السبت، 7 يناير 2017

جورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري... مشروعان مضادان لفكر الكهف!!



جورج طرابيشي ومحمد عابد الجابري... 

مشروعان مضادان لفكر الكهف!!
-------------------------------------




أعترف باعتزاز أنني أدين بفضل معرفي كبير للمفكر الكبير الراحل جورج طرابيشي، الذي لم ألتق به يوماً وجهاً لوجه، ولم أمد يدي لمصافحته والشدِّ على يديه، ولكنني عشت سنوات، وأياماً وساعات طويلة، مع إنتاج عقله العلمي الكبير، بمشروعه التنويري المذهل، وأحمل له حباً معرفياً غير محدود، وصافحت بيدي وعقلي مشروعه المتمثل في إصدارات رصينة، أبرز عناوينها: إشكاليات العقل العربي، نقد نقد العقل العربي... العقل المستقيل في الإسلام، نقد نقد العقل العربي... وحدة العقل العربي الإسلامي، المعجزة أو سبات العقل في الإسلام، "هرطقات" الديمقراطية والعلمانية والحداثة، "هرطقات" عن العلمانية كإشكالية إسلامية، مصائر الفلسفة بين المسيحية والإسلام، من النهضة الى الردة، ازدواجية العقل، وأخيراً دُرَّة مؤلفاته: "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث، فضلاً عن إصداراته الأخرى المُحفِّرة في مجالات علم النفس: المثقفون العرب والتراث... التحليل النفسي، عقدة أوديب في الرواية العربية، الله في رحلة نجيب محفوظ الرمزية، شرق وغرب - رجولة وأنوثة... إلخ.

كما أحب طرابيشي أحب الجابري
-----------------------------

وفي الوقت ذاته، أكن حباً معرفياً لا حدود له أيضاً، تجاه المفكر العبقري الكبير بمشروعه العقلاني التنويري المذهل أيضاً، الراحل المرحوم الدكتور محمد عابد الجابري ومشروعه الذي توَّجه بإصداراته: تكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي، والعقل السياسي العربي والعقل الأخلاقي العربي، ومدخل إلى القرآن الكريم، وفهم القرآن الكريم – التفسير الواضح بأقسامه الثلاثة.

وكنت التقيت الأستاذ الجابري في القاهرة، خلال فعاليات "ندوة التراث وتحديات العصر في الوطن العربي: الأصالة والمعاصرة" التي نظمها في القاهرة "مركز دراسات الوحدة العربية" في ثمانينات القرن الماضي، ولم أكن أعرف الكثير وقتها مثل غيري من المشرقيين، عن المفكر الكبير، بحكم نقص وشح المعلومات عن كتاب ومفكري دول المغرب العربي الشقيق، حيث أعتبر هذه البقعة الحبيبة إلى عقلي، مخزن العالم العربي الثري إلى درجة التخمة، بعقوله ومفكريه المبدعين، شيوخاً وشباباً، وأعيش رحلة استماع ممتعة مع الإصدارات المطبوعة بإنتاجهم التي تصل إلى يدي.


مشروعان عقليان مضادان لفكر الكهف
------------------------------------

لذلك فكلاهما الدكتور جورج طرابيشي، والمرحوم محمد عابد الجابري، فتح لي وفق منهجه وأدواته، مساحات شاسعة من التعلم الفكري الطليق، الذي يحترم فضيلة التعقل والتفكر، ولكل من الرجلين نهجه الخاص، وموقفه المعرفي، الذي ينطلق من قناعاته العلمية والمعرفية، وغير مجهول لأهل التفكر والقراءة المتخصصة، مساجلات جورج طرابيشي النقدية لمشروع الجابري الذي ظهرت في عناوين كتبه، ومنهج كل منهما، الذي أحترمه عقلانياً من دون انتماء إلاّ إلى فعل التفكيك والتحليل الذي سلكه كل من الرجلين، بجدية واحترام الآخر، فاختلاف الرأي لا يفسد للود قضية كما يقال.

وبقدر ما أحببت واحترمت مشروع الرجلين الفكري، نهلت من علمهما الكثير في رحلة تثقيف ذاتية، تجعلني أدرك أهمية ما قدمه كلاهما من موءلفات لا ترضى عنها الفكرية الماضوية المتكلسة، والخارجة من زمن الكهف إلى عصر الحضارة والحداثة وما بعدها، إذ أن سوط الاتهام بالتبعية للاستشراق، يُلاحق فكرهما العقلي المبدع، صرف النظر عن المنظور الإيديولوجي المتهافت الذي يلاقي به أصحاب الفكر الكهفي، أو الفكر الماضوي، غير العقلاني، المتكئ إلى القراءة الظاهرية والرواية، بديلاً عن القراءة العقلية التأويلية، يُلاحق مشروع الرجلين حتى وإن اختلفا فكرياً، في طرائق قراءتهما لمنتوج العقل العربي وخطابه.

مشروع محمد عابد الجابري


 قراءة الجابري وقراءة طرابيشي
-----------------------------

فقراءة الجابري تُفكك العقل العربي إلى ثلاثة تصنيفات: هي العقل العِرفاني، والعقل البياني، والثالث العقل البرهاني عبر إحالتهم إلى روافدهم المعرفية، أما قراءة طرابيشي فتعيد النظر إلى القضية الفكرية برمتها، عبر التحفير المعرفي تاريخياً، لوضع اليد على الأصول المفاهيمية، قبل إعادة تركيبها أو بنائها، للوصول إلى النتيجة التي يسعى إليها.

لذلك فأصحاب قراءة التلقي الحُرَّة غير المصطفة من امثالي، يشعرون بالفرح والشغف لوجهتي نظر الرجلين، لأنهما قدما صورة عن هذا العقل المُضمَر من جانبيه، لتكون الرؤية بالنسبة للمتلقي شاملة، وليست أسيرة منظور واحد، فأنت حينما تريد أن تعرف شيئاً، ينبغي أن توجه إليه بصرك عبر كل الاتجاهات، من الأمام ومن الخلف، ومن الأعلى والأسفل، حتى تتوفر لك إمكانية الإحاطة الموضوعية المكتملة للمنظور إليه.

وقد أحببت أن أسوق هذه الكتابة، لإبراز اعتزازي بفكر الرجلين ومشروعهما البديع، بمناسبة اقتباس وُضِعَ بصفحة الدكتور جورج طرابيشي، كان نصه:" إنّ جدلية المُخاطِب والمُخاطَب في الخطاب القرآني، هي جدلية من طرف واحد، الآمر فيها مُطلق الحرية والمأمور مُطلق العبودية، ومن دون أي هامش للمناورة. فالرسول هو عبد الله بملء معنى الكلمة، فليس له شيء، ولسيّده كل شيء ". وهذا المقتبس من كتاب:" من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" للدكتور جورج طرابيشي.

مشروع جورج طرابيشي 
خطاب القرآن وخطاب الحديث
---------------------------

وقد استثار المُقْتَبَس من الكِتاب الذي عكفت على قراءته طويلاً منذ خمسة أعوام، مداخلة شخصية وضعتها في صفحة الدكتور طرابيشي بعنوان "مستوى الخطاب القرآني ومساره ومستوى ومسار الحديث"، وجاء نصها: "النسق الخطابي في عملية الاتصال، هو دائماً يأخذ مسار الإرسال الهابط، من القدرة الكلية العُليا إلى الرسول، فلا يملك الخيار إزاء رسالة التبليغ، إلاَّ بتوصيلها بعد نزولها على قلبه، حسب التعبير القرآني، وفي الوقت ذاته، كان هناك أيضا خِطاب من أعلى في المنزلة جاء من الرسول كبشر إلى جموع المؤمنين، فاعتبروها نصوصاً بمنزلة النص المقدس السماوي، وقام العقل الفقهي بتشييد حوائط من النصوص الحافة، التي أغلقت الطريق إلى النص المقدس، إلاَّ عبر ممرات الحديث، ليتشكل الخطاب بطبائع بشرية، لذلك هيمنت صور محددة لتصبغ العقيدة، فكانت إشكالية ما يسعى الكتاب إلى أن يقوله: من إسلام القران إلى إسلام الحديث".

جدران الفقهاء المتكلسة
----------------------

وأكملت في توضيح إلى صديق من المتداخلين
Samir Sallaleh: أن مكمن الإشكالية التي نُعاني منها الآن، هو أن خطاب الفقهاء البشري، أحكم الطوق على تواصلية النص القرآني الذاتية، مانعا النص المقدس، من أن يُلقي حمولته الإشراقية على قلوب أو بمعنى أدق عقول المتلقين مباشرة، ويتيح اغتراب اللغة العربية عن أهلها الفرصة إلى هؤلاء الوسطاء، ليفرضوا أفهامهم على العقيدة، فكان ما كان، من غلبة فقه الحديث بكل إشكالاته على غلبة ما يمكن وصفه بفقه النص المقدس الذاتي، فكان إسلام الحديث مقابل إسلام القران، وليسمح لنا استاذنا الدكتور جورج طرابيشي بذلك مع الاعتذار.

إغفال علوم "نقد المتون"
-----------------------

إن الاقتباس الذي وضعه أستاذنا الراحل جورج طرابيشي، يثير على بساطته التعبيرية العميقة، تجربة مركزة وصارمة للتفرقة بين كلام الله المُعَبَر عنه بالقرآن و"المحفوظ من الله المُرسِل"، وبين كلام الحديث المنسوب إلى الرسول الأكرم، وارتبط حسب إرادة الفقهاء والرواة بالقداسة، من منظور أن البشر المُرسِل " للحديث" ما ينطق عن الهوى، حتى وإن تعددت الروايات ذاتها، وضُعِّفت ونُقِضَت بعدما نُقِدَتْ، فذلك لا يهم، لأنهم من وجهة نظرهم وضعوا الجسد الضخم لـ "علوم الحديث" المعتمدة على الرواة، بالتضعيف، والتحسين والتكذيب حسب المدرسة السنية و"علوم الرجال" حسب المدرسة الشيعية، كأدوات للضبط، فيما لم يُعطوا "نقد المتون" اهتماما أساسياً، بل واعتمدوا من مرويات كلٍ من المدرستين، ما قد تتناقض مع الخطاب القرآني، وتختلف في الأحكام عن حمولات القرآن، التي لا تدعو إلا إلى الحق والعدل، والرحمة والرأفة، وتفعيل حركة العقل، واعتبارها معياراً للوصول إلى الحقائق الكلية.

*****

جهد مشروع طرابيشي ومشروع الجابري رفيع المنزلة، وقيمتهما الفكرية لا تُقدر بثمن، لأنهما من أساسات أي مشروع تحديثي مرتجى للعقل العربي ومقولاته في إطار سعيه للنهضة، الحلم الذي نفتش عنه ونتمناه. إنهما مشروعان عقليان مضادان لفكر الكهف، بكل ملابساته التاريخية، المُعطلة لفضيلة إعمال العقل في عالمنا المسلم، الباحث عن بعث النهضة من جديد، بحداثة جذورها موجودة أيضاً في موروثنا المعرفي المهمل كما يؤكد ذلك الرجلان، حتى وإن اختلف طريقهما.

دورية "أفكار" المغربية
 
كتابتي نشرت في "أدب الاعتراف"
** ملاحظة:
------------

نشرت هذه الكتابة في موقع "إسلام مغربي"بتاريخ  23 تشرين الثاني /نوفمبر 2015م ؛ وأيضاً في العدد الثاني كانون الثاني / يناير 2016م من دورية "أفكار" المغربية الشهرية .


                                                              "رأفت السويركي"
-----------------------------------------




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق