تفكيك العقل النخبوي الأميركي السياسوي (58)
"دونالد ترامب" الذي يصيبهم بالحيرة والغضب...
هكذا نفهمه!!
-----------------------------------------------
-----------------------------------------------
يوما بعد يوم يكشف "اليمين السياسوي الأميركي" العائد لسدة الحكم عن ملامح وجهه الجديد، والذي يطل من تعبيرات وجه وحركات أصابع وقرارات "دونالد ترامب" غير المتوقعة، بما يصيب الجميع بالحيرة والغضب.
وعلى الرغم من الضوضاء التي تحدثها بعض الممارسات الشعبوية للحزب الديمقراطي الأميركي في الشوارع من تظاهرات، ومحاولة احتشادات مضادة لدونالد ترامب تجد أصداء مماثلة لها عالميا في بعض المدن الأوروبية، فان "القراءة التفكيكية" تلتفت أكثر لاكتشاف "المسكوت عنه" في الخطاب المبكر الذي دشن به بدء العصر الجديد لعودة اليمين السياسوي الأميركي حيث قدم خلاله ترامب دستور عمله اليميني الحاكم خلال مرحلتيه الدستوريتين في الحكم الأميركي إذا نجح في تنفيذ ما وعد به.
*****
"دونالد ترامب" الذي يعممون حوله صفات سلبية؛ بالقول أنه عنصري ومتعصب؛ وكاذب ومخادع ومتصنع؛ ومضطرب نفسانيا وغامض؛ ومندفع ويتفوق على النازي هتلر... إلخ صار أيقونة اليمين الأميركي الذي اختاره بوعي للرئاسة يواجه هذه التوصيفات بسخرية لمعرفته أنها من أساليب المكايدة السياسية ليس أكثر.
"دونالد ترامب"... اقتصاديا هو رأسمالي أميركي عولمي بامتداد شركاته إلى كثير من الدول في القارات المختلفة، غير أنه سياسويا صار رئيس دولة لها شجونها ومشكلاتها الخاصة داخليا، ومن هنا يتجلى التناقض الراهن بين ترامب الرأسمالي العولمي الراكض خلف الربح... وترامب السياسي الأميركي المدرك لمشكلات بلاده الاقتصادية والسياسية، فكيف يتناقضان ويتفقان حول الأجندة الوطنية، لكن في العمل السياسوي "هذه نقرة وتلك نقرة " كما يقولون في التعبير العربي!
القضية توجز في عبارة: إن فوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية هو التدشين المرحلي لبدء عصر اليمين السياسوي في الولايات المتحدة الأميركية، كمقدمة مواكبة لمرحلة صعود جديدة أيضا لأحزاب اليمين في القارة الأوروبية، ومن هنا تبدو أهمية "القراءة التفكيكية" العميقة لخطاب التنصيب وممارسات "دونالد ترامب" بجلوسه في مقعد القيادة بالبيت الأبيض. فهل يتواءم ترامب الرأسمالي مع ترامب السياسي... أم يتناقضان كما أسفر عن ذلك خطاب التنصيب؟!
*****
الخطاب الأول لــ "دونالد ترامب" كان مُسفراً عن طبيعة التوجه الجديد في نهج السياسة الأميركية؛ عبر المنظور اليميني الذي يتبناه الجمهوريون الأميركيون؛ كما يُشير إلى ملامح تحولٍ مغاير جديدٍ في النهج الأميركي؛ يتناغم في الوقت نفسه مع تحول مناظر في حال عودة تمكن أحزاب اليمين الأوروبي من مفاصل السلطة في دوله العديدة؛ بعد أن أتيحت سنوات طويلة لسلطات اليسار الأوروبي وكذلك الديمقراطي الأميركي في مقاعد الحكم؛ وكان لها ما لها... وعليها ما عليها!!
إن تمكن الجمهوريين عبر "دونالد ترامب" من البيت الأبيض؛ ومن قبله الكونغرس بمجلسيه "النواب والشيوخ"، لم يكن خبط عشواء؛ وإنما هو فعلٌ دالٌ على تحول جوهري في طبيعة توجه الجمهور الأميركي؛ ويعكس دلالاته في تغيير بنية السلطة الأميركية التشريعية والتنفيذية.
فقد استنفد الديمقراطيون الأميركيون أغراضهم عبر ولايتي "أوباما"؛ وكان تأثيرهم في الخارج الأميركي مُدمِّراً؛ خاصة في منطقة الشرق الأوسط؛ التي جهدوا بدأب لأن يفتتوها بدعوى كَذُوب أسموها "تعميم الديموقراطية"، والخلاص من "حكم الأنظمة العسكرية"؛ فلم يؤسسوا للديموقراطية قدر ما أسسوا بدلاً عنها للفوضى؛ ولإقامة ولايات دينية وعرقية ومذهبية متصارعة، تعيش في احتراب دائم؛ وتدفع تلك الفوضى التي تسببوا فيها إلى نزوح هائل من المهاجرين العقيديين "المسلمين" باتجاه المربعين الأوروبي والأميركي وهو ما يزيد علل الداخل الأميركي التي تركها الديمقراطيون من دون حلول؛ لذلك خلعهم الناخب الأميركي من السلطة... رئاسة وتشريعاً غير مأسوف عليهم!!
*****
وكما جاء "دونالد ترامب" ليعلن بدء "عصر اليمين الأميركي الجديد"؛ بدأت في الوقت ذاته ظاهرة تكريس عودة صعودُ اليمينِ في دول العالم؛ كما حدث في إنجلترا وقد نشط لإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وفي فرنسا عبر الجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبين الساعية للوصول إلى رئاسة الجمهورية الفرنسية في انتخابات 2017م مع رئيس الوزراء السابق فرانسوا فيون؛ وفي ألمانيا بتفوق حزبُ البديل على الحزب المسيحي الديمقراطي بقيادة ميركل اتحادياً؛ فضلاً عن تنامي صعود الظاهرة اليمينية في فنلندا وبلغاريا وسويسرا؛ والعديد من الدول الأخرى.
*****
وبالتركيز على موضوعة "دونالد ترامب" عبر تفكيك خطابه لكي نفهمه يمكن رصد التوجهات الجديدة فيما يلي:
** إن الولايات المتحدة الأميركية "دولة المركز الرأسمالي" التي انطلق منها طور "العولمة الرأسمالية" نزوحاً وغزواً إلى دول الأطراف، بدأت تكتوي بنار العولمة؛ وتشعر بالمأزق الوجودي الذي أخذ يطالها محليا في "مرحلة العولمة". حيث أحدثت تلك "العولمة" تجريفاً في القدرات الاستصناعية الأميركية الخاصة التي كانت مركز ثقلها وقوتها؛ وقامت بنقل الصناعات الثقيلة والتخصصية إلى دول "الأطراف العولمية" في الصين واليابان والهند وبقية دول آسيا؛ وما تيسر من دول الحُلفاء في أوروبا وأميركا اللاتينية؛ لتفقد كثيرا من ثقلها الاقتصادي والسياسي، مع صعود العديد من القوى الدولية الوازنة الأخرى مثل روسيا بوتين والصين وغيرهما.
** بقيام الفكر الرأسمالي الأميركي العولمي المُخادع بتفكيك صناعات بلاده، فإنه يبدأ طور إغلاق صفحة "العصر الصناعي"؛ وبقدراته الاتصالية الهائلة وهيمنته الرقمية يشرع في فتح صفحة "العصر العولمي" الجديد... بحجج التخلص من عبء الصناعات الثقيلة؛ التي هي بطبيعتها قذرة وملوثة وضارة بالبيئة؛ فنقلها إلى دول الأطراف؛ التي تتحمل بنفسها دفع ضريبة التلوث مقابل حركة التصنيع وتشغيل العمالة من دون كلفة تتحملها الرأسمالية العولمية؛ حيث لا تراعي الاتفاقات المعقودة برعاية مؤسسات المال العولمية؛ مثل "البنك الدولي" و"صندوق النقد الدولي" ما ينص على المسؤولية الأميركية وكلفتها الاقتصادية مقابل التلوث والهدر البيئي الذي ستحدثه بنقل التصنيع إلى الدول الطرفية؛ ما يحقق للرأسمالي العولمي - وهذا هو "المسكوت عنه" - الهيمنة الكونية السياسوية؛ بعد تفتت كيانات ودول المعسكر الاشتراكي المنافس البنيوي التقليدي له فضلا عما يجنيه من الربحية المخيفة.
** ولأن القاعدة المنطقية تقوم على أن "الظاهرة تخلق نقيضها"؛ فإن الفكر الرأسمالي العولمي، الذي قادته العاصمة السياسية واشنطن والعاصمة المالية نيويورك بعد انهيار الاتحاد السوفياتي هو "صَنْعَنَة" دول الأطراف الفقيرة – أي جعلها من الدول الصناعية - تعظيما للربحية؛ والاستفادة من انخفاض الأجور، واستنزاف ثرواتها الطبيعية من المواد الخام الأولية؛ واقترابها من الأسواق الجديدة والواعدة؛ فضلاً عن الاستفادة من بيئتها البكر لتكون علاجاً بديلاً لمشكلة البيئة والتلوث بالبلدان الصناعية، ولم تتحمل الرأسمالية العولمية مسؤوليتها الاجتماعية عن التلوث البيئي.
لذلك حدث خلل بنيوي ضرب "الولايات المتحدة الأميركية"؛ فأوصلها إلى مرحلة التهافت التصنيعي؛ منذ قيام الرأسمالية العولمية بتفكيك أغلبية المصانع الأميركية، مع الإبقاء على الصناعات الحربية والاستراتيجية؛ مقابل "دولرة النظام النقدي العالمي"؛ سعياً لتحويل المجتمع الأميركي إلى "مجتمع الصفوة والنخبة التخصصية" في عالم البنوك.
وقد أشار إلى ذلك "دونالد ترامب" في خطاب التنصيب بأنها "كدست الثروات والمميزات على حساب جموع الأميركيين"؛ حيث تدير المجتمع العولمي عبر عملية ترسيخ النمط البنكي وأسواق المال التي عممتها في أغلبية الدول؛ مستفيدة من حالة الهيمنة المطلقة على عنصر الاتصالات. وحددها أكثر بقوله : "السياسيون في بلادنا عاشوا برخاء لوقت طويل بينما الوظائف تقلصت والمصانع أقفلت".
** وكنتيجة طبيعية لـ "بَنْكَنَة" دور الاقتصاد الأميركي – أي جعله اقتصاداً بنكيا فقط، يطبع الدولار ويعممه؛ ويتحكم في فرضه عولمياً- فقدت "الطبقة العمالية الأميركية" الكبيرة العدد الكثير من المصانع التي كانت تعمل بها؛ لذلك حدث ما ذكره "دونالد ترامب"؛ إذ ضربت الدولة الأميركية أمراض البطالة؛ وانتشرت ظواهر الإجرام وتجارة وتعاطي المخدرات بوجود قوة العمل الكبيرة المتعطلة.
** لقد غنمت الرأسمالية العولمية الأميركية أرباحاً خرافية؛ نتيجة الخفض الكبير في كلفة وأعباء الإنتاج للسلع التي تنتجها في مصانع دول الأطراف؛ مقارنة بالتكلفة الأعلى التي كانت تنفقها في انتاج السلع ذاتها على الأرض الأميركية؛ نتيجة ارتفاع أجور وتأمينات العمالة الأميركية؛ وحقوقها المكفولة بحماية القانون الأميركي، والذي لا يمكن للرأسمالي الأميركي أن يتهرب من الالتزام بها حسب العلاقة التعاقدية؛ فضلا عن فعالية إسهام أنظمة العمل الإنساني التي تخفف من تأثيرات التوحش الرأسمالي بإعانات البطالة.
** كانت النتيجة الطبيعية لتجريف الصناعة الأميركية العملاقة بسبب العولمة؛ ونقلها إلى دول الأطراف حدوث خلل وجودي كبير؛ تسبب في ارتفاع حجم المديونية الأميركية؛ ووضع الدولة الأميركية في "مربع الإفلاس" بالحجم المخيف لسندات الخزانة الأميركية التي تشتريها الدول الخارجية وأبرزها الصين الشعبية الدائن الأكبر. ولعل ما سمي "الأزمة المالية العالمية" الأخيرة كشفت علة ذلك النظام الرأسمالي الأميركي البنكي، الذي اختلق قيمة افتراضية مخادعة بالمضاربة؛ وغير حقيقية للأوراق المالية أفقدت الأميركيين منازلهم ومدخراتهم وحققت نكبة مخيفة لهذا الاقتصاد في الداخل الأميركي، وانعكست كذلك على بقية الاقتصادات التابعة في مختلف دول العالم.
*****
لذلك هنا يتقدم اليمين الأميركي في موجة مد سياسوي كبيرة لتولي مقاليد الأمور في الغرب الرأسمالي؛ فهذا دونالد ترامب يلعب دور النسر الأميركي المشهور بشراسته في إعلان الخصومة وتحديد الأعداء الجدد الذين سيستهدفهم؛ وقد حددهم في ثلاثة عناصر:
- "الرأسمالية الأميركية العولمية" التي قامت بتجريف الصناعات الأميركية التقليدية إلى خارج الحدود الأميركية؛ عليها أن تعيد ما جرَّفته إلى موطنه الأصلي؛ لكي تعود أميركا الصناعية مرة أخري لإعادة خلق فرص عمل للمتعطلين.
- "الرأسمالية الأميركية المالية العولمية" التي اختزلت الاقتصاد الأميركي في العملة الورقية الدولارية؛ تسببت في تضخم افتراضي لقيمة هذه العملة لا يعبر عن أوزان حقيقية للاقتصاد الأميركي وأصوله.
- "الرأسمالية السياسية الأميركية" التي تعيش وتكتنز ثروات غير مبررة على الرغم من وجودها في واشنطن ونيويورك؛ هي التي تتولى هندسة المد العولمي وتغوله مقابل مكاسبها المالية والسياسية لا تفكر في طوابير الأميركيين المتعطلين بمشكلاتهم الاجتماعية المختلفة.
لذلك فإن الاستراتيجيات العولمية الأميركية أنتجت في الداخل الأميركي ضحايا لا حصر لأعدادهم من المتعطلين عن العمل المفقود؛ كما تسبب حكم الديمقراطيين برئاسة أوباما في إنتاج جيوش من المهاجرين بلغوا المليوني مهاجر يتدفقون إلى الحدود الأميركية؛ بجانب من اقتربوا وتجاوزوا الحدود الأوروبية، نتيجة سياسات الديموقراطيين المخادعة والمدمرة لتفتيت دولهم بالحروب وتوهمات نشر الديموقراطية؛ وهؤلاء في أغلبيتهم مسلمون؛ ومنهم من يوصفون بالإسلاميين الجهاديين؛ ونزوحهم إلى الداخل الأميركي كما يتخوف ترامب سيعني القبول بقنابل موقوته يجري تفجيرها لاحقاً بتوجيهات مما يسمى جماعات "الإسلام السياسي".
لذلك فإن الأجندة التي طرحها دونالد ترامب كانت تمثل برنامج عمل استراتيجي لليمين الأميركي والأوروبي وتحديدا البريطاني في الوقت اللاحق؛ وسيحاول توظيف كافة الأدوات التي تحقق أغراضه؛ ومن أجل ذلك سيقوم خارجياً بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران؛ ودعم مخططات وقوى مواجهة الإرهاب العقدي الذي تأتي في مقدمته ما تسمى "جماعة الإخوان المسلمين" و" داعش" وما شابه من التنظيمات التي أفرط الديموقراطيون الأميركيون في دعمها، وتوظيفها أدوات فاعلة في مخطط تفتيت المنطقة.
ومن هنا يمكن قراءة وفهم معنى ودلالة اقتراب ترامب من الدولة المصرية؛ التي تتحمل منفردة عبئاً هائلاً في مواجهة الإرهاب الذي تديره الجماعة المتأخونة؛ والاقتراب والتنسيق مع روسيا بوتين؛ التي تبذل جهدا خرافياً في مقاومة داعش وبقية الفصائل العقدية المشابهة في سوريا.
*****
وفي الجانب الاقتصادي - أميركياً - يأتي دونالد ترامب بسيناريوهات لم يتم الكشف عنها إلى الآن؛ لكنها ستقوم بما يمكن وصفه بــ "تجريف العولمة" إلى الداخل الأميركي؛ بعد أن "جرَّفت الرأسمالية الأميركية" صناعاتها وفككتها ونقلتها إلى دول الأطراف؛ وسيكون ذلك عبر إعادة إحياء "حركة التصنيع" في موطنها الأميركي من جديد؛ فهل سيحدث ذلك وفق معايير حمائية اقتصادية؛ وكيف سيجري حل مشكلة السعر الرخيص للسلع الواردة من الخارج ليشتري المستهلك بضاعة بلاده الغالية السعر... المعلومات لا تزال في حقيبة ترامب ولم يعلن عنها إلى الآن.
وهناك سؤال مهم: ماذا سيفعل دونالد ترامب أيضاً في قضايا الديون الأميركية التي تقبض على رقبة النسر الأميركي من "أصدقاء العولمة" مثل الصين وغيرها، وهذه مشكلة شائكة جعلت هذا الصديق الصيني يغضب من التباشير التي أسفر عنها ترامب؛ ومحاولته اتهام الصين بالتلاعب بالعملة؛ وكذلك الأمر بالنسبة للحلفاء القدامى في منطقة الشرق الأوسط.
*****
حقيبة "دونالد ترامب" كبيرة؛ لأنها حقيبة اليمين الأميركي المتعطش للسلطة؛ والذي يشعر بمآزق ضخمة أمام مؤشرات تؤذن بانقضاء العصر الأميركي؛ وصعود النمور الآسيوية؛ التي تمتلك الطاقة النظيفة؛ والكثافة البشرية المخيفة؛ والطاقات اللوجستية المميزة؛ فضلاً عن القدرة على التكيف وفق قوانين العصر العولمي التي يحاول رونالد ترامب ممثلاً لليمين السياسوي الأميركي أن يعدل حركته ليُلْحِقق العربة الأميركية بفعالية منتجة في جراره... فهل يفلح في القيام بتجريف العولمة مرة أخرى إلى الداخل الأميركي؟ احتمالات الإجابة شائكة... وهكذا يمكن أن نفهمه!!
"رأفت السويركي"
----------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق