السبت، 12 نوفمبر 2016

من "النبي يوسف" إلى "النبي موسى"... تفكيك الخطاب في "حوار الفرقاء"!!
----------------------------------------------------------------

يواصل الأستاذ الدكتور أحمد يوسف تجلياته الحافة بالنص القرآني المعجز؛ وهنا يُشهِر مُكْنَة أحد أسلحته المعرفية في خوض قضية جديدة؛ يحتويها النص لمن شاء أن يقرأ قراءة جديدة؛ ذات طابع سياسي ناعم.

أستاذنا الدكتور أحمد يوسف يلفت الانتباه إلى عدة مواقف يبرزها نصه الجميل؛ القابض على "السياسي عبر البلاغي" في حقلي المجال الدلالي لــ "النبي يوسف" و"النبي موسى":


- أولاً: "قدوم يوسف إلى مصر، كان حدثا جديدا وفتحا لحقبة زمنية طويلة لم يكن المجتمع المصري مستعدا لها ولا لأطوارها فيما بعد". وهذه العبارة كاشفة لمقدمات تحولات سياسية واجتماعية تبدأ العمل في مجتمع يدخل أزمة غذاء وجودية؛ تتهدده نتيجة عناد الطبيعة التي يسخرها الله؛ لتوفر الشروط الموضوعية للتغيير السياسي والاجتماعي المقبل؛ والاستعداد لها يكون بتوظيف التأويل؛ أي العلم العقلي للإشكالية القائمة.

- "لم يكن يوسف إلا وافدا طارئا على هذا المجتمع امتلك وسامة فريدة وسحرا أخاذا، كما امتلك موهبة فذة في تأويل الأحاديث والنفاذ برؤيته إلى المستقبل.". وهذه عبارة دالة على متغير موضوعي مستقبلي منتظر؛ وما الوسامة والسحر الأخاذ والموهبة التأويلية سوى التعبير البلاغي عن جماليات التحديث المرهون بزمنه السياسي الذي ينتصر على العلم التقليدي المهيمن لدى السلطة القديمة والتي تتكىء إليها في هيمنتها على أهل زمانها والرعية.

- "هيأت المسرح ليوسف المؤول ليكون اللاعب الوحيد الذي أنقذ البلاد والعباد من هلاك محقق، فاستقر ليوسف القياد وامتلك عرش مصر بعد أن صار أمينا على خزائنها". وهذه المقولة تثبت سببية انتصار "حكم العقل" على "حكم القول"؛ وما أحدثه عِلمُ يوسف هو الفعل المنتصر بامتلاك العلم؛ ومهارة العقل ببرامجه وتخطيطاته البرامجية؛ في تغيير الواقع للمجتمعات التي تشعر بالأزمة الوجودية
 - ثانياً: "لقد كان موسى أحد أبناء بني يعقوب الذين استقروا مع أهلهم في مصر، فهو ابن المجتمع المصري بامتياز وهو ابن جماعته أيضا بامتياز وهم بنو إسرائيل الذين لم ينصهروا انصهار كاملا في نسيج المجتمع..." وهذا الرأي كاشف سياسياً لطبيعة بني إسرائيل التي تحرر من مسلكياتها النبي موسى لاحقاً بعد التكليف بالتبليغ. فهم بالعرقية قوم منغلقون على ذواتهم وهويتهم؛ ويعانون إشكالية نفسانية لا تجعلهم يندمجون في محيطهم السكاني والاجتماعي.

- " لم ير فيهم المصريون إلا أنهم أناس غرباء يكفيهم من الفرص والموارد ما هو هامشي". ومن دون شك فإن هذه العبارة للاستاذ الدكتور احمد يوسف تكشف الصورة النمطية لليهود؛ وكيفية تعامل المجتمعات الحاوية لهم معهم؛ وكيفية تعاملهم مع هذه المجتمعات. إنهم يقدمون نموذج "مجتمع الغيتو" التاريخي!

- " جاء موسى ونشأ في بيت فرعون وتهيأت له كل السبل التي لم تتهيأ ليوسف من قبل... "، وهذه العبارة تذكرنا بالمبدأ الفلسفي " وحدة وصراع الاضداد"؛ الذي يؤكد أن كل ظاهرة تحمل داخلها كوامن فنائها؛ أو بمعنى آخر " نقيضها " والذي يوصف بقانون "الحركة والتغير".

- "واستطاع – موسى - بدعوته أن يحدث انشقاقا واسعا داخل البيت الحاكم أولا وبين الحاكم وبين شعبه ثانيا، وبين أبناء الشعب المصري". وأعتقد أن استخدام الأستاذ الدكتور أحمد يوسف لاصطلاح "الحاكم؛ بيت الحاكم" يدعم الفهم النازع إلى تلك المعلومات التاريخية التي تدور حول أن الفرعون وإن استخدمه النص القرآني؛ لا يعني الفراعنة المصريين القدماء؛ فهناك من العُلماء والمراجع ما يؤكد أنه كان من الهكسوس؛ كما كان "الملك" لقب حاكم مصر أيام النبي "يوسف" من غير المصريين القدماء. 

- " إن فرعون لا ينظر لدعوة موسى من زاوية الإيمان والتصديق أو التكذيب بل ينظر من زاوية أنه يمثل جماعة هددت ملكه وهددت التصور العقائدي الذي يحاول موسى أن يزحزحه". ومن دون شك فإن هذه العبارة تدعم هذه الفكرة جيدأ؛ لأن الفرعون المصري القديم كان "رجل دين ودولة" والدليل يمثله أخناتون بجذوره التوحيدية. فيما حاكم مصر كان يدافع عن مُلك عضوض بعَسْفه وظُلْمه!

- " ومثل السحرة في مملكة فرعون قوة مادية وروحية لايستهان بها مما جعله يحتكم إلى المبارزة بين موسى من جهة...". إن السحرة ينطبق عليهم هنا اصطلاح أهل علم زمانهم؛ والمؤكد أنه كانوا أهل خبرة في خداع الناس وإضلالهم؛ ومن قوة حيلتهم وصورتهم النمطية المكرسة تاريخياً وسلطوياً كانوا أصحاب فعالية محيطة بالسلطة؛ يتكىء الحاكم عليهم في شرعنة وجوده وهيمنته؛ فجاء عِلمُ موسى الإلهي ليكشف زيفهم؛ فخروا له ساجدين.

- " كانت دعوة موسى ملتبسة لدى فرعون بسبب ارتباط موسى بشيعته، ولم يكن بنو إسرائيل على غرار موسى عليه السلام...". ومن دون شك فإن هذه العبارة البليغة تُعمق الفهم بحقائق الواقع في زمانها الخاصة بالاشكالية الضخمة التي كانت تربط على غير الحقيقة صورة موسى بقومه؛ بكل سوءات صفاتهم الهادمة للعقيدة السماوية الحق؛ فكانت المشكلة التي قادت الحاكم ليتحول بعدها إلى "أيقونة" دالة على مصير الحاكم الظالم؛ الذي أنجاه الله ببدنه ليكون آية لمن يريد الموعظة.

*****

الاستاذ الدكتور أحمد يوسف أثابك الله وفتح أمامك آفاق هذا النص القرآني المعجز لتبدع أكثر، ولنلتمس منك المعذرة إذا كان في هذه القراءة أي شطط فنحن نحمل وزره. 

"رأفت السويركي"
----------------------

حوار الفرقاء

هل كان يوسف عليه السلام مجرد بضاعة اشتراها رجل من مصر ورعاها ونماها حتى آلت إلى ما آلت إليه؟ بعيدا عن قدسية الأنبياء واصطفاء الله لهم واختبارهم لتحمل رسالته للناس، أقول إن يوسف بقدومه إلى مصر عن طريق البيع والشراء أو بغيره، كان حدثا جديدا وفتحا لحقبة زمنية طويلة لم يكن المجتمع المصري مستعدا لها ولا لأطوارها فيما بعد. 

فقد كان هذا المجتمع مجتمعا متحضرا منظما تحكمه سلطة مركزية تقبع فوق قمة الهرم الاجتماعي والسياسي لها صلة بالسماء تستمد منها قدرتها على السيطرة والتأثير والتوجيه. وكان الشعب المصري يعتقد اعتقادا كبيرا في السر القوي الذي يربط هذه السلطة بالآخرة وبالدنيا وينظر إليها بوصفها الوسيط الذي لا غنى عنه لعبور الدنيا إلى الآخرة بسلام وأمان. وكان يكفيه هذا التصور العاطفي والعقلي لينظم رؤيته للناس والحياة والأحياء وليدرك أن حياة ما بعد الموت ما هي إلا الصورة التي يصنعها الإنسان في الدنيا قبل رحيله إلى عالم الغروب.

هذا المجتمع المستقر عقائديا واجتماعيا واقتصاديا، لم يكن بحاجة إلى من يدخل عليه بيته ليثير الأسئلة والشكوك فيما هو مستقر وثابت. ولم يكن يوسف إلا وافدا طارئا على هذا المجتمع امتلك وسامة فريدة وسحرا أخاذا، كما امتلك موهبة فذة في تأويل الأحاديث والنفاذ برؤيته إلى المستقبل. فيوسف امتلك سلطتين وهو الوافد الطاريء بلا جذور أو أصول ممتدة في تربة هذا المجتمع، سلطة الوسامة وكمال الهيئة، وسلطة التأويل واستشراف المستقبل. 

وقد أوقعته السلطة الأولى في حبائل الكيد النسوي فرفعته من مرتبة الوافد البسيط إلى مرتبة الفتى الذي تتنافس عليه نسوة المدينة وتغيرت النظرة الاجتماعية إليه بعد أن تبين للسادة عفته وأمانته وهو القادر على أن يستلذ بشراب الرغبة الجموح. 

ويبدو أن الظرف الاقتصادي الذي لم يشهد المجتمع المصري آنذاك مثله وهو سنوات الجدب والقحط التي هددت تماسكه وبنيانه الاجتماعي، هيأت المسرح ليوسف المؤول ليكون اللاعب الوحيد الذي أنقذ البلاد والعباد من هلاك محقق، فاستقر ليوسف القياد وامتلك عرش مصر بعد أن صار أمينا على خزائنها.

لقد أحدث يوسف تحولا كبيرا في بنية هذا المجتمع حين استدعى أهله من البدو ليعيشوا معه، ووضع المجتمع بأكمله على محك اختبار القدرة على التفاعل مع الآخر المختلف عنه من حيث درجة التحضر والفكر والذوق والامتزاج الاجتماعي. 

واستمر هذا التفاعل الحذر حتى ظهور موسى عليه السلام. لقد كان موسى أحد أبناء بني يعقوب الذين استقروا مع أهلهم في مصر ولا نستطيع أن نقول عنه إنه كان وافدا مثل يوسف الذي قال عنه الله " وكذلك مكنا ليوسف " فهو ابن المجتمع المصري بامتياز وهو ابن جماعته أيضا بامتياز وهم بنو إسرائيل الذين لم ينصهروا انصهار كاملا في نسيج المجتمع وظلوا يمثلون جماعة تقف على الهامش وتبحث عن الفرصة السانحة لاقتناصها حتى لو كانت ضد هذا المجتمع. 

ومن ناحية أخرى لم ير فيهم المصريون إلا أنهم أناس غرباء يكفيهم من الفرص والموارد ما هو هامشي. فلم يعتمدوا عليهم في المناصب الكبرى أو الأنشطة المؤثرة ولم يمنحوهم التقدير الاجتماعي ولا الثقة الأخلاقية. 

ومع أن بين المؤرخين اختلافا حول مصرية فرعون موسى، فإن الثابت أن الرجل الأول في مصر لم يكن يثق في أحد من جماعة موسى وكان يرى في وجودهم تهديدا لوجوده ولبقاء المجتمع الذي يعتلي عرش حكمه، فاتخذ من التدابير ما يقلل من نفوذهم ومن تعدادهم بالسيطرة على الحمل والإنجاب.

ومع ذلك جاء موسى ونشأ في بيت فرعون وتهيأت له كل السبل التي لم تتهيأ ليوسف من قبل واستطاع بدعوته أن يحدث انشقاقا واسعا داخل البيت الحاكم أولا وبين الحاكم وبين شعبه ثانيا، وبين أبناء الشعب المصري. فقد حظي موسى برعاية أهل البيت الحاكم على غير مراد الحاكم نفسه، وحين اشتد عوده لم ينس أنه واحد من جماعته وقتل نفسا دفاعا عن رجل من شيعته وخشي من العقاب ففر.

 ثم عاد ليدعو الحاكم والناس للدين الجديد الذي انقسم الناس عليه. ولنلحظ هنا أن تماسك المجتمع المصري ووحدته لم تتعرض لسوء أيام يوسف، وأن تمكين يوسف لبني إسرائيل في مصر لم يتوقف ولم يقل تأثيره بل ازداد وتضاعف حتى وصل إلى نهاية الحاكم بالموت غرقا وانقسام الناس ما بين مؤيد للحاكم ومؤيد لموسى عليه السلام.

في ضوء هذا السياق نستطيع أن نفهم جانبا من الحوار الثقافي والاستراتيجي بين موسى وحاكم مصر. هذا الجانب الذي نقف عنده ورد في سورة الشعراء التي ابتدأت بتكذيب الناس للأنبياء وعماهم عن كل آية ونكرانهم للشواهد الحسية الدالة على وحدانية الله، ثم انتقلت فاتحة السورة إلى تكليف الله موسى بالذهاب إلى فرعون لتذكيره بدعوة الحق وخوف موسى من بطش فرعون وأنه لايقوى وحده على مواجهته فاستجاب الله له بأن أرسل معه أخاه هارون.

وسياق الأحداث يشير إلى أن موسى يعود إلى مصر بعد أن فر منها خائفا يترقب بسبب فعلته وهي القتل وأنه حين عاد إليها كان قد مر عليه وقت طويل هو الوقت الذي أمضاه في رحلته في سيناء وزواجه من ابنة شعيب وتكليفه بالنبوة والرسالة. والحوار بينه وبين فرعون هو حوار الفرقاء. فموسي ينطلق من تكليف النبوة وفرعون ينطلق من موقع المسؤول عن ملكه وعن رعيته. 

فخطاب موسى مرهون بتاريخه عند فرعون وهو" ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين، وفعلت فعلتك وأنت من الكافرين" فموسى في نظر فرعون من الكافرين لفضله وما قدمه له من تربية ورعاية ومواطنة. 

ثم انحيازه لبني شيعته بقتل الآخر وفراره. إن فرعون لا ينظر لدعوة موسى من زاوية الإيمان والتصديق أو التكذيب بل ينظر إلى من زاوية أنه يمثل جماعة هددت ملكه وهددت التصور العقائدي الذي يحاول موسى أن يزحزحه وهو" ما علمت لكم من إله غيري" وأنه ملك هذه البلاد" أليس لي ملك مصر" فالطرفان مختلفان في المصدر والتوجه وهذا ما حدا بفرعون إلى تهديد موسى بالسجن " قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين" ولم يكن لدى موسى من قوة الإقناع إلا أن يكشف عن قدرة عصاه " قال أولو جئتك بشيء مبين. قال فأت به إن كنت من الصادقين. فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين".

ولجوء موسى إلى عصاه لم يكن من موارد قدراته ولكنه تأييد إلهي عظيم لم يعترف به فرعون الذي مازال ينظر لموسى بوصفه أحد الخارجين عليه وممثلا لجماعة تهدد ملكه ومجتمعه. ويبدو أن السحر كان مهنة بلغت شأوا عظيما من القوة والتمكن وخداع الحواس. ومثل السحرة في مملكة فرعون قوة مادية وروحية لايستهان بها مما جعله يحتكم إلى المبارزة بين موسى من جهة، والسحرة من جهة أخرى وقد أغراهم بالقرب منه والأجر العظيم "فلما جاء السحرة قالوا لفرعون أئن لنا لأجرا إن كنا نحن الغالبين. قال نعم وإنكم إذن لمن المقربين".

لقد انتهى هذا الصراع نهايته المحتومة. فلم يكن موسى طالب ملك، ولم يكن الحاكم معوزا لسلطة روحية إضافية، بل كانت دعوة موسى ملتبسة لدى فرعون بسبب ارتباط موسى بشيعته، ولم يكن بنو إسرائيل على غرار موسى عليه السلام، بل كانوا طامحين إلى المجد والملك مع أنهم ظلوا على حالهم الذي جاءوا به إلى مصر منعزلين خائفين مترقبين للفرصة السانحة وهي التعاون مع القوي العابر المسيطر وقبض الثمن. فكان فرعون ذا نظر استراتيجي بعيد يهدف إلى القضاء عليهم داخل مصر، أو إخراجهم منها كما أتوا ولم يكن يشغله الإيمان بموسى أو الكفر به. 

وهكذا ظلت ثقافة البدو لم تتغير بعد مكث طويل مع أسباب الحضارة والعمران، وظل نسل يوسف في مصر يخشى الاندماج والتعايش مع المصريين، ويترقب فرصة الانقضاض عليهم مع أن يوسف اعتلى عرش مصر بتمكين رب العالمين وموسى احتضنه البيت المصري فرباه ونماه ورحب به وبرسالته وآمن به ولكن قومه لم يكونوا كما أراد موسى. سلام على يوسف وموسى وعيسى ومحمد وسائر الأنبياء. 

ا د. "أحمد يوسف علي"
===========================
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق