الخميس، 17 نوفمبر 2016


  
            حين تتماهى القراءة مع تماهي الشاعر وجوداً!!
                 ---------------------------------------

من دون شك أمام هذه الإطلالة الكريمة على شاعرية الراحل الكبير؛ وفقيد الشعرية العربية "فاروق شوشة"، ينبغي الانحناء باحترام وإجلال كبيرين أمام الأستاذ الدكتور "السيد فضل"؛ وهو يمثل في هذه الدراسة حالة من التماهي الحميم مع المنتج الشعري لشاعر نشأت آذاننا على نبراته وهو يتغنى بالبيت البديع لـ حافظ إبراهيم: 

          أنا البحرُ في أحشائِهِ الدرُّ كَامِنٌ * فَهَلْ سَاءَلُوا الغَوَّاصَ عَـنْ صَدَفَاتي


في هذه الدراسة؛ أستاذنا الدكتور السيد فضل يقدم السهل الممتنع؛ مُحيطا برشاقة رؤيوية متمكنة من نص فاروق شوشة وتجلياته؛ وكأنه وهذا - إحساس معرفي خاص- يقتحم السياقات الخاصة للذهنية الذاتية لفاروق شوشة؛ ويمسك بآليات الشعرية لديها؛ فيقدم قراءة عميقة "إستبارية" أقرب إلى شخصانية فاروق شوشة؛ وهذه براعة في لُعبة القراءة؛ إذ أن الناقد القارىء البارع يمكنه أن يتماهى مع المنتَج النصي تماهياً يخترق به السياقات الذاتية التي يمكن أن يحيط بها المبدع خطابه؛ تكريساً لمقولة "المعنى في بطن الشاعر".

لكن الأستاذ الدكتور السيد فضل في هذه الدراسة لم يُظْهِر لمتلقي قوله إلاّ أنه مقتحمٌ ومحيطٌ بتمكن من لُعبة فاروق شوشة الشعرية حين يقول الشعر؛ فهو متماهٍ مع الشاعر المتماهي بالفعل مع شعره؛ ولا انفصام بينهما كما يقول: "إن شعر فاروق شوشة يقف شامخاً مميزاً بخطاب الشاعر وخطاب الشعر".

وهذه الفكرة يواصل تعميقها طيلة الدراسة باعتبارها سمة شعرية وشخصية للشاعر فاروق شوشة: "أنا الشاعر كثيراً ما تُعانق نحن - نحن الشاعر، نحن الشعراء، نحن الناس، نحن البسطاء، نحن النخبة، نحن الوطن، نحن الأرض....."؛ ليصبح حسب تلك القراءة المتماهية فاروق شوشة الواحد في الكل والكل في واحد؛ والمؤكد أن من اقترب شخصياً من الشاعر الراحل يكتشف هذه السمة لديه؛ والتي حفرت ظلالها في خطابه الشعري وفق ما رصده ناقدنا الكبير.

ويتألق الأستاذ الدكتور السيد فضل في توصيف فاروق شوشة بتوصيف نقدي حقيقي؛ كشاعر الكلاسيكية الجديدة غير المنفصل أو المنقطع عن الموروث الشعري العربي.
حقاً إنها دراسة ممتعة لقارىء بديع يرصد بتماهٍ كريم من أجل الكشف؛ حالات التماهي في شعر شاعر بليغ راحل. أثابك الله خير هذه الكتابة.
                                                                                      
                                                                                   "رأفت السويركي"
 ------------------------


 الشاعر الراحل فاروق شوشة
يقول الشعر ويقول الشاعر 

مدخل إلى قراءة شعر فاروق شوشة 
----------------------------------
د. السيد فضل 
--------------
 ا.د. السيد فضل

كان العقاد يقول : انظر إلى من قال لا إلى ما قيل، وليس عنده من هو أشد خطأ من القائل: انظر إلى ما قيل لا إلى من قال. وروجع العقاد فى انحيازه العتيد المعاند للشاعر، وبان أن صرامة الإجراء النقدى العقادى وصلابته تعود إلى عبقرية العقاد لا إلى عبقرية الإجراء النقدى ذاته. 

وصرفت الهمم بعد ذلك إلى ما قيل ، وبان الشاعر وظهر لدى كثيرين وهم يحسبون أنهم ينظرون الشعر. وقد ذهبت سكرة اعتداد كل فريق بمنهجه أو مذهبه أو نظريته أو ما شاء لنفسه من مصطلحات، وأتت الفكرة لنقول نحن الآن مع شعر فاروق شوشة: انظر إلى شعر الشاعر وشاعر الشعر معا. وقد اخترنا مدخلا لقراءة هذا الشعر أن ننظر فيما قال الشاعر وقال الشعر فى القصيدة الواحدة والديوان الواحد والأعمال الكاملة، ذلك أن شعر فاروق شوشة يقف شامخا مميزا بخطاب الشاعر وخطاب الشعر، وقراءته بعيدا عن نقد مصكوك مكرور يطلعك على هذه الخاصية على نحو فريد قل أن يشاركه فيها غيره من أبناء جيله ممن توقف بهم براق الشعر أو من واصلوا فى طريق الشعر، حتى إنك لتحسب أن شعره شعر الهم الجليل وهمه هم الشاعر النبيل، مستخلصا هذه النتيجة من قراءة متأنية لمجموع شعره، نقدم بعضا منها فى الصفحات التالية : 

1-حوار الشعر والشاعر بين أنا ونحن

تختصر أنا الحس الرومانسى وتحاصر الشاعر داخل ذاته، وتختصر نحن الحس الكلاسيكى وتدفع الشاعر للخروج من هذه الذات ليحسن رؤية العالم من حوله. وقارئ شعر فاروق شوشة الراغب فى الكشف عن مخبوء هذا الشعر وخصوصيته يلفته أن أنا الشاعر كثيرا ما تعانق نحن (نحن الشاعر، نحن الشعراء، نحن الناس، نحن البسطاء، نحن النخبة، نحن الوطن، نحن الأرض..... ) فى أكثر هذا الشعر بلون مميز من التماهى يتجاوز فيه الشعر والشاعر كل معانى الالتفاف الموروثة والمصكوكة فى دروس البلاغة العربية القديمة .
وقد يمكن أن يفسر هذا الوضع الشعرى بما يحرص الشاعر نفسه على إبرازه من حديث خارج الشعر عن رغبته فى أن يكون صوتا شعرياً منتسبا لذات شعرية تسعى لحلم الانخلاع والابتعاد ببصمة خاصة تستدعى جلوات الروح وإشراقات القلب الإنسانى، وفى الوقت ذاته مع عدم التفريط فى الانتماء لشجرة الشعرية العربية بأغصانها الملوحة دائما الوارفة أبداً، الخضراء لا تبلى خضرتها، تعطى ما تشاء لمن يشاء.
وقد التقط النقاد بوح الشاعر هذا، خارج الشعر، وكان من اليسير أن تلتقط لفظة هنا أو صورة هناك ينتجها الشاعر من أحجار النص القديم الكريمة لتوكيد مغزاه فى ضرورة وجود حوار وجوار بين الصيغتين، بحيث يلازم الشكل الجديد فى تدفقه وفتوته وجيشانه وحرارته الشكل القديم فى رصانته وصقله، فى مساحة كبيرة لصبوات الأول وانطلاقه ورشاقته، ومساحة محسوبة للثانى تناسب وقاره ورزانة خطواته. كان الشاعر فيما نحسب وهو يبحث عن كلاسيكية جديدة يبحث فى الواقع عن حوار شعرى بين أنا ونحن، أنا الجديدة ونحن القديمة، وقد اهتدى بالشعر إلى لون من التماهى بين الصيغتين صنع هذا الحبل السرى الذى يصل الشاعر بتراثه العظيم فى ذروة عمل هذا التراث، الذى بدا فيه الشاعر حكيما نبيا وساحرا مرشدا يتقدم الجمع رافعا رايتهم ينوب عن الصامتين ويلهم المتكلمين، يرى الجميع ببصيرته ويقفون خلف حدقته، يحمل سيفا لعنترة وراية حكمة وسلام بيضاء لزهير يطلب ما لا ينال مع المتنبى، ويعيد بناء الكون مع أبى العلاء، لا يرى الفردوس إلا فى وطنه مع شوقى.
هذا الحبل السرى الذى تكشفه قراءة الشعر يجعل من أنا رقيبا على نحن ويجعل من نحن موضوع أنا وشغله الشاغل ومصدر حزنه النبيل الدائم. إن صور التماهى بين أنا ونحن فى شعر فاروق شوشة توشك أن تكون عنوانا للبث الشعرى فى مجموع أعمال الشاعر، ودليلا لقارئ هذا الشعر، فهذا الانتقال الحر من أنا إلى نحن يتم فى ديوانه الأول كما يتم فى ديوانه الأخير فى تكرار سيميائى يلفت قارئ هذا الشعر الملازم لقراءته والباحث فيه عن كشف .
ونبدأ بصيغة (أنا-نحن) وفيها يبدأ البث الشعرى بحضور قوى لأنا الشاعر وإغلاق لهذا البث بحضور قوى لنحن، ونسبة الورود عالية تطالعها فى قصيدة زيت ونيران، حيث يبدأ الشاعر القصيدة بخطاب جهير لأنا على النحو التالى :
خاشعا أسترق السمع
إلى الباب اتجهت
حاملا أمسى وبوحى
..........
ويستمر الخطاب الشعرى بهذه الأنا وفى مفترق الطرق الشعرية بالقصيدة تبرز نحن محتوية أنا السابقة معانقة إياها :
نحن فى يومك
تاريخ
نحن فى يومك
أحزان عميقات
..
نحن فى يومك
إعصار
..
نحن فى يومك ثأر
يمسح العار
والموت
( الأعمال الشعرية الهيئة المصرية العامة للكتاب 90-2)
أنا فى هذا الشعر ليست أنا ناجى أو الهمشرى أو على محمود طه لأن أنا هؤلاء فى الغالب تميز بين المتكلم والآخر تدفع إلى غربة انقطاع، على حين تأتى أنا فاروق شوشة لتدفع إلى غربة ولكنها غربة اتصال، تصل نحن فى الشعر العربى من الشاعر الجاهلى إلى شوقى العظيم. كما تطالع الصيغة فى قصيدة الجبل؛ حيث يراوغ الشعر والشاعر بالحديث عن فيض للمشاعر تتصدره أنا، ويغلق البث بنحن تحمل النتيجة وتسدل الستار عليها حيث لا يبقى الشاعر وحيدا :
قلت :
أستأنس الآن هذا الجبل
ثم أبنى من الصخر بيتى
...
صاغرا عدت من رحلتى
كاسفا أتساند
..
هل أستجير بحرمة هذا الجدار
وأسبح فى صلوات الكشوف
وينكشف الشعر عن نحن كثيرين بصحبة أنا فى ختام القصيدة تجمعهم نار واحدة حارقة يلفهم القلق مع إحساس المطارد/ المطاردين ودوا لو كانوا جبالا ليبقوا :
هل نحن منها
هل سكنتنا
..
آه كيف نصدقها
وهى تقتاتنا
ثم تقذفنا
لمحال خبئ وراء محال
مدن نشتهى
لو تكون يبابا
وأنا جبال .
(568-2)
كما نطالعها فى قصيدة حديث اليمامة تسيطر فيه أنا على مطلع البث وجسم القصيدة نفسه :
وأنا أجتاز أفقا من شباك
..
وأنا
حذراً أخطو إلى موعد صحوى وانتشائى
وأنا أدلف من بين الشرايين وأرتد
ويغلق البث الشعرى على نحن تدعو لقتال دونما نظر إلى ربح أو خسارة، إنها جسارة استمدتها أنا من نحن :
فلنقاتل
إنه اليوم الذى يأتى فنعطيه ولا نملك رداً
قادم مهما ظنناه ترجل
..
آه يا يوم الحساب
كم تنظرناك كى تولد من قلب الشرارة
..
فلنقاتل
دون حسبان لربح أو خسارة .
(172-2)
ويأتى هذا التماهى بين أنا ونحن فى صيغة ثانية صورتها المتكررة: أنا- نحن- أنا وتمثلها قصيدة هئت لك التي جعلها الشاعر عنوانا للديوان حيث يبدأ البث الشعرى بأنا الموغلة في البعد عن نحن توشك أن تتحلل وحدها:
أتدفأ فى ذاتى
أسمع قعقعةً وأزيز رياح محمومه
أدرك أن عظامى عريت منى
جلدى يساقط مسموما
..
وقذفت بنفسى فى اللهب الجامح
ويتحول البث الشعرى بعشرات من أنا تتماهى فى نحن، فى رحلة البحث عما لا ينال فى زمن معطوب، لتتحول هئت لك فى عنوان القصيدة البارز وفى عنوان الديوان إلى هئنا لك فى بنية الشعر العميقة من وراء القناع:
العمر يصب بنا فى التيه
يجرفنا مد التيار
وتحرقنا لغة الأشعار
ونحن نحاول ملكا
نساقط هلكى
ويغلق البث الشعرى بأنا متهالكة يائسة وحيدة محبطة :
ولى زمن النفط
وجاء زمن القحط
وصار القرصان مظلة
عبثا تتدفأ فى ذاتك
أو تنجو يوماً بحياتك
(103-2)
وتطالع الصيغة نفسها مع ما تطالع من تكرارها فى قصيدة جلوة ليل، حيث يبدأ البث الشعرى بأنا الباحثة عن نور اليقين :
كان طريقى يحمل خطوى ويقربنى
وأنا أتلفت بحثا عن نور يقين
..
يحملنى الليل ويأخذنى فى بستانه
ويتحول البث إلى نحن تملأ المشهد الشعرى:
من أى سبيل تأتينا
وبأى رداء تكسونا
فتضئ عيون ليالينا
ويغلق البث على أنا منفردة متضرعة وآملة:
يا فيض النور أضئ دربى
عطر دنياى .
(89-2)
وهناك صيغة ثالثة لهذا اللون من التماهى صورتها المتكررة هى: أنا نحن- أنا نحن. وتبدو هذه الصيغة مكتملة فى قصيدة فى أرض رفاعة حيث يبدأ البث الشعرى بأنا تبحث عن موطئ قدم:
أبحث عن موطئ خطواتك
أتنسم عبقاً يسرى حراً فى شرفاتك
ويتم تحول البث إلى نحن (الشعرا، الكتاب، المفكرون، المنظرون، المنفذون، المصلحون....) ودوا لو أضاءوا برفاعة :
يوقظنا وقد الفطنة من لفحاتك
نتخطى قيد العصر
وتعود أنا معترفة مقصرة ومفكرة ومقارنة :
وألامس ذاتى فى ذاتك
وأعرض وجهى فى مرآتك
ويغلق البث الشعرى بنحن مدانة عجزاً فى مفارقة يبرزها الشاعر فى هذا الاعتراف الأخير المأساوى، وفيه يبدو الجميع فى هيئة سيزيف الذى لا يبرح مكانه على حين يرى الآخرين على قمة الأولمب :
ها نحن نعود إليك
لنسافر فيك
ونبدأ ثانية رحلتك المرجوة للنور
نبدأ من مطلع كلماتك
(48-2)
أما الصيغة الرابعة وصورتها المتكررة هى: نحن أنا- نحن أنا فنطالعها فى قصيدة عن الحب والحرية حيث يبدأ البث الشعرى بنحن:
تبدأ الأشياء الصغيرة فى حسباننا أصغر مما نتصور
ثم تمتد وتكبر
فإذا عيناك فى الدنيا، اتجاهات شمالى جنوبى
وإذا اللحظة فيما بيننا
عمر من الأزمان يطوينا
..
وتعود أنا لبث شجون الحب :
ألأنى حين أحببتك
أحببت جناحين يطيران
..
وتظهر نحن سافرة :
ما الذى نصنع بالحب إذا كان اغتيالا للخلايا
دون أن يرتج فينا كل بركان الحنايا
..
ويغلق البث بأنا مهددة متوفزة ممزقة :
كما امتدت ذراعاى وأوشكت تناءيت
..
وأنا المشدود كالأوتار
كالإعصار
كالتيار
شدا
ولقد قاربت جداً
إنى قاربت جداً
(50-2)
وجاءت حركة الفعل فى هذه القصيدة على النحو التالى :
نحن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نتصور- يطوينا- نتغير- أرانا- تجاوزنا- اخترقنا- نجتاز- نعبر ...
أنا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أحببتك- أحببت- تنفست- عانيت- أنشق- ألقاك- أقوى- أبقى- اجتاز
نحن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نصنع- يرتج فينا- امتدت حوالينا
أناـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أعرف- أوشكت- تناءيت- قاربت
والملاحظة العامة فى التحولات السابقة بالصيغ السابقة أنها تبدو فى أظهر تجلياتها حين يكون موضوع القصيدة هو الشعر ذاته بمفارقاته وانكساراته وبراءته وآماله، وتمثل قصيدة شوقى هذا النموذج تقرأ به عشرات القصائد فى شعر الشاعر، حيث تبدأ القصيدة بأنا منفردة :
خلقت ورائى سيل ركاكة هذا الزمن الشائه
عجمة غربان الشعر
وعقم الأيام
..
أتحسس خطوى عبر مدارج ساحاتك
أتلمس .. وأطالع .. أتسمع
وحين يتم التحول إلى نحن نرى جمعاً من الشعراء :
يعيينا هذا الصرح الشامخ
ننبش فيه، ونحن نطوف
حجرا حجرا
نتقرى لونا
..
شوقى
هل تملك وقتاً لتحاول أن تقرأنا
..
شوقى
فى قلب الوحشة نفتقدك
ويغلق البث الشعرى بنحن مدانة رافضة على هيئة سؤال :
فهل نستسلم للآخرين
نهادن ليل الذل
ونعصر عنقوده
(395-2)
أما عن صيغة أنا (الشاعر) يخاطب نحن (الشعراء) خطابا خالصا فهى صيغة طاغية وملحة فى شعر فاروق شوشة حتى إنك لتحسب أن الموضوع هوهم الشاعر المؤرق يختفى فى قصيدة ليلوح لك فى اثنتين، نقرأ فى شعر مبكر من قصيدة تشكيل قوله :
يا رفاقى الذين استطابوا خيوط المهاره
واستظلوا برشوة هذا الزمان المخيف
وارتضوا سكة لاغتراب الحتوف
واقتسام الرغيف
وعدنا قائم
فالبسوا كل لفظ
واستقيموا وراء الحروف
وابعثوا فى قواديسها خيط ماء
جدبنا شامخ
والوجود استعاره
(160-2)
كما لك أن تقرأ قصيدته البديعة انتساب وفيها تسيطر نحن الشعراء حيث لا مكان فيها لفرد، ولك أن تعتبرها راية من رايات الشاعر والشعر، يشرعها علما وسيفا، تبرر هذا التماهى العجيب بين ذوات الشاعر وذوات أقرانه ودوا لو انتسبوا للكلمة حتى ينتصب الشعر ويعتدل الميزان :
قيل : اعترفوا
قلنا : أجرمنا فى حق القوم
فلم نطنب فى القول
ولم نظفر ببراعة أى استهلال
..
فخلطنا الأوراق
وخالطنا الأسواق
..
قيل : انصرفوا
قلنا : لن نبرح هذه الساحة
حتى يندحر الإفك
وحتى ينبلج الفجر
وحتى ينتصب الشعر
ويعتدل الميزان
(100-2)
وفى هذه القصيدة تبدو خريطة الأفعاللا مكان فيها للشاعر وحده على هذا النحو من سيطرة نحن (الشعراء) :
ننتسب- أجرمن- لم نعرف- لم نطنب- لم ندرك- لم نكسب- لن نبرح ... وفى كل ما مربنا من أشكال التماهى بين أنا ونحن نلاحظ كيف اهتدى الشاعر إلى شكل هو موضوع الشعر وإلى موضوع هو شكل الشعر ليصل الشاعر إلى قسمة بين ما يقوله الشعر وما يقوله الشاعر فى النص الواحد وجملة النصوص .
2-الغنائى والدرامى حوار وجوار
يربط النقاد الشعر الغنائى والملحمى بالماضى، ويصلون الدراما بالحاضر والمستقبل، ولهذا يقبلون الحاضر والمستقبل فى الشعر ضيفاً غير مقيم، فى سعيهم للفصل بين العناصر الثلاثة. ومولانا الشعر كما يدعوه بحق فاروق شوشة يأبى أن يحصر فى قمقم القسمة المدرسية إلى غنائى وملحمى ودرامى، ذلك أن التمازج والتماهى بين هذه العناصر مسوغ بميلادها فى رحم الشعر، حيث، ولد الغنائى معانقاً الدرامى والملحمى اشتباك الماضى والحاضر والمستقبل فى خلايا الزمن. إن الفصل بين الماضى والحاضر والمستقبل أظهر من أن يتصور فيه الماضى بلا حاضر أو مستقبل، وأظهر من أن يتصور فيه الحاضر بلا ماض أو مستقبل .
ويبدو أن الزمن النحوى المسئول عن هذه القسمة فى أذهان الناس مسئول عن مطاردة الزمن الفلسفى الذى يسوغ وجود الماضى فى الحاضر والحاضر فى الماضى كما يسوغ وجودهما معاً فى المستقبل .
وبرغم وضوح هذا التماهى فى الزمن فقد آثر النحاة القسمة الشكلية فتراهم يعتذرون وهم يفسرون قوله تعالى: وكان الله غفورا رحيما، وقوله تعالى: إذا جاء نصر الله والفتح. إن الفصل بين الغنائى والدرامى والملحمى أشبه بفصل النحاة بين الماضى والمضارع واعتذارهم أشبه بقبول النقاد للدرامى والملحمى ضيفا عابرا على الغنائى .
يرفع شعر فاروق شوشة راية التمازج والتماهى بين العناصر الغنائية والدرامية والملحمية، وهو بذلك يتجاوز الفهم المدرسى المشار إليه سابقا مستوعبا روح العصر، فها نحن فى الموسيقى فى توافق وتناقض ومد وجزر بعدما كانت مجرد نغمة أحادية نستمتع فيها بالرتابة والتكرار، وها نحن حطمنا مع "بيكاسو" المنظور الواحد واستمتعنا بفوضى المناظير و تشبثنا بها، وقلنا من قبل مع "كانت" وداعا أيها المنطق المتعالى الأحادى ومرحبا بمنطق نوعى متعدد الوجوه يتواضع لكشف يومى للوجود الإنسانى .
ومن حق الناقد أن يبحث عن الدرامى فى الغنائى وعن الغنائى فى الدرامى وعن الملحمى فيهما معاً، ولنا الآن أن نتحدث عن الشخصيات فى شعر فاروق شوشة. نعم الشخصيات فى شعر فاروق شوشة. وإذا كان تاريخ الشعر الغنائى يبرز الشاعر باعتباره بطل القصيدة وشخصيتها البارزة، فإن الشعر الحديث الذى وعى التمازج والتماهى يربى دائما فى قارئة الملازم البحث عن الشخصية فى الزمن والحدث والمكان والموضوع، وكما أن كاتب الرواية مثلا يصنع من الواقع شخصية لتصبح واقعا آخر أشد تمثيلا وتركيزا وتكثيفا ودلالة من هذا الواقع، يصنع شاعرنا المعاصر بأدوات الشعر هذه الشخصية. إن وجود الشخصية فى الشعر المعاصر مصنوعة أو مستدعاة من التاريخ والتراث مسوغ بما يميل إليه الفكر الحديث أيضا من شخصنة الأشياء والأحداث، فلم نعد فى الغالب نسأل عما حدث قبل سؤالنا عمن أحدثه، وصرنا نرى "الشخصية فى الشعر لأجل هذا السبب بارزة أو مختفية، وصرنا كذلك نبحث عن مثل هذه الشخصية.
وكان وعى شاعرنا بالقضية واضحاً، فأنت تقرأ الديوان بأدوات قارئ الشعر، ولكنك لا تنكر أنه يترك لديك مع ما يترك شخصيات ترسمها الكلمات تراها مميزة الملامح . وقد اخترت أن أقدم لك عددا من الشخصيات الواردة بمجموع أعمال الشاعر للتأمل، والبحث عن شخصيات أخرى تكون جديرة بالتأمل والكشف :
المحارب القديم !
-أنا المحارب الذى عرفته المفتون بالنزال
منكسرا أعدو إليك
مشدودا كالأوتار
كالإعصار
كالتيار
شداّ
..
وذقت انكسارى
ولازمت دارى
(57-2)
هذا المحارب الذى كان يوما ما محاربا تلقاه فى شعر الشاعر فى لوحة هنا أو مشهد هناك يتسع أو يضيق ولكنه يكفى لأن تبحث عنه فيمن حولك، لا تخطئ الإشارة إليه إن رأيته .
المناضل !
وقد تزيا وجه محتال
وأمسك رمح عنترة
وصال وجال
منتشيا بزهو وانتصار
وراح يطيل فى حبل السفاهة
والخرف
لا يستحق إشارة
فوفر إصبعك
(511-2)
هذا المناضل ضيف دائم فى شعر الشاعر، وبإمكانك أن توفر عينك كما وفر الشاعر إصبعه حتى لا تراه / لا تراهم .
المناضل
يظل وحيدا يغنى .............
ويقبع مؤتنسا بالحكايا
فتفجؤه الطلقة القاتلة
(375-2)
الأستاذ
يقدم ذوب القلب فداء للمقتول
ويكاد يلاحقنا عشقا
فيحى أجمل ما فينا
يستوحى الأنبل والأبقى
فإذا كفاه المثقلتان
والصدر الريفى المجهد
يحنو
منكفئا فوق مواجعنا
ليهدهدنا ويشكلنا
ويلم شتات هزائمنا
ويعيد الفارس فينا للميدان
(214-2)
بحث الشاعر عن الأستاذ فوجده بين الرغام ذهبا، يتحلق حوله المريدون يحنو عليهم ويعيد الفارس للميدان، وجده الشاعر فاهتز وانتشى، ويبقى أن يجده قارئ الشعر، فى متاهات حياتنا المعاصرة .
وأستاذ !!
كان يؤدبنى ويقول:
يا ولدى
هذا قدرك
أن تحيا فى سيرك العصر ولا تنجو
تتعثر فى قبضة مهمازيه وسطوة جلاديه
تسقط ما بين الآهة والتصريح
فى زيف اللهو ولهو الزيف
وتقول كلاماً محزوناً وعليلاَ
يتدحرج من شفتيك إلى آذان معوجة
......
.. يا ويلى مفجوع فيك
أو حقا هذه كلماتك
والوجه الشاحب آياتك وسماتك
والصوت الراعش نبراتك
(584-1)
السجان !!
يطارد هذا الطير الشارد
ويقص جناحيه
ويحرمه حلم الطيران
ويظن بأن الدنيا طوع يديه
حين تغلق كل الأبواب
ويحكم كل الجدران
ساعتها
يحجب ذاكرة الآذان
(190-2)
الشاعر :
-من حلمه فى يومه وغده البعيد
حسوة منقار
وحشو فم
ولغة جامحة بريئة
لاتنطفئ
تحت فداحة الألم
(62-2)
-يحمل كرة النار يقذف بها زمنا ويبايا
وشمسا تعرت ودروبا تفرقت
وقافلة للموت
كرة النار فى يديك
فمن ترمى بها الآن
(226-2)
-أخوض فى الزحام والمناكب
وغابة الأظفار والأنياب والعقارب
من أجل أن أعود غائما
مشتعلا بالغضب النبيل
(67-2)
النيل
هذا الشيخ المحنى الظهر
احدودب
ثم تقوس عبر الزمن
العمر امتد
وليل القهر اشتد
حمل العكاز وصار يحدق فى الشطاّن
وفى البلدان
..
وتنحنح مزدردا غصته
عاود دق الباب
الناس نيام
ألقى النيل عباءته فوق البر الغربى
ونام !!
(219-220)
-إنه مد من عيون السماء
على كوكب الأرض
فى قبضة الباطشين العتاة
وعمر بحجم الدهور
هو ذا شاخص
هم يظنونه يتراجع
ها ظله يترامى
وموجاته تتدافع
فى موكب الغضب المستطير
فاض من دمع إيزيس
منحدرا فى الزمان
ومخترقا فى الشعاب
ومستلقيا بأمان
ويخاطبه الشاعر صديقا ورفيقا ودليلا :
...
كيف أكون جديراً بقطرة مائك
(542-513)
نيل الشاعر والشعر هنا لم يعد نجاشياً له هيبة ملك وزهوة إمبراطور، وإنما صار كما ترى شيخا عجوزا أحدودب منه الظهر، وفاضت منه الدموع المقدسة ، ولعله نام نومة الموت ...
كيف أكون / نكون جديراً بقطرة ماء منه ؟ !
رامبو
طفل نزق
كرة من لهب
وعل برى
طفل فى ملكوت الله
يعاين بعض فساد الكون
هو ذا
يمسك قلما
يشطب تاريخا
ترصده عين مخترقه
(128)
تحول رامبو إلى مكترث تتابعه عين مدربه على الاختراق، جاء رامبو ولسنا فى انتظاره كالعادة، لكنه ملاحق متابع مخترق .
زعيم .......
ينتزع من ذاكرة النهار معناه
وينتشى إذا مشى فوق ضحاياه
أو ارتوت من جثة التاريخ عيناه
ومن خريف قادم يكسو محياه
الله .. كم بحر البيان واللغى
إذا استعاذ أو نطق
وانشق باسمه الفلق
ونام لم يعبأ
ولم يراوده قلق
(179)
الجميلة ! !
كانت على الشط حائرة
تستدير كأن البلاد تطاردها
والعيون تلاحقها
وهى واقفة ترتجف
قيل :
كانت هنالك عارية
خرجت من فم النهر
وانفلتت من عناق الحبيب المراوغ
تبحث فى ورق التوت
عن ساتر ....
تغطى بكلتا يديها
وتخشى الفضيحة
قيل :
استبد بها الوقت
فانطلقت لا تبالى بما يهمسون
ومن ينظرون
ومن يلعنون
...
فماذا يبقى لها غير طعم المرارة
عبأت رئتيها بفيض النسيم
ومضت نازفة
(502)
الجميلة عنوان لديوان كامل من شعر الشاعر هى بطلته والشخصية الرئيسية فيه تنكشف عن قناع يخفى الوطن، فى أسمال وعرى، ولكنه قناع شفاف تكشفه قصيدة لاحقة بعنوان وطن أم امرأة :
هكذا استطاع الشعر والشاعر بهذا التركيز الموحى والتكثيف المصفى واللقطات المركزة تقديم الشخصية في سطور قليلة بأقنعة الشعر متجاوزاً أزمة الكثير من شعر الحداثة حين يقف معلقاً بين الفضاء والشاعر. إن ربط الشعر بالشخصية أو الشخصيات منح الخطاب الشعرى فى الحقيقة ما لا يستهان به، منحه القدرة على البقاء فقد تذهب الصورة، ويذهب التعبير وتذهب المراوغة بجماليات اللغة، وتبقى الشخصية، لتثير فينا عواطف شتى من القبول والرفض والجدل. ولنا أن نأخذ اعترافات نقاد الدراما بشئ من الجد، وهم يقرون أن الشخصيات أهم من الحبكة حتى إنك مع أوديب ملكا لا يبقى لديك سوى أوديب ومع هاملت لا يبقى إلا هاملت من هذا النص العظيم لشكسبير، أما الحبكة وبقية عناصر الدراما فإنها تكون قد اختفت وراء الذاكرة، ويبقى الوضع ذاته إذا ما تحدثنا عن الرواية حيث يتقدم سيد أحمد عبد الجواد فى الثلاثية ليكون عنوانا لها، وكتلة الذاكرة الحية فيها، مع عدد بعينه من شخصيات الثلاثية . إن ما تصنعه الشخصية فى الشعر ليس بالقليل، إذا ما كان على هذا النحو من القدرة الشعرية التى يتماهى فيها الغنائى مع الدرامى مع الملحمى، كما نطالعه فى شعر فاروق شوشة، حيث يصل بك الشاعر إلى وجوه هذا الزمان صانعة أحداثه وآلامه وانكساراته وإحباطاته، وتلك الوجوه الأخرى تقبض على جمر الرؤى والآمال والأحلام :
ينحنون فى ترابك
ينتشرون فى شعابك
ويقسمون فى رحابك
بأن عهدك الوثيق لن يهون
قد لا تكون أى شئ بعد يرتجون
فقد تشققت حلوقهم، ولم يعودوا يهتفون
وانسحقت أحلامهم تحت خيول الظلمة
وأصبحوا
حين يغنون وحين ينشدون
يستحون
وإن أفاقوا مرة وجربوا ... يفسرون .
(456-1)
تبقى هذه الوجوه، وتتقدم فى الذاكرة على ما نولع به من أشكال الشعر وأدواته وألعابه. وهناك ما يميز تقديم الشاعر للشخصية فيما مر بنا من شخصيات مفردة حيث ترى تنوعا بين قبول ورفض وحيرة، ولكنه حين يعمد إلى تقديم الجمع من الشخصيات مستخدماً صيغة "هم" تأتى جميعها بعيداً عن أمل الشاعر والشعر موضوع أسى وحزن وغضب ورفض، من صيغ الجمع هذه من نسميهم الغافلين فى قصيدة رؤيا :
فى عماياتهم بين بين
فآنا يرون
وآونة لا يرون
(570)
ومنهم الأخوة الأعداء/ والأعداء الأخوة فى مساحة عريضة من أعمال الشاعر :
-هم الأخوة الأعداء
يخترعون فى لغة الكلام
مدافعا
وقذائفا تصمى
وموتا للبرابرة الغزاة !
(548)
-يخفون الخناجر فى الجيوب
نصالها تهتز فى وقت
وتنتشى بعد الفراق
تطلعا لدم يراق
-يستبقون لهذا الحفل
خناجرهم تحت عمائمهم
وعمائمهم فوق رؤوس يملؤها الغدر
جيوبهم فوهات بنادق محشوة
يسطع فيها وجه شائه
وضراوة أحقاد
طالت
( 536-548-553-570 )
ومنهم شعراء :
تحاول أن تتزيا برداء الشعر
انطمست فى اللوح
شظايا
وبقايا كلم مردودة
..
فى أيدى الشعراء المنسلخين
مذاقاً وهوية
ينكسر النصل
وينكسر عمود الشعر
(399)
وفرسان ! :
يقتحمون الليل لساعة حظ
فإذا طلع الصبح عليهم
صاروا ملء الجو هباء
منخوبين من الإعياء
(441) 

3-خطاب القناع وخطاب القرار 

خطاب القناع خصوصية جوهرية فى لغة الشعر المعاصر، وتأتى هذه الخصيصة وكأنها الحتمية: يقوم الشاعر بصنع القناع ونسب الإيحاء بقدر طاقته الشعرية. ولئن بدا الشاعر وكأنه فى وضع الضرورة فاراً من مباشرة أو اختراق، فقد أجاد توظيفه والعمل به ، ليمنحه هذا القناع بصمة سحرية تصنع له صك الخلود. وقد بان القناع فى أبهى صوره وأقدرها على صنع شعرية لافتة فى شعر أمل دنقل وصلاح عبد الصبور، وبان كذلك بأن الخطاب النثرى لدى الشاعرين الكبيرين يلازم هذا القناع فى كمياء شعرية متقنة النسب محسوبة المسافات والمساحات والأوزان، فكان هذا الشعر الموحى المجلجل الذى أعجب به فاروق شوشة، وها هو يصنع لنفسه القناع محدداً النسب فى مسافات ومساحات وأوزان، ويكون هذا القناع كثيفا ويكون رقيقا ويكون شفافا، ويكون مجرد إيماءة أو إشارة أو إسقاط، وقد يضع الشاعر القناع ويكشفه أو يشير إليه، كأن ليس هناك من قناع، واللغة فى أنامله مطيعة مروضة، يشكلها كيف شاء، لما يشاء، إلا أن يكون لا مكان لقناع ولا فائدة من إيماءة ولا معنى لإشارة أو إسقاط، وإلا أن يكون ما لا يجوز أن يظهر إلا بارزا، ولا يجوز أن يصور إلا عارياً، ولا يجوز أن يعبر عنه إلا صريحا مكشوفا، تفسده الإيماءة ويضيعه اليسير من التأمل والبحث . 

ولهذا ترى الصورة الشعرية ملبدة بالدلالات والإيحاء، وترى القرار والخبر صادما ولاطما . ولا مجال لمفاضلة بين الأول والثانى، ولا مكان لكلام مدرسى معلب عن الشعرى والخطابى النثرى، يقبل الأول كيفما كان، ويرفض الثانى أنى ظهر، ذلك أن للقناع شعريته وللخطاب النثرى والقرار شعريته، ونكاد نقول عن الأخير وحتميته، ونحن نرى الواقع حولنا، وقد فاقت شعريته شعرية الشعر، فصار خبر الواقع شعرا. وها هم الشعراء يغلقون قصور الشعر المسحورة، ليكتبوا المقالة، ويحرروا العمود، وكأنهم يعلنون عن هذا المعنى المشار إليه. إن الخطاب النثرى يمنح الحياة للقصيدة، ويكشف عن وجوهها الغامضة والمبلدة بالقناع . وكان ووردز وورث فى مقدمته الشهيرة قد ألمح إلى شئ من ذلك فى حديثه عن شعر "جراى" المولع بالغموض والكثافة، حين وضع خطوطا تحت أبيات بعينها من شعر الشاعر تمثل خطاب النثر والقرار، ووصف هذه الأبيات بأنها الأكثر شعرية، حيث منحت الحياة فى الصورة الغامضة والمكثفة عن يمينها ويسارها، وكشفت عن القناع . 

فى قصيدته اللافتة نبوءة العراف الأعمى نموذج للقناع الشعرى المحكم الصنع، يدهشك الشاعر فى هذه القصيدة ويؤلمك ويبهرك ويقلقك، والقارئ عادة ما يحب أن يضع خطاًّ هنا أو خطا هناك، تحت سطور القصيدة، ولكنه هنا يضع الخطوط تحت سطور القصيدة بتمامها، ذلك أن مثل هذا الشعر هو شعيرة، ولا عجب، تفسدها الإشارة أو الحركة أو رمشة العين أو لحظة السهو. وثمة مدخل مقترح لقراءة نبوءات العراف الأعمى بتحليلها إلى صورة الواقع وواقع الصورة. من صورة الواقع : 

-جائعون يبحثون عن كسرة خبز
-واقفون بالأبواب بانتظار الهبات
-صاغرون وشاردون وهاربون
-وجوه عليها صفرة الموت
-أوبئة ونكبات تعقبها نكبات
-جند يضربون الأرض لبث الهلع والخوف
-أقبية للموت
-سوقة فى لباس ملوك
-عروش تهتز
شاعر يحذر ويفسر
شجر حال لونه، وكبت خضرته
ماء فاسد ونهر آسن
إله جديد يؤتمر بأمره
من واقع الصورة : ------ :
-فاكهة جهنم
-زمان عقيم مظلم الوجه
-ليل عتى الملامح يقتل كل ضياء
-فجر برئ ذبيح
-خريف مباغت، يأتى فى الربيع
-سدر وسنديان مهزومان
-بوم ينتظر للانقضاض
-شجن ينزف الدماء
-أفق يمطر مهلا
-عين تذرف شوكا ورملا ......

والمسافة ليست بعيدة بين واقع الصورة وصورة الواقع، وجهان لزمن وصورتان لوجه، من ثم تأتى السكتة الشعرية فى نهاية القصيدة وقد صار رفع القناع ضرورة والمباشرة حتمية، تشبه لافتة محمولة على الأعناق : 

فويل لمن لا يرون ( صورة الواقع )
وويل لمن يبصرون ( واقع الصورة )
هذه المباشرة تصنع فى القصيدة شعريتها الجارحة، ويصنع مثلها فى شعر فاروق شوشة ما يشبه ذلك كقوله فى قصيدة حديث اليمامة : 

فلنقاتل دون حسبان لربح أو خسارة
(172)
وقوله فى قصيدة يقول الدم العربى :
أصبحت لا طعم
لا لون
لا رائحة
(9)
وقوله فى قصيدة مدن الرحيل :
عدو هناك تسلل فى
وآخر عندى عدو مقيم
(22)
وقوله فى قصيدة بيروت :
والمنايا بشر
(30)
وقوله فى قصيدة يتغير لون الماء :
فالأرض مناف وسجون
(38)
وقوله فى قصيدة هئت لك : 

يدفعنا وجه مشبوه
لص أو صعلوك أو داعية أو زنديق
(108) 

ومنه قوله فى قصيدة هئت لك أيضاً :
ولى زمن النفط
وجاء زمن القحط 

(109)
ومنه قوله فى قصيدة قطار الموت :
فأنا مختنق حتى الموت
(578) 

وقوله فى قصيدة شاعر الحراب المدببة : 

الكون كله فسد
وأصبح المهرجون شعراء
(537-1) 

مثل هذا الخطاب يصنع شعريته فى جسم القصيدة، كاشفا لقناع، رافعا للافتة، ولا يقف وحده معلقا فى فضاء. وفى كل ما مر بنا من خطاب القرار يكون موقعه من الشعر موقع الجملتين الجارحتين: فويل لمن لا يرون، وويل لمن يبصرون من قصيدة نبوءة العراف الأعمى . 

وقد اعتاد الشاعر أن يلقى القرار و الخطاب النثرى مصطحبا شعرية فى سكتة القصيدة وسطورها الأخيرة، وأحسب أن الشاعر يعنى بهذه السكتة عناية كبيرة، بحيث تراه يكاد يوزع القناع والقرار على هذه السكتة بالتساوى، تغلق القصيدة بقرار فاضح كاشف لاطم، وتغلق أخرى بقناع يحمل درجات من الكشف، ولكنه قناع الشعر يدعو إلى التأمل ويبحث عن كشف. من سكتة القرار قوله فى قصيدة القزم : 

لا تصغر خدك التياه
إنا
لم نزل نذكر أمسك 

(287-2)
وسكتة القرار فى قصيدة الزمن الغارب :
أقرأ فيك كتاب الكون
فأدرك
جد الزمن
ولهوه
(149) 

وسكتة القرار فى قصيدة إلغاء : 

تبقى مدى الدهر
أنت الحقيقى
أنت الصحيح
أنت الجميل الجليل
(245) 

وتأتى سكتة القناع باحثة عن كشف ومشيرة إلى دلالة ورمز فى قوله من قصيدة رحيل النوارس:
إنك لا تنتمين لهذه الشواطئ
فانخلعى واستديرى 

(274)
وقوله فى نهاية قصيدة شوقى :
لا غيرك يضرم وقد النار
ويجهر باسم الشعر
ويبدع لحن الموت
ويبكى الأندلس المفقودة 

(404)
وقوله فى نهاية قصيدة قصيدتى والسفر :
واحترقت قوادمى
ولم تعد قصيدتى
تضئ رحلة الوجود والأسفار 

(574-1)
وقوله فى نهاية قصيدة خطوط فى اللوح :
وتحملنا موجة فى البعيد
لنجم على الأفق يحبو
وخط على اللوح بادئ 

(521-1)
هذا التوازن فى سكتة القصيدة بين القرار والقناع يصنع للقصيدة مرة نهاية مغلقة وأخرى نهاية مفتوحة لما يقوله الشعر وما يقوله الشاعر .
د السيد فضل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق