------------



حين يتأمل العقل التفكيكي خطاب تنصيب دونالد ترامب في عملية تفكيك أولية وسريعة يضع يده بوضوح على مفردات جديدة ومغايرة لنمطية الخطاب السياسوي لحزب الصقور الأميركي أي الحزب الجمهوري.

- كان خطاب ترامب غريبا وغير متوقع في محموله السياسي؛ ومغايرا لكل الثوابت المنتظرة من رئيس ينتمي إلى اليمين الأميركي الفظ السلوك؛ وصاحب الكوارث البنيوية التي طالت مناطق كثيرة في العالم بعد تفكك الاتحاد السوفياتي وتداعي منظومة الدول الشيوعي، وخلال مرحلة بوش الجمهوري بتفتيت العراق.

- كان خطاب تنصيب ترامب مثيرا في مفاجآته السياسوية؛ ومباغتا لكل المراقبين والمتابعين والباحثين؛ بتعهده اعتماد "رؤية أميركية جديدة للحكم" منظورها هو "أميركا أولا " في الشؤون الخارجية والضرائب والتجارة والهجرة.

- كان خطاب ترامب شعبويا اكثر مما كان متوقعا أن يأتي تكريسا لشراسة قبضة منقار النسر الأميركي.

- كان خطاب ترامب قاسيا في تحديد تحدياته المقبلة التي سيخوضها؛ إذا كانت المعطيات التي سيتكىء إليها تعكس تحولا بنيويا لدى تفكير حزبه الجمهوري ومكاتب التفكير التي ترسم له حدود سيناريوهات الحكم الأميركي الجديد.


*****

لقد رفع ترامب في خطابه أصبع الاتهام إلى قوى اقتصادية ونخبوية أميركية عاتية ليس من السهولة أن يقف منفردا في مواجهتها لشراستها البنيوية.

** ترامب يتحدى علامات "الرأسمالية العولمية الأميركية المتمركزة"؛ والتي تمددت عولميا، انسحابا من الارض الاميركية لتقيم المصانع في أطراف العالم استغلالا لقيمة "تعظيم الربح" نتيجة هزالة الأجور في تلك الدول؛ وغزو أسواق جديدة، وصنعت من "نيويورك" بورصة العالم اكتفاء بتحريك ودولرة الاقتصاد العالمي، فيما فككت الصناعات الأميركية، فتناقصت فرص العمل للأميركيين؛ وازدادت معدلات البطالة والتعطل، لذلك يعود ترامب للتأكيد على استرداد قيمة التصنيع الأميركية التي بدأت منها مشروعية "تطور نظام الرأسمالية" العالمية قبل أن تنطلق إلى "طور العولمة".

** ترامب يتحدى النخبة الأميركية السياسوية والاقتصاديوية والأدارية الحافة بالرأسمالية الأميركية المركزية المتعولمة من النخب الأميركية التي وصفها بالقلة من الحكومة والتي تتمركز في واشنطن العاصمة، موجها لها الاتهامات بأنها كدست الثروات والمميزات على حساب جموع الأميركيين؛ بقوله البين : "السياسيون في بلادنا عاشوا برخاء لوقت طويل بينما الوظائف تقلصت والمصانع أقفلت".

** ترامب الراسمالي الأميركي. يحمل شعورا عميقا باشكالية بنيوية في المجتمع الأميركي فيما يتعلق بأزمة الطبقة الأميركية الفاعلة بقوله : "لقد تمت سرقة الطبقة الوسطى في بلادنا ولكن هذا أضحى في الماضي الآن، سأحارب من أجلكم ولن أخذلكم أبداً".

** ترامب يشعر بالتشوهات البنيوية الأميركية التي كما طالت الطبقة الوسطى، تدمر "الطبقة العمالية" نتيجة "عولمة الصناعة"؛ مؤكدا أن أميركا ستعود من جديد في أيدي العمال، وسيتم اتباع سياسة "اشتر منتجات أميركية ووظف عمال أميركا".

** ترامب في خطابه يستشعر خطر التلاشي الهوياتي النوعي للاميركيين؛ عبر فقدان النموذج الأصولي الوطني، بغياب الحضور الأميركي الذي كانت تحمله وتروجه المنتوجات الاصطناعية الأميركية إلى العالم، لتحل بدلا عنها المنتجات الحاملة للإسم الياباني والصيني والأسيوي والأوروبي.

  

** ترامب في خطابه يضع يده بوضوح على الأزمة الأميركية الوجودية المتمثلة في تردي مستويات البنية الأساسية الأميركية، لذلك سيسعى الى إعادة أمجادها المتمثلة في بناء شبكات الطرق الجديدة والجسور والأنفاق، والمطارات والسكك الحديدية والمصانع والمدارس في جميع الولايات الأميركية. 

** ترامب في معادلة صعبة يعيد الاعتبار إلى احياء شعور "الكينونة الوطنية الأميركية" بقوله بالتحديد "إن الحكومة موجودة لخدمة بلادها ومواطنيها، مدارس جيدة وأحياء آمنة ووظائف جيدة للأميركيين، وهى مطالب معقولة". وقد وصفها بقوله إن إدارته ستعيد الوظائف إلى البلاد، في تطبيق لقاعدة بسيطة، وهي "اشتر منتجات أميركية ووظف مواطنين أميركيين"؛ وأن " أية صفقة تجارية سيتم عقدها من الآن فصاعدا مع دول العالم، ستضع في الاعتبار الولايات المتحدة أولا".

** ترامب يفضح الرأسمالية الأميركية البشعة التي حولت المجتمع الأميركي بانسحابها داخليا إلى مجتمع يعاني مشكلات وجود "أمهات وأطفال فى دائرة الفقر، ومصانع موزعة كالمقابر، ونظام تعليمى يحمل كثيرا من النقد، ويترك الطلاب محرومين من كل معرفة، والجريمة والعصابات والمخدرات التى سرقت الكثير من الأرواح...".

** ترامب مقابل الاصابع التي وجهها إلى الداخل الأميركي وجه أصابعه إلى الخارج : "سوف نسعي في تشكيل صداقات مع دول العالم بما يتناسب معنا، ومن حق كل الدول ان تضع مصالحها أولا، ولن نفرض أنفسنا علي أحد، وسنوحد العالم ضدالإرهاب المتطرف وسوف ننهي عليه تماماً".
** ترامب حدد الاٍرهاب خصمه الاستراتيجي، مؤكدا أن إدارته "ستواجه الإسلام الراديكالي وتستأصل الإرهاب من على وجه الأرض" .

** ترامب تعهد في خطاب الداخل وهو خطاب الأساس بـ"ببناء البلاد، واستعادة الحلم، وتنفيذ المهمة"، لذلك حبَّذا لو درست النخب العربية مهما كان موقعها السياسوي والأيديولوجي خطاب ترامب لإدراك حجم وطبيعة المتغيرات التي تشهدها أميركا، واهمية واقعية تكتيكات تغيير خطابها بما يتناسب مع التحولات الهيكلية للمجتمعات الحية.

*****

  

لو كان الرئيس الأميركي الجديد "دونالد ترامب" في خطابه الأول بعد التنصيب ينتسب إلى "الحزب الديموقراطي" المنافس لكانت طروحاته متسقة مع المفهوم الحزبي الديموقراطي؛ غير أن "برجماتية " العقل السياسوي الأميركي تسوِّغ للسياسي الانتقال بين المربعات المتغايرة بمبرراته النفعية. 

لذلك فخطاب دونالد ترامب الجمهوري يحول الاهتمام من جديد الى الداخل الأميركي ليكشف المسكوت عنه السياسوي بثقل الأزمة البنيوية الأميركية التي تعاني ديونا مذهلة الحجم؛ وانسحاب الرأسمال الأميركي من الداخل المحلي الى أطراف الكوكب مستثمرا صناعيا؛ ما أحدث تشوهات خطيرة في الواقع الأميركي بالأمراض الاجتماعية الأكبر. إنه يفضح بصراحة طور توحش الرأسمالية العولمية الأميركية، لذلك يقول للأميركيين شعبويا "الآن سيتغير الوضع. هذه هي لحظتكم". 

"رأفت السويركي"

السبت، 14 يناير 2017

تفكيك العقل النخبوي السياسوي المتأخون(56) شعار الجماعة... "تَمَسْكَنْ " وكن ديمقراطيا لا بأس حتى"تَتَمَكَّنْ "!!

تفكيك العقل النخبوي السياسوي المتأخون(56)

شعار الجماعة... "تَمَسْكَنْ " وكن ديمقراطيا لا بأس حتى"تَتَمَكَّنْ "!!
---------------------------------------------------

هل الجماعة التي تطلق على نفسها اسم "جماعة الإخوان المسلمين" جماعة ديمقراطية حقاً؟! أم أن النفاق المختبىء في منهجية "التقية" التي تستخدمها طوال تاريخها يعتبر مكوناً بنيوياً من مكونات نظرية الجماعة؛ وثابتا من ثوابت عقلها السياسوي المتأخون؟

إن النفاق السياسوي، يُعَدُّ صفة حركية تكتيكية من ثوابتها وتشكيلها؛ انطلاقاً مما جسدته اللهجة الدارجة المصرية بمقولة: "تَمَسْكَنْ حتى تَتَمَكَّنْ"، ولا بأس من ممارسة ذلك النفاق السياسي لتحقيق أغراضها؛ فالغاية تبرر الوسيلة!

 

 البرلمان الاضحوكة في لقطة تذكارية في اسطنبول

إن القبول المتأخون بممارسة المسلكية البرلمانية؛ والاندراج في المشاركة الجماهيرية مع كل التيارات السياسية المفارقة الأخرى من الماركسيين والقوميين والماضويين الموصوفين بالمتسلفة يعتبر علامة غريبة عن طبيعة "العقل المتأخون"، لأنها ممارسة تتناقض مع ثوابته؛ فهو عقل "شوفيني" عقدي متعصب يشعر دوما بالفوقية؛ وأنه أعلى من كافة البشر؛ وأن المتأخون مكلف بعقيدة الجماعة المتوهمة بأنها مفوضة بإبلاغ رسالة السماء إلى أهل الأرض من الكفار.!

ألم تُزين لهم هلوساتهم الحِلْمِيَّة أن الرسول الأكرم "ص" طلب من "المعزول محمد مرسي" أن يتقدم لإمامة الصلاة؛ في هلوسة منافية لصحيح الممارسة الدينية بأنه لا إمام آخر للصلاة سوى الحبيب المصطفى في وجوده؛ لكن لا بأس بفعل الهلوسة السياسية؛ ولغرض الحصول على تكبيرات الأتباع المغيبين من القيام بالابتداع في الممارسة العقدية؛ انطلاقا من أن المتأخونين هم المؤمنون حقاً؛ فيما كل البشرية تتكون من أقوام كافرة؛ وتستحق مجاهدتها حسب القاعدة القطبية لإجبارها على الإسلام والإيمان!!

فكيف تقبل الجماعة المتأخونة إذن أن تشارك التيارات السياسية الأخرى للجلوس معها في قاعات البرلمانات، وهي تيارات بحكم العقيدة السياسية المتأخونة كافرة؟

إنها فعالية "التقية" السياسية الإخوانية؛ ونفاقها السياسي اللذين يفرضان على الجماعة أن تقبل مُكْرَهَةً مَرْحَلياً ذلك لكي تحقق التمكن؛ ثم تبدأ بعد ذلك إزاحة كل الشركاء السياسيين عبر الهيمنة على البرلمانات، والتحكم التصويتي لفرض منهاجهم السياسي في التشريع؛ معتمدين الأغلبية التي جمعوها بالرشاوى الانتخابية للفقراء المغيبين وعياً سياسياً، أو عبر الاستفادة من الصورة الذهنية المتشكلة حولهم بأنهم من الرجال الذين يراعون الله ويخشونه!!

لذلك لا بأس إخوانياً من الاستفادة بظواهر العملية الديموقراطية؛ وخوض انتخابات البرلمانات على الرغم من أنها إنتاج فكر الكُفَّار؛ طالما أنها ستمكنهم من مقاعد التشريع؛ وتمنحهم مرحليا ما تسمى الشرعية السياسية؛ ليتشدقوا بعد ذلك بالقول أنهم جاءوا بالإنتخابات والصناديق؛ كما يصفون "مرسيهم المعزول" بأنه جاء بأصوات الناخبين!!

*****

في واقع الأمر، أن الجماعة المتأخونة التي امتطت على سبيل الانتهازية "حمار الديموقراطية" لا يمكن لها في يوم من الأيام بعد التمكين أن تقبل الاقتناع اليقيني بالحفاظ على تواصل العملية الديموقراطية؛ لأنها في الأساس جماعة مستبدة بالطبيعة؛ وتتكىء في توهم مشروعيتها إلى جدران عتيقة من النصوص الحافة بالقرآن الكريم؛ التي تشكلت تاريخياً من "الروايات والأقوال والأحكام الفقهية".

إن هدف التمكين الذي تعيش تلك الجماعة من أجل تحقيقه... هو إعادة إحياء وهم ما تُسمى "دولة الخلافة"؛ وستبقى تحاول ذلك كما يقولون إلى يوم الدين؛ لأنها جماعة تتوهم أنها تنفذ أحكام الله؛ وأن مرشدهم بالعقيدة السياسية المتأخونة هو مكلف إلهيا بتطبيق شرع الله وحدوده على الأرض؛ فيما التيارات السياسوية الأخرى محكومة بنظريات وضعها البشر؛ فكيف تقبل الجماعة المتأخونة أن تتخلى عن الكرسي إذا تمكنت؛ وهل يُعْقَل أن يجلس البشريون مَكَانَ الربَّانيين في الحكم بعد أن تمكنوا!!

*****

إن مشاركة الجماعة المتأخونة في لعبة تداول السلطة بالانتخابات؛ لم تكن تتم من منظور إيماني حقيقي؛ وإنما من منظور سياسوي دنيوي قلباً وقالباً. وتجربة "برلمان الإخوان" الفاسدة القصيرة التي تحققت في مصر كشفت ذلك؛ إذ لم تكن الجماعة ديموقراطية ولا ترتهن إلى شروطها.

لقد دخلت تلك الجماعة إلى البرلمان المصري مسبقاً وحازت على "كوتة" مقاعد بشروط مصنوعة وفرها نظام المرحلة المباركية المشؤومة في مصر؛ لكي يُقامِرُ بها حين يحين توقيت اللعب مع الغرب الأميركي. وبعد إزاحة مبارك؛ وحدوث التمكين لها بالرئاسة وفق حسابات استراتيجية موثوقة؛ أظهرت الجماعة المتأخونة بعد ذلك وجهها السياسوي البشع؛ وكشرت عن أنيابها السامة التي أعملتها نهشا في لحم الوطن.

ولم يَكُنْ وقتها مَفَر من تحرك المؤسسة الوطنية العسكرية المصرية لإنقاذ مصر من التفتيت؛ ومحاولة عزل سيناء وتخصيصها لتكون "إمارة الإرهاب" المستدعى عناصره من كافة أنحاء العالم وتوطينها بها، مع تخصيص أكثر من ثلثها بيعا لضمه إلى قطاع غزة، شروعاً في تكوين الوطن الفلسطيني البديل عن فلسطين القديمة المغتصبة من الصهاينة؛ لذلك كانت الهبة الجماهيرية الكاسحة وغير المسبوقة في 30 يونيو/ حزيران والتي أنهت أسطورة التمكين المتأخون من مصر إلى غير رجعة.

*****

إن واقعة "إعطال التمكين المتأخون" كانت كاشفة لكثير من الظواهر التي غابت عن وعي أغلبية المصريين والعرب... ولا تزال إلى اليوم؛ إذ لا يدرك الكثيرون منهم الدلالات "المسكوت عنها" بعد إنهاء فعل التمكين.

* لماذا احتشد أعضاء الجماعة ومشايعوهم فيما يسمى "رابعة العدوية والنهضة"؟

* لماذا بعد هروب الكثير من قياديي وعناصر الجماعة المتأخونة إلى "اسطنبول"؛ وما شابهها من مدن الشتات أقام التنظيم الدولي المتأخون تجمعاً موازياً مثيراً للسخرية؛ اسمه "برلمان الإخوان" في اسطنبول؟

هذه الأسئلة وغيرها الكثير، تخفي السيناريو الحقيقي الذي أقيمت هذه الجماعة من أجله، منذ التأسيس وإلى اليوم. والذي يكشفه العقل التفكيكي كما يلي:


 اعتراف احمد المغير فتى خيرت الشاطر بتسلح تجمع رابعة
 
** إن الاحتشاد المشبوه في "رابعة العدوية" و"النهضة"؛ وتسليحهما وإقامة المتاريس حولهما وتسييجهما بالقناصة؛ كان ذا هدف محدد؛ ويكفي للدلالة على ذلك الاعتراف الذي ذكره "أحمد المغير"، أحد شباب الجماعة المتأخونة والذي يلقب بـ"رجل خيرت الشاطر" على " فيس بوك" بأن اعتصام رابعة العدوية، كان مسلحا بالأسلحة النارية وكلاشات وطبنجات وخرطوش وقنابل يدوية ومولوتوف وغيرها، مؤكدًا أن السلاح كان يكفي لصد قوات الداخلية والجيش!!


 استخدام الأسلحة النارية في تجمع رابعة العدوية الخارج عن القانون
 
** معنى ذلك التسليح أن "التحصن" في رابعة العدوية ذلك المكان القريب من مناطق عسكرية مهمة للجيش المصري كان يستهدف عزل المنطقة مع ميدان النهضة عن القطر المصري؛ والشروع في تفعيل العمل العسكري الميليشياوي من خلالهما، تمهيداً للاحتراب الداخلي؛ وفق نموذج الهدم السوري الذي كان مشتعلا بأحداثه. ولتكون "رابعة العدوية" مماثلا سياسويا لمحافظة "حلب " السورية؛ والتي قادت فيها ميليشيات التنظيم المتأخون السورية جهود عزلها عن الدولة السورية؛ تمهيدا لتحويلها إلى أمارة سنية!!

** وخلال التجمع في "رابعة العدوية"؛ جرى عقد جلسات البرلمان الهزلي الذي تم حله العام 2012م رفضا لحكم المحكمة الدستورية العليا القاضي ببطلان قانون انتخابات ذلك البرلمان؛ فكان ذلك يعد تحدياً للدولة المصرية، إذ توهم التنظيم المتأخون أنه بذلك ينقل سلطة التشريع المنقضية قانوناً في الدولة المصرية إلى الجانب الآخر أي إلى الأرض الجديدة المزمع فصلها سياسياً في "غيتو رابعة"، لكي تتواصل المشروعية المتأخونة التي يعتقدونها.

 رشاشات الكلاشينكوف مع الميليشيات المتأخونة في رابعة العدوية

وبعد حادث الفض لهذين التجمعين الخارجين عن القانون في" رابعة والنهضة"، وهروب قيادات الجماعة المتأخونة من المكان، بعضهم يرتدي "نقاب النساء" والبعض الآخر ينام في سيارات الإسعاف؛ ثم التسلل رحيلاً إلى تركيا والدول الأخرى المجاورة لمصر... أقامت الجماعة المتأخونة في مدينة اسطنبول التركية برلماناً موازياً للبرلمان المصري الجديد، كان مثيراً للسخرية؛ وتجسيداً للتوهم السياسيوي الذي تعاني منه العقلية المتأخونة، إذ ظنت أنها تصنع برلمان المنفى الاختياري الذي اختارته في بلد السلطان العثمانلي.

*****

وإذا كانت جهود صناعة نموذج "حلب" في "رابعة العدوية" قد فشلت؛ فلا تزال العناصر المتأخونة التي فرت إلى تركيا تُمارس لعبة السخرية التي بدأتها؛ وتصدق الوهم الذي تعيشه في أضحوكة اسمها برلمان الإخوان ليس في مصر؛ ولكن برعاية اردوغان؛ وتواصل تطبيق شعار الجماعة... "تَمَسْكَنْ " وكن ديمقراطيا لا بأس حتى"تَتَمَكَّنْ "؛ على الرغم من فشل هذه المسلكية!!

                                                               
                                                                           "رأفت السويركي"
-------------------------------------------







الخميس، 12 يناير 2017

حين تُصاب الأمة في عقلها... "النكبة" في "النخبة"... "برلمانُ السِيلفي" وثقافة النخب " الأكثر من الهم على القلب"!!

حين تُصاب الأمة في عقلها... "النكبة" في "النخبة"!!
---------------------------------------

ماذا يمكن القول عن مجتمعٍ أصيب بابتلاء في عقله؟ وأمة تدور حول نفسها في دوامة اجترار لما استهلكته منذ عشرات القرون؛ كأن قدرتها على الاستيلاد العقلي الحي منعدمة... أمة العرب والإسلام وفي قلبها المجتمع المصري.

فما تجده في المجتمع المصري... تلقاه أيضاً في محيطه العربي والإسلامي بقده وقديده؛ والعقل التفكيكي يعثر على الخطاب المكرور ذاته؛ والمقولات نفسها؛ والفعل عينه... في كل مكان على الخريطة المنتكبة في عقلها؛ أي في نُخَبَهَا... أليست النخبة هي عقل أية أمة؟!

*****

الجهد التفكيكي لعقل النخبة لا يجد معاناة في اكتشاف فقدانها للإبداع؛ ونمطيتها في "التفكر" و"التقول"... نخبة لا تتطور ولا تطور خطابها؛ وكل ذلك ممهور بالأدلة. 

وإذا كان الجهد يعكف على تفكيك العقل النخبوي المصري لضرورات؛ فإن حصاده يصل إلى نتائج ثابتة لم تتغير؛ بحكم أن العقل النخبوي يعيش حالة قحط وفقر منذ قرابة نصف القرن؛ أي مع بدء "مشروع أنور السادات السياسي" في تغيير الحالة المصرية؛ وبالتالي انجرار الأمة العربية كلها للدوران في فلك هذا التوجه النكوصي؛ لإحالة الدولة نظاماً إلى الاستيداع؛ وإطلاق السراح لتشكل طبقة الرأسمالية الطفيلية المصرية والعربية؛ بكل فسادها وجموحها وشرهها في التربح والاكتناز للثروات؛ مقابل تحويل الملايين إلى فقراء يعيشون على حواف الكرامة الحياتية.

*****

"النخبة المصرية نموذجاً" لا تزال تؤكد فقرها الفكري؛ وتعجز عن إدراك أهمية تفعيل "فقه الواقع" للتواكب مع المتغيرات لتكون فاعلة؛ وليست إدوات إعطال لأية جهود تسعى لانتشال الواقع من ترديه.

حالة التعاطي النخبوي مع المسألة البرلمانية المصرية تؤكد عجز العقل النخبوي المصري في مجمله إلاَّ اللمم عن التفاعل الإيجابي مع المتغيرات. وكما ذكرت سابقاً:" لقد وقعت النخب في فخ عدم إدراك حقائق الواقع، أو فقرها في دراسة واقع مجتمعها، الدراسة العلمية، والواعية بعناصره، ومتغيراته، وموازين قوته وعناصر تلك القوة".

كما " تتجاهل هذه النخب مدى التشوه الذي يعيشه المجتمع المصري في هيكليته الطبقية، وظروف انهياره السياسي طيلة فترة الحكم المباركي، الذي قفز بالرأسمالية الطفيلية إلى أعلى درجات المجتمع، وهي رأسمالية تبعية هامشية، رهنت المجتمع المصري إلى شروط الإفقار العولمي للشعوب.

أليس ذلك مدعاة لتنبيه أفراد النخب المصرية الفقيرة في فهمها السياسي، للحذر مما يحدثونه من فوضى إعلامية، وإشاعة مناخات اليأس والإحباط والسخرية، تجاه التجربة البرلمانية الجديدة في مصر مهما كانت صورتها، أو نتيجتها في تلك المرحلة الانتقالية، التي تحاول فيها الدولة التعافي، ومواجهة المخاطر المتنوعة التي تتربص بها؟"

*****

وتأتي هذه الكتابة في إطار تذكير "فيس بوك" لي بكتابة سابقة حول البرلمان المصري الراهن؛ الذي أخذت النخب تُحوِّله في بداية تشكيله إلى مجال للسخرية والتندر فأسمته "برلمان السيلفي". 

والأمر المثير أن النخب المصرية لا تزال تجتر الموقف العدائي من هذا البرلمان لدى أية قضية يتناولها متناسية أنه خير برلمان يعبر عن مجتمعه؛ وحين تُصاب الأمة في عقلها... تكون "النكبة" في "النخبة" التي لا تزال تجتر تهافتها السياسي!!

                                         " رأفت السويركي" 
--------------------

تفكيك العقل النخبوي الإعلامي المهيمن (14)

"برلمانُ السِيلفي" وثقافة النخب " الأكثر من الهم على القلب"!!
-----------------------------------------------------------

 

متغيرات الواقع المصري الراهنة، تقتضي العودة مرة أخرى إلى استخدام منهج الرؤية من خارج الصندوق، الذي أواصل توظيفه، حين النظر إلى القضايا المصرية الراهنة، لأنه يحرر النظر إلى متغيرات الأحداث ومستجداتها من ضغوط الانتماء، والرغائب العاطفية، بالتعاطف أو الرفض، وفق الانتماءات العقدية أو السياسية، وذلك سعياً إلى امتلاك التصور المعلوماتي، بحقائق الظاهرة، وعوامل تشكلها الاستراتيجية والثقافية المختلفة، من أجل إلى الوصول إلى الفهم الموضوعي للقضية محل النظر.

ولعل ما أحاط بالجلسة الإجرائية الأولى للبرلمان المصري، وردود أفعال النخب المصرية تجاهها، وهي في أغلبيتها كانت ردود أفعال متسرعة، تحكمها إما موقفية مسبقة، في الأغلب رافضة بدرجة أو أخرى لتلك الخطوة، أو متعجلة في الحكم عليها، إذ تتحكم فيها ظاهرة صراخ القطيع عبر فضائيات "التوك شو"، من دون تروٍ، أو تمهل، أو تأنٍ قبل بناء الأحكام الرافضة أو المتقبلة لما حدث في جلسة البرلمان الأولى وفق آليات التحليل السياسي والاستراتيجي، عن قصدٍ، أو من دون قصدٍ، الأمر الذي جعل المتلقي لتلك الرسائل المشوشة، أو "الإنسان العادي"، يصاب بالكآبة، واليأس، وفقدان الأمل بالنسبة للمستقبل في مصر؛ كياناً ودولة، وهي تواجه التحديات الاستراتيجية الهائلة، فيما يأتي من أيام مقبلة.

*******

 

إن أولى خطوات إعادة بناء وتجميع شتات الصورة الذهنية السلبية التي تواصل تكنولوجيا "التوك شو" و"وسائط التواصل الاجتماعي" تصنيعها تجاه البرلمان المصري الجديد، تقتضي تجميع ذلك الشتات المُظلم والذي يجري بثُهُ بدأب، لا يَكلُّ أو يَملُّ، من دون أن تجد سوى أقل القليل من الكتابات التحليلية الموضوعية المؤثرة، والتي لا يُمكن أن تُعادل الآثار السلبية التي يراكمها صراخ "التوك شو"، أو "بوستات"، وتغريدات "فيس بوك" و"تويتر".

ويمكن رصد هذه الاتجاهات السلبية، الهادفة في حقيقتها إلى هزِّ ثقة المصريين في دولتهم، وإضاعة بهجة تنفيذ آخر الاستحقاقات الموعودة، في خريطة الطريق، عقب إزاحة هيمنة تكوينات الراكبين للدابة العقدية، من الموسومين بمسمى "الإسلام المتسيس"، بعد قرابة العام من جلوسهم على كراسي الحكم، بفعل فاعل، وشرعوا في تنفيذ أجندة التفويض، بتفكيك وتفتيت كيان الدولة الوطنية، كما حدث في العراق وليبيا والسودان، ويحاولون في سوريا الدولة أنقذها الله مما يُراد لها، وكذلك مصر حماها الله.

*******

 

وبعد أن انتهت الانتخابات البرلمانية المصرية، التي قالوا حولها ما قالوا، وقمنا من قبل بتحليل خطاب تلك النخب السياسية والعقدية المتسيسة، التي تتحكم به المتصورات التخييلية عن لافتات "دولة الخلافة" وكذلك "الدولة المدنية"، من دون وجود الشروط الموضوعية التي تبرر لهم هذه الخطابات الحُلمية وغير الواقعية، وليس لديهم سوى التغني والتشوق بتحقق هذه المتخيلات، التي يلوكون مفرداتها ليل نهار، مكتفين بترديد عبارة "إزاحة العسكر"، التي تعني في حقيقتها هدم قوة الدولة الوطنية الضابطة، وإخراج فعالياتها من المشهد كله، وكأننا في إحدى "جمهوريات الموز"، وقد فككنا سابقاً هذه المفردات، في كتابات عدة من قبل.

*******

وأشبه بفرق لاطمات الخدود في المآتم الريفية، أو فرق أفراح الأحياء الشعبية في حارات وأزقة مصر، بدأت النخب العمل فور بدء الجلسة الإجرائية الأولى للبرلمان المصري الجديد، كاشفة عن حالة مزرية من الهشاشة الفكرية التي وصلت وتكشف افتقادها للتوازن الموضوعي الإعلامي، الذي ينبغي أن يتميز به صانع الرأي العام الوطني.

إن تحليل المضمون المحمول في خطابات الإعلاميين المصريين حول جلسة البرلمان الأولى، حملت الصفات السلبية التالية: 

أحدهم هبط بمستوى التعبير اللغوي إلى حد استخدام الكلمات السوقية في مواقع التواصل الاجتماعي مثل " القوالب نامت والانصاص قامت".

وآخر وصف الانتخابات والبرلمان "كأنها مشروعات قومية عملاقة وكأنه مجلس لحقوق الإنسان وكأنها صحافة وكأنه أعلام وكأنها دولة. نفس المسرحية منذ 1952"، متناسياً هذا الشخص، أنه نتاج واقع مجانية التعليم والرعاية والتثقيف في دولة المسرحية نفسها منذ 1952".

وثالث كتب: إن "المشهد اللي يتقال فيه من أول لحظة قائد المسيرة هو مشهد مبايعة، وليس مشهد سياسة وسياسيين".

ورابع كتب:" مجلس الشعب ولا هو كوميدي ولا هو مسرحية لطيفة... إلخ"، ونسي هذا الرابع" أن الاسم هو "البرلمان" وليس مجلس الشعب! 

وقد ركزت الصحافة الورقية والالكترونية على رصد المسلكيات خلال الجلسة الإجرائية، عندما قام بعض النواب من الشباب الصغير برصد مشاركتهم الاولى في القاعة عبر "الموبايل"، والتقاط "السيلفي" داخل المجلس، ما استدعى من المستشار بهاء أبو شقة المطالبة بإغلاق هواتفهم، لكن النواب استمروا في استعمال الهواتف المحمولة إلى نهاية الجلسة.

التركيز على مواقف النائب مرتضى منصور، خاصة فيما يتعلق بـ 25 يناير وقيامه بتغيير نص القسم وإضافة جملة "أحترم مواد الدستور بدلأ من أحترم الدستور والقانون"!

تناست تلك النخب، برلمان العقديين المتسيسين السابق، الذي شهد العجب العجاب، من نائب يقوم خلال الجلسة ويرفع الأذان من على مقعده في البرلمان، ويلقى الاستنكار من الحاضرين من النواب "العقديين" أنفسهم!!

أشارت التقارير الصحافية إلى عدم انضباط الجلسة وفق القواعد البرتوكولية، وامتدادها الى ساعات متأخرة من الليل الأمر الذي أدى إلى تأخير انتخاب الوكيل الثاني إلى اليوم التالي.

أثار فوز الدكتور على عبد العال أستاذ القانون العام برئاسة البرلمان جدلاً جديداً حوله، على الرغم من فشل النائب الإعلامي توفيق عكاشة في الفوز بالرئاسة، ليضع ذلك علامات تساؤل كبيرة حول الموقف الرافض، من أجل الرفض الذي تمارسه النخب التي على ما يبدو "لا يعجبها العجب ولا الصيام في رجب"!

من المثير أن يبادر النائب توفيق عكاشة بتصريح تداولته صحيفة صباحية بقوله " إن فوز الدكتور عبد العال برئاسة المجلس، هو امتداد لنظام الحزب الوطني المنحل"، وقد تناسى السيد عكاشة نفسه أنه أعلن سابقاً في فيديو موثق: "كنت عضوًا بالحزب الوطني... واللي هيتكلم ها ضرب أمه بالجزمة"!!!!

وإذا كانت تلك المشاهد تمثل بداية الدورة البرلمانية الإجرائية، فإن التفكير من خارج الصندوق للقضية يدعو لطرح الأسئلة، والإجابة عليها، لتبيان الصواب والخطأ في تلك المواقف النخبوية الهشة، بل والمتهافتة للغاية، والتي تعكس حجم التردي في الوعي السياسي، ولا تكشف ارتقاء هذه النخب فوق مستوى رجل الشارع غير الممتلك للثقافة السياسية الناضجة، ما يشعرك بالشفقة لما وصل إليه مستوى وعي وأداء هذه النخب.

*******

لقد وقعت النخب في فخ عدم إدراك حقائق الواقع، أو فقرها في دراسة واقع مجتمعها، الدراسة العلمية، والواعية بعناصره، ومتغيراته، وموازين قوته وعناصر تلك القوة، وتتجاهل هذه النخب مدى التشوه الذي يعيشه المجتمع المصري في هيكليته الطبقية، وظروف انهياره السياسي طيلة فترة الحكم المباركي، الذي قفز بالرأسمالية الطفيلية إلى أعلى درجات المجتمع، وهي رأسمالية تبعية هامشية، رهنت المجتمع المصري إلى شروط الإفقار العولمي للشعوب.

فقد قامت فترة الحكم المباركي بتذويب الطبقة الفلاحية في مصر، عبر تشويه الدورات الزراعية، وتسليم بطون المصريين إلى الغذاء المستورد من الخارج وأهدرت الأرض الزراعية في إقامة المساكن العشوائية، وتجمعات "الكومباوند" الفاخرة، كما دمرت طبقتها العمالية الصاعدة بتفكيك مصانعها، وبيعها للرأسماليين الطفيليين من باعة "الحديد الخردة" وما شابه، فتفككت الطبقة المصرية العاملة لتذوب في وظائف مكاتب الحراسة وسائقي الميكروباص والتوك توك وتجارة الشنطة والبالة أو السفر إلى الخارج للعمل في الوظائف المتدنية المهارات.

لذلك امتلأ المجتمع المصري في العقود المباركية بجيوش من المتعطلين وزوار المقاهي، من فاقدي العمل ومعدومي المهارات، فضلاً استمرار ماكينات الإنجاب النشطة في الدوران بأقصى طاقاتها لحشر المجتمع المصري بجحافل من الأبناء من محدودي التعليم والعلم والمهارة العملية المتخصصة، فيكبرون ويصيرون من المتعطلة. وواكب ذلك إتاحة الفرصة للتنظيمات التي ترفع لافتة العقيدة، من الإخوان المتأسلمين والماضويين الموسومين بالسلفيين، للتغلغل في أنسجة المجتمع الفقير، ومداعبته بحلم جنات ما بعد البعث والحساب، وإقناعه بتبرير مشروعية إفقاره، من منظور الرزق المقدر والمقسوم، والرضا بذلك.

وفي هذا السياق لم تتشكل حركة حزبية ناضجة، فكانت تكوينات شكلية من التحزبات التي تجمع في غرفها المحدودة النخب المتعلمة وليست المثقفة والمتفقهة سياسياً، لتواصل الاجترار للشعارات البراقة عن الديموقراطية والدولة المدنية... إلخ.

*******
 

وفي إطار هذه الصورة المفجعة لمجتمع مريض حضارياً، كيف تكون برلماناته، وكيف تكون أحزابه السياسية الهامشية، وكيف يكون أداؤه الحضاري، وكيف تكون ممارساته الديموقراطية، مع التحفظ أمام هذا التعبير، فهل تنفصل الصورة التي بدت عليها الجلسة البرلمانية الإجرائية عن الظروف السياسية الاجتماعية المتردية والمترهلة؟

1. أليست العناصر الفائزة بعضوية البرلمان هي نتاج هذا الترهل الاجتماعي والسياسي والتعليمي والثقافي والاقتصادي الحادث في مصر، أم هؤلاء النواب مستوردون من الصين وتايوان والهند؟!

2. أليس البرلمان الذي يُعدُّ من أقدم البرلمانات في المنطقة، يمتلك كوادر ضابطة للأداء البروتوكولي في الجلسات، ليضمن توقيتات الجلسات ومدتها وآلية عملها.

3. هل توافر للعناصر غير الحزبية التي جرى انتخابها أو اختيارها دورات تعريفية بالقواعد والتقاليد البرلمانية، لتدخل قاعة البرلمان مسلحة بالقواعد البرلمانية المطلوبة؟

4. هل نظمت ما تُسمى الأحزاب دورات صقل لعناصرها الفائزة لتضمن الأداء المميز في القاعة، حول فن تقديم السؤال وكيفية فهم مشروعات القوانين،... و ...، إلخ من المهارات البرلمانية التقليدية؟

5. هل تمتلك تلك العناصر بأحزابها ثقافة وقدرات تكوين مكاتب الدعم للممارسة البرلمانية، بحيث تدعم عضو البرلمان بالمعلومات والحقائق تساعده في فهم وعرض ومناقشة ما يمكن أن يقدمه أو ينحاز إليه في قاعة البرلمان؟ 

الصورة الكلية مفجعة، وتكشف فقر المجتمع في توافر هذه الثقافة السياسية، وغياب ثقافة العمل الديمقراطي، حتى عن أقنية ما تسمى الأحزاب السياسية القائمة الهشة.

*******

والأمر الطريف الآخر الذي يمكن أن يكشف ضحالة وهم راكبي الدابة العقدية، وغيبوبة النخب المصرية السياسية داخل المحروسة، هو قيام قيادات "جماعة الإخوان المسلمين" من الهاربين بتنظيم جلسة برلمان موازية ووهمية في تركيا، في التوقيت نفسه مع الجلسة البرلمانية الإجرائية الحقيقية في القاهرة، ليعيدوا التذكير ببرلمان "مقاطعة رابعة" والجيش المصري الحر الذي كانوا يعتزمون تشكيله كما فعلوا في سوريا وفشلوا بقوة الجيش الوطني المصري.

أليس ذلك مدعاة لتنبيه أفراد النخب المصرية الفقيرة في فهمها السياسي، للحذر مما يحدثونه من فوضى إعلامية، وإشاعة مناخات اليأس والإحباط والسخرية، تجاه التجربة البرلمانية الجديدة في مصر مهما كانت صورتها، أو نتيجتها في تلك المرحلة الانتقالية، التي تحاول فيها الدولة التعافي، ومواجهة المخاطر المتنوعة التي تتربص بها؟ 

لذلك فلا مجال للتعجب أو السخرية، حين يهتم الأعضاء بالتقاط الصور "السيلفي" بهواتفهم المحمولة داخل قاعة البرلمان، لأنهم من صغار السن، وثقافة السيلفي هي ثقافة عصرهم المتردي، وقد اختارهم أفراد الشعب، تعبيراً عنهم، بثقافتهم الاجتماعية والسلوكية العامة والشائعة في المجتمع، فالبرلمان ليس برلمان الباشاوات أو اللوردات والشيوخ، بصورته الذهنية التقليدية. فهل تتوقف النخب بثقافتها السطحية " الأكثر من الهم على القلب" عن ممارسة النواح، أو الرقص على الطبول في الأفراح الشعبية في حارات "التوك شو"؟!!

                                                                          "رأفت السويركي"

--------------------------------------------------------







الأربعاء، 11 يناير 2017

تفكيك العقل النخبوي الأكاديموي في "السوشيال ميديا" ( 55) لسان حال بعضهم يقول: كم أنت مزعج... أيها الرئيس السيسي!!

تفكيك العقل النخبوي الأكاديموي في "السوشيال ميديا" ( 55)

لسان حال بعضهم يقول: كم أنت مزعج... أيها الرئيس السيسي!!
-------------------------------------------------------------

نُخبُ وسائط التواصل الاجتماعي "السوشيال ميديا" من الأكاديميين المصريين الاختصاصيين في "علوم السياسة" من دون ذكر أسمائهم هُنَا بعضها تنام وتقوم سواء داخل مصر وخارجها؛ وهي تفتح حساباتها على "فيس بوك"؛ و"تويتر" لتعيش هذه الأيام حالة من الإجهاد الخارج عن إرادتها... وهي تتابع اضطراراً الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ هذا الرجل الذي يُحيِّرُها ويرفع درجة حنقها وضغطها؛ لأن متابعته في حركته فعلاً صارت عملية مرهقة. 


وهذه النخب تحمل طبولها اضطراراً و"هَاتْ يا دَقْ"؛ مع أية كلمة أو حركة يأتي بها السيسي... سواء أشار بأصبعه؛ أو احتضن راحتي كفيه؛ أدى التحية أو جفف جبينه أو دموع عينيه بالمنديل؛ ابتسم أو قهقه؛ أبدى لمحة غضب أو نظرة رضا، قبل رأس طفلة صغيرة أو سيدة كبيرة هي أم شهيد!!

هذا الرجل بمرور الأيام بالنسبة إليهم... مُتعب؛ مُزعج؛ فهو لا يتوقف ولا يهدأ... افتتاح مشروع هُنا؛ وتدشين شبكة طرق هُناك؛ تتويج تخطيط هُنا؛ وطلب تحقيق مطلب هُناك؛ توجيه مُلاحظة هُنا وتأكيد تعليمات هُناك.

*****

 

مزاج بعض هذه النخب الأكاديموية - من أساتذة الجامعة - الجمعي الذي تلمسه في تدويناتهم تجده "شعبوياً" ناقماً؛ يتساءل: ما جدوى هذا التكريس الإنشائي في الداخل المصري... في صورة مساكن؛ مصانع؛ مزارع؛ مصائد؛ مسالك ومعابر؛ موانىء ومطارات؛ تقسيمات إدارية متطورة للمحافظات؛ تصورات تنموية جديدة، وتكليفات بإنجازات فورية؛ زيارات واتفاقات، وسيناريوهات اقتصادية براقة؛ والحرص بالإعلان عنها وإنجازها قبل انقضاء المرحلة الأولى من رئاسته. ثم ما كلفة هذه المشروعات التي تزيد الديون أكثر؛ ومتى ستحقق عوائدها؟!!



وتتناسى هذه النخب التي تنافس "العقل الشعبوي" في منظورها السياسي؛ أن هناك حاضنة جماهيرية واسعة "شعبوية التفكير غير أنها وطنية الوجدان" تلتف حول السيسي؛ الذي يَرْتَكِنُ إليها باطمئنان معتمداً في تجاوز مشكلاتها على الظهير المؤسساتي الوطني الذي تمثله المؤسسة العسكرية المصرية؛ بكل التزامها ودقة توقيتها؛ وإدراكها أنها بتوجيهاته تتولى "إدارة أزمة" وطن؛ يخوض حرباً ضروساً في الداخل المتهالك اقتصادياً؛ والخارج المحيط المتربص بإرهابه العقدي المتسيس والمتخلف فكرياً وحركياً منذ أعاد السادات زراعته في تراب الوطن بعد رحيل جمال عبد الناصر؛ فكبر وتسرطن في عهد مبارك؛ ذلك العهد الذي شهد بالاضافة الى ذلك تتويجاً لفساد اداري غير مسبوق في مصر تُضرب به الأمثال. 

 

لكن السيسي "هذا الرجل المُزْعِج" الذي ترى إليه هكذا نُخب "السوشيال ميديا" من بعض أساتذة الجامعة؛ يُصرُّ على إصابتها بالإحباط أكثر؛ فيفعل ما قام بدراسته مع المؤسسة الوطنية العسكرية؛ وخطط إليه وأداره بإصرار، حتى تتماسك الدولة الهشة والمصابة بسرطان الفساد فتراه أنجز كل شيىء بنعومة؛ والناس كلها ساكنة في سكونها أملاً في وعود ذلك المنقذ من الإخوان والتردي الاقتصادي، حتى وإن أبدت شكاواها من ارتفاع الأسعار الذي يؤلمها؛ فإنها تثق أن القادم أجمل لها ولأولادها أكثر.
 


*****

** هل تُراهن نُخب "السوشيال ميديا" وتحديداً من بعض أساتذة الجامعات المتسيسين على شيء؟!

الاقتراب من "شعبوية" عقل هذه النخب يكشف تهافت خطابها السياسوي. وحين تحاول البحث عن ملامح مشاريعها السياسية البديلة؛ لعلها تكون أفضل مما يطرحه وينفذه عبد الفتاح السيسي في الوقت الراهن؛ فإنك لا تمسك لدى أي منهم مشروعاً متكاملاً؛ يُمكن أن يختطفك من قناعات "الضرورة والواقعية" التي تدعم لديك ضرورة حضور المؤسسة الوطنية العسكرية المصرية بقوة؛ والدور الذي يؤديه الرئيس عبد الفتاح السيسي راهناً!

 

وتدلف إلى كتاباتهم في أعمدة الصحافة الورقية والمواقع الالكترونية، لعلك تجد المشاريع البديلة تلك فلا تخرج سوى بانطباعات الابتسام الساخر، وهز الرأس عجباً مما بددت وقتك في مطالعته لديهم. ثم تستهلك وقتك أكثر بالتجوال في صفحات مدوناتهم؛ فتشعر بانفصالهم عن فهم الواقع وجُلُّهُم أساتذه في العلوم السياسية والاجتماعية؛ لذلك تؤنب نفسك أنك اهتممت بخطاباتهم.

 

ليس لدى نخب "السوشيال ميديا" من أساتذة العلوم السياسية هؤلاء سوى عبارات دالة على "عقلهم الجمعي" الملامس لــ"الخطاب الشعبوي" من مثل نوعية: "يجب أن يعود العسكر إلى معسكراتهم"؛ "على الجيش أن يتفرغ فقط للدفاع"؛ "مادخل الجيش في إنشاء المشروعات"؛" لماذا لا يفوض السيسي رجلاً مدنياً للحكم وينسحب هو لموقعه في الدفاع؟"؛ "مطلوب أن تكون الدولة مدنية في مصر"؛ " يجب على الرئيس السيسي حين يتحدث ألاَّ يرتجل الكلام"؛ "لماذا يظهر السيسي في افتتاح المشروعات وهو تحيط به القيادات العسكرية؟"! "ما جدوى المشروعات العملاقة التي تقام الآن"... وقس على ذلك الكثير من العبارات الدالة على تهافت خطاب تفكير هذه النُخب؛ وانفصالهم عن تفكير علم السياسة الذي يلقنونه لطلابهم!

*****

 

إذا كانت هذه النخب "السوشيال ميديوية" من أساتذة الجامعة... ذات انتماءات دينية وعقدية؛ ألا تعرف ما يُسمى "فِقْه الضرورات"؟ وإذا كانت هذه النخب ذات قناعات وتوجهات إيديولوجية... ألا تعرف ما يُسمى "تَقْدِير الموقف"؟ وإذا كانت إعلاموية ألا تعرف ما يُسمى "بنيوية الواقع"؛ ألا تعرف كل هذه النخب ما يُسمى "سيناريوهات الاستراتيجية" وفعاليالت "مراكز التفكير" (think tanks) ؟

***** 

 

كنت أتمنى على العقل النخبوي الأكاديموي المهيمن في ساحات "السوشيال ميديا" أن يُقدِّم ما يَدل على جدارته السياسية، ومنها على سبيل المثال:

- ذلك الأستاذ الجامعي المنتقد "رايح جاي"... لماذا لا يتوقف عن مسلكية رد الفعل القولي على حركيّة عبد الفتاح السيسي التي ينتقدها، ويبادر بتقديم تصور تنموي أكاديموي مناسب وفق تصوره العظيم يمكن به حل مشكلات الراهن وبناء المستقبل؟ هذا لم يحدث اكتفاء بالانتقاد الشعبوي الغاضب. 

- وهذا الأستاذ الجامعي الناقم دوماً، لماذا لا يُقدم تصوراً موثوقاً به حلاً لمشكلة اهتراء الطرق وفقرها في مواصفات السلامة، وكيفية تحقيق خريطة بنية تأسيسية جديدة عبر شبكة ممرحلة لربط أقاليم التنمية النوعية في مصر؛ وهذا لم يحدث.

- وذلك الأستاذ الجامعي الغاضب دوماً، لماذا لم يقدم تصوراً لمشروع وطني لمحو الأمية الالفبائية المخيفة في مصر؛ أو يتطوع بتقديم تصور للتأهيل المهني والحرفي للصناعات الجديدة والمستقبلية في مصر؛ وهذا لم يحدث.

- وهذا الأستاذ الجامعي المتوتر دوماً، لماذا لم يقدم تصوراً واقعياً لكيفية تطوير الحياة السياسية المدنية في مصر؛ وكيفية الارتقاء بأجنة ما تُسمى الأحزاب المدنية الوهمية؛ وهذا ما لم يحدث.

- وذلك الأستاذ الجامعي الحزين دوماً، لماذا لم يقدم دراسة تحليلية موثقة لطبيعة القوى الاجتماعية في مصر ومعايير قوتها؛ وكيفية حفزها للمشاركة الاجتماعية والسياسية؛ وهذا لم يحدث.

- وهذا الأستاذ الجامعي المُتعالي والمغتر وهماً دوماً، والمستهزىء بطبيعة الحركة في الواقع الراهن لماذا لم يقدم دراسة تحليلية لطبيعة وهوية القوة المهيمنة من الرأسمالية الطفيلية وأضرارها؛ وكيفية إجبارها على المساهمة في تطوير الواقع وحل مشكلاته؛ وهذا لم يحدث.

- وذلك الأستاذ الجامعي المتأدلج... لماذا لم يُطور أدواته العلمية وكذلك فهومه الإيديولوجية، ويقدم دراسة معاصرة تكون معياراً لكيفية تطوير أدوات أو قوى التغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في مصر؛ بما يتناسب والتحولات الهيكلية العولمية. وهذا لم يحدث.

 

ان خطاب أغلبية عناصر "النخب السوشيال ميديوية" المصرية مزري المستوى؛ ويفضح في الوقت نفسه المستوي التعليمي الأكاديموي الهش لبعض أساتذة الجامعة في علوم السياسة؛ والذين ينتجون شباباً يتجمع في "الحظيرة الافتراضية" التي تصنعها وسائل التواصل الاجتماعي؛ لتقولبهم قُطْعَانَاً؛ تجمعهم "تغريدة" في "تويتر"؛ وتقلب مفاهيمهم "تدوينة" في "فيس بوك"؛ وتخدع خيالاتهم "صورة " صنعها "فوتوشوب" ويجري تعميمها في "إنستغرام"؛ وتحرك ألسنتهم الببغائية "تسريبة مكذوبة" تنتشر كالنار في الهشيم وتتصدر الترندات!!

  

*****

 

هذه العقول النخبوية الأكاديموية الغاضبة التي تحولت إلى نخب للـ "سوشيال ميديا" مزرية الخطاب؛ تكتفي بكتابة صرخات ولطميات كلامية؛ ولسان حال تدويناتهم يقول: كم أنت مزعج... أيها الرئيس السيسي!... تعمل ونحن نكتفي من الأمر بالكلام؛ لعلك تلتفت لبعضنا ذات مرة بلقب "سعادة الوزير"!!

                                                                           "رأفت السويركي"
-------------------------------

الاثنين، 9 يناير 2017

هكذا عرفت البروفيسور "محمد مفتاح"!!

 هكذا عرفت البروفيسور "محمد مفتاح"!!
----------------------------------------------


كانت المرة الأولى التي تقع فيها عيناي على اصطلاح غريب لم أكن أدرك معناه خلال إحدى جولاتي إلى مكتبات "سور الأزبكية" في القاهرة. كنت شابا يحاول أن يعمق معرفته باتجاهات النقد الأدبي بما يفيد تجربتي شاعرا شابا.

كانت مفاهيم تيارات النقد الواقعي الموضوعي والمضموني تشكل ذائقتنا الأدبية؛ وكانت الوظيفة الاجتماعية للأدب هي مثار اهتمامنا، وبوتقة تشكيل وعينا الثقافوي.

غير أن الكتاب الذي كان عنوانه غريبا آنذاك بالنسبة لي كقارىء حر خلال تلك المرحلة "مدخل إلى السيميوطيقا" من تأليف الدكتور نصر حامد أبو زيد وسيزا قاسم فاتحة المرور إلى أفق آخر أكثر غرابة ورحابة وتقانة أيضا؛ إذ بدأت التعرف إلى طرائق مغايرة؛ تكشف لي ليس المضمون السياسي التزاما للأدب ولكن طريقة بنائية النص ليكون خطابه مؤثرا.

وبعد معاناة مكابدة التحول للإحاطة بذائقة القراءة الجديدة انطلاقا من كتاب "سيزا قاسم ونصر أبو زيد"، ومحاولة استيعاب خصوصيات محموله؛ ونمط تقنياته في التحليل... بدأت أركض لتحصيل أية كتابات وإصدارات تدور حول فن الخطاب والسيميولوجيا والبنائية و... و... إلخ. 

وساقت إلى المصادفة أيضا كتابا كان مثيرا بعنوان "في سيمياء الشعر القديم" للدكتور محمد مفتاح، الذي فتح أمامي أيضا طاقة جديدة للتعامل مع شعرنا العربي القديم. 

وبدءا من هذا الكتاب عرفت اعمال البروفيسور محمد مفتاح، واهتممت بمشروعه وانكببت على مؤلفاته جمعا وقراءة. ومنها: التلقي والتأويل ـ مجهول البيان ـ نظرية الشعر ـ تحليل الخطاب الشعري ـ النص من القراءة إلى التنظير ـ مفاهيم موسعة لنظرية شعرية".

"فيس بوك" أعاد تذكيري بتدوينة سابقة لي... تدور حول انطباعاتي تجاه هذا العلم العلمي، وذكرياتي، وكيف كانت مناسبة اللقاء الشخصي معه في "مهرجان المربد" بالعراق مع باقة من مفكري وعلماء المغرب الشقيق، وكانت هذه التدوينة بعنوان:

شهادة في عالم "محمد مفتاح"
-----------------------

كم أنا في اشتياق للقاء هذا الرجل الذي اعتبره نسيج وحده، فهو عالم فريد في إنتاجه الفكري المتميز، وكتبه التي تعد من علامات دراسة وتحليل وتفكيك الخطاب الإبداعي العربي، بجهد منهجي متعدد الزوايا والإحاطة، بدراسته النص من القراءة الى التنظير، ودينامية النص، وعمله الفريد عن الخطاب الشعري، استراتيجية التناص، وسفره الفريد في سيمياء الشعر القديم، والعديد العديد.

التقيت الاستاذ الدكتور محمد مفتاح في "مهرجان المربد" ببغداد، بعد انتهاء الحرب الإيرانية العراقية، مع زمرة من علامات الفكر في المغرب، د. محمد وقيدي، والمرحوم سالم يفوت، والشاعر بشير القمري، والعلم الدكتور سعيد يقطين، والعديد ممن لا تحضرني أسماؤهم الان، وكانت بداية تعارف فكري مميز، وكان الدكتور محمد مفتاح يتحرك كنسمة الهواء، بهدوء جليل، وبعدها دخل مشروع هذا العالم مكتبتي وراسي، ليفتح لي آفاقا لا محدودة من المعرفة، فظللت اتلهف لالتقاط احدث مؤلفاته من إصدارات المركز الثقافي العربي عاما بعد عام، وليصبح محمد مفتاح احد اهم أساتذتي في عالم تحليل الخطاب الأدبي والألسني. هذه شهادة ضئيلة في حق عالم جليل.


                                                                              "رأفت السويركي"
------------------------------------------

السبت، 7 يناير 2017

جورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري... مشروعان مضادان لفكر الكهف!!



جورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري... 

مشروعان مضادان لفكر الكهف!!
-------------------------------------




أعترف باعتزاز أنني أدين بفضل معرفي كبير للمفكر الكبير الراحل جورج طرابيشي، الذي لم ألتق به يوماً وجهاً لوجه، ولم أمد يدي لمصافحته والشدِّ على يديه، ولكنني عشت سنوات، وأياماً وساعات طويلة، مع إنتاج عقله العلمي الكبير، بمشروعه التنويري المذهل، وأحمل له حباً معرفياً غير محدود، وصافحت بيدي وعقلي مشروعه المتمثل في إصدارات رصينة، أبرز عناوينها: إشكاليات العقل العربي، نقد نقد العقل العربي... العقل المستقيل في الإسلام، نقد نقد العقل العربي... وحدة العقل العربي الإسلامي، المعجزة أو سبات العقل في الإسلام، "هرطقات" الديمقراطية والعلمانية والحداثة، "هرطقات" عن العلمانية كإشكالية إسلامية، مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، من النهضة الى الردة، ازدواجية العقل، وأخيراً دُرَّة مؤلفاته: "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، فضلاً عن إصداراته الأخرى المُحفِّرة في مجالات علم النفس: المثقفون العرب والتراث... التحليل النفسي، عقدة أوديب في الرواية العربية، الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية، شرق وغرب - رجولة وأنوثة... إلخ.

كما أحب طرابيشي أحب الجابري
-----------------------------

وفي الوقت ذاته، أكن حباً معرفياً لا حدود له أيضاً، تجاه المفكر العبقري الكبير بمشروعه العقلاني التنويري المذهل أيضاً، الراحل المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري ومشروعه الذي توَّجه بإصداراته: تكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي، والعقل السياسي العربي والعقل الأخلاقي العربي، ومدخل إلى القرآن الكريم، وفهم القرآن الكريم – التفسير الواضح بأقسامه الثلاثة.

وكنت التقيت الأستاذ الجابري في القاهرة، خلال فعاليات "ندوة التراث وتحديات العصر في الوطن العربي: الأصالة والمعاصرة" التي نظمها في القاهرة "مركز دراسات الوحدة العربية" في ثمانينات القرن الماضي، ولم أكن أعرف الكثير وقتها مثل غيري من المشرقيين، عن المفكر الكبير، بحكم نقص وشح المعلومات عن كتاب ومفكري دول المغرب العربي الشقيق، حيث أعتبر هذه البقعة الحبيبة إلى عقلي، مخزن العالم العربي الثري إلى درجة التخمة، بعقوله ومفكريه المبدعين، شيوخاً وشباباً، وأعيش رحلة استماع ممتعة مع الإصدارات المطبوعة بإنتاجهم التي تصل إلى يدي.


مشروعان عقليان مضادان لفكر الكهف
------------------------------------

لذلك فكلاهما الدكتور جورج طرابيشي، والمرحوم محمد عابد الجابري، فتح لي وفق منهجه وأدواته، مساحات شاسعة من التعلم الفكري الطليق، الذي يحترم فضيلة التعقل والتفكر، ولكل من الرجلين نهجه الخاص، وموقفه المعرفي، الذي ينطلق من قناعاته العلمية والمعرفية، وغير مجهول لأهل التفكر والقراءة المتخصصة، مساجلات جورج طرابيشي النقدية لمشروع الجابري الذي ظهرت في عناوين كتبه، ومنهج كل منهما، الذي أحترمه عقلانياً من دون انتماء إلاّ إلى فعل التفكيك والتحليل الذي سلكه كل من الرجلين، بجدية واحترام الآخر، فاختلاف الرأي لا يفسد للود قضية كما يقال.

وبقدر ما أحببت واحترمت مشروع الرجلين الفكري، نهلت من علمهما الكثير في رحلة تثقيف ذاتية، تجعلني أدرك أهمية ما قدمه كلاهما من موءلفات لا ترضى عنها الفكرية الماضوية المتكلسة، والخارجة من زمن الكهف إلى عصر الحضارة والحداثة وما بعدها، إذ أن سوط الاتهام بالتبعية للاستشراق، يُلاحق فكرهما العقلي المبدع، صرف النظر عن المنظور الإيديولوجي المتهافت الذي يلاقي به أصحاب الفكر الكهفي، أو الفكر الماضوي، غير العقلاني، المتكئ إلى القراءة الظاهرية والرواية، بديلاً عن القراءة العقلية التأويلية، يُلاحق مشروع الرجلين حتى وإن اختلفا فكرياً، في طرائق قراءتهما لمنتوج العقل العربي وخطابه.

مشروع محمد عابد الجابري


 قراءة الجابري وقراءة طرابيشي
-----------------------------

فقراءة الجابري تُفكك العقل العربي إلى ثلاثة تصنيفات: هي العقل العِرفاني، والعقل البياني، والثالث العقل البرهاني عبر إحالتهم إلى روافدهم المعرفية، أما قراءة طرابيشي فتعيد النظر إلى القضية الفكرية برمتها، عبر التحفير المعرفي تاريخياً، لوضع اليد على الأصول المفاهيمية، قبل إعادة تركيبها أو بنائها، للوصول إلى النتيجة التي يسعى إليها.

لذلك فأصحاب قراءة التلقي الحُرَّة غير المصطفة من امثالي، يشعرون بالفرح والشغف لوجهتي نظر الرجلين، لأنهما قدما صورة عن هذا العقل المُضمَر من جانبيه، لتكون الرؤية بالنسبة للمتلقي شاملة، وليست أسيرة منظور واحد، فأنت حينما تريد أن تعرف شيئاً، ينبغي أن توجه إليه بصرك عبر كل الاتجاهات، من الأمام ومن الخلف، ومن الأعلى والأسفل، حتى تتوفر لك إمكانية الإحاطة الموضوعية المكتملة للمنظور إليه.

وقد أحببت أن أسوق هذه الكتابة، لإبراز اعتزازي بفكر الرجلين ومشروعهما البديع، بمناسبة اقتباس وُضِعَ بصفحة الدكتور جورج طرابيشي، كان نصه:" إنّ جدلية المُخاطِب والمُخاطَب في الخطاب القرآني، هي جدلية من طرف واحد، الآمر فيها مُطلق الحرية والمأمور مُطلق العبودية، ومن دون أي هامش للمناورة. فالرسول هو عبد الله بملء معنى الكلمة، فليس له شيء، ولسيّده كل شيء ". وهذا المقتبس من كتاب:" من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" للدكتور جورج طرابيشي.

مشروع جورج طرابيشي 
خطاب القرآن وخطاب الحديث
---------------------------

وقد استثار المُقْتَبَس من الكِتاب الذي عكفت على قراءته طويلاً منذ خمسة أعوام، مداخلة شخصية وضعتها في صفحة الدكتور طرابيشي بعنوان "مستوى الخطاب القرآني ومساره ومستوى ومسار الحديث"، وجاء نصها: "النسق الخطابي في عملية الاتصال، هو دائماً يأخذ مسار الإرسال الهابط، من القدرة الكلية العُليا إلى الرسول، فلا يملك الخيار إزاء رسالة التبليغ، إلاَّ بتوصيلها بعد نزولها على قلبه، حسب التعبير القرآني، وفي الوقت ذاته، كان هناك أيضا خِطاب من أعلى في المنزلة جاء من الرسول كبشر إلى جموع المؤمنين، فاعتبروها نصوصاً بمنزلة النص المقدس السماوي، وقام العقل الفقهي بتشييد حوائط من النصوص الحافة، التي أغلقت الطريق إلى النص المقدس، إلاَّ عبر ممرات الحديث، ليتشكل الخطاب بطبائع بشرية، لذلك هيمنت صور محددة لتصبغ العقيدة، فكانت إشكالية ما يسعى الكتاب إلى أن يقوله: من إسلام القران إلى إسلام الحديث".

جدران الفقهاء المتكلسة
----------------------

وأكملت في توضيح إلى صديق من المتداخلين
Samir Sallaleh: أن مكمن الإشكالية التي نُعاني منها الآن، هو أن خطاب الفقهاء البشري، أحكم الطوق على تواصلية النص القرآني الذاتية، مانعا النص المقدس، من أن يُلقي حمولته الإشراقية على قلوب أو بمعنى أدق عقول المتلقين مباشرة، ويتيح اغتراب اللغة العربية عن أهلها الفرصة إلى هؤلاء الوسطاء، ليفرضوا أفهامهم على العقيدة، فكان ما كان، من غلبة فقه الحديث بكل إشكالاته على غلبة ما يمكن وصفه بفقه النص المقدس الذاتي، فكان إسلام الحديث مقابل إسلام القران، وليسمح لنا استاذنا الدكتور جورج طرابيشي بذلك مع الاعتذار.

إغفال علوم "نقد المتون"
-----------------------

إن الاقتباس الذي وضعه أستاذنا الراحل جورج طرابيشي، يثير على بساطته التعبيرية العميقة، تجربة مركزة وصارمة للتفرقة بين كلام الله المُعَبَر عنه بالقرآن و"المحفوظ من الله المُرسِل"، وبين كلام الحديث المنسوب إلى الرسول الأكرم، وارتبط حسب إرادة الفقهاء والرواة بالقداسة، من منظور أن البشر المُرسِل " للحديث" ما ينطق عن الهوى، حتى وإن تعددت الروايات ذاتها، وضُعِّفت ونُقِضَت بعدما نُقِدَتْ، فذلك لا يهم، لأنهم من وجهة نظرهم وضعوا الجسد الضخم لـ "علوم الحديث" المعتمدة على الرواة، بالتضعيف، والتحسين والتكذيب حسب المدرسة السنية و"علوم الرجال" حسب المدرسة الشيعية، كأدوات للضبط، فيما لم يُعطوا "نقد المتون" اهتماما أساسياً، بل واعتمدوا من مرويات كلٍ من المدرستين، ما قد تتناقض مع الخطاب القرآني، وتختلف في الأحكام عن حمولات القرآن، التي لا تدعو إلا إلى الحق والعدل، والرحمة والرأفة، وتفعيل حركة العقل، واعتبارها معياراً للوصول إلى الحقائق الكلية.

*****

جهد مشروع طرابيشي ومشروع الجابري رفيع المنزلة، وقيمتهما الفكرية لا تُقدر بثمن، لأنهما من أساسات أي مشروع تحديثي مرتجى للعقل العربي ومقولاته في إطار سعيه للنهضة، الحلم الذي نفتش عنه ونتمناه. إنهما مشروعان عقليان مضادان لفكر الكهف، بكل ملابساته التاريخية، المُعطلة لفضيلة إعمال العقل في عالمنا المسلم، الباحث عن بعث النهضة من جديد، بحداثة جذورها موجودة أيضاً في موروثنا المعرفي المهمل كما يؤكد ذلك الرجلان، حتى وإن اختلف طريقهما.

دورية "أفكار" المغربية
 
كتابتي نشرت في "أدب الاعتراف"
** ملاحظة:
------------

نشرت هذه الكتابة في موقع "إسلام مغربي"بتاريخ  23 تشرين الثاني /نوفمبر 2015م ؛ وأيضاً في العدد الثاني كانون الثاني / يناير 2016م من دورية "أفكار" المغربية الشهرية .


                                                              "رأفت السويركي"
-----------------------------------------