السبت، 19 نوفمبر 2016

ماذا قال الذي ليس هناك أعلم بِأَشْعَارِ الْجِنِّ منه؟!
--------------------------------------------
 
تألقت أستاذنا الأستاذ الدكتور أحمد يوسف؛ وأبدعت في هذه المعالجة البليغة لقضية شائكة تاريخية؛ تتناوشها الأنياب والحوافر والأسنة؛ قضية "الشعر والقرآن"؛ وكانت حجتك البرهانية خير دليل كاشف لحقيقة موقف الطرفين المتناوشين.

وإذا سمحت لي بالدخول في حضرة كتابتكم؛ فينبغي أن يعلم الطرفان أن الله يبعث رسله بما يُفحم منطق قومه المبتعث إليهم للهداية؛ فابتعاث ابراهيم بقوة المنطق لهدم يقين الضلالة لدى قومه المرتبط بتعدد الألوهية المتخيلة؛ وابتعاث موسى بإعجاز السحر لمغالبة السحرة في واقعه؛ وابتعاث عيسى بمعجزة الشفاء وإحياء الموتي لهدم دليل منكري الألوهية؛ فلماذا إذن لا يرسل الله الرسول الأكرم بمعجزة اللغة لإفحام أهل التعبير باللغة؛ وهدايتهم بالرسالة؟!
 
والدليل على ذلك قولهم عن القرآن على لسان الوليد بن المغيرة:" فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالأَشْعَارِ مِنِّي، وَلا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ وَلا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي، وَلا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ، إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلا، وَأَنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ...".
 
رحلتك يا أستاذنا في هذا الحقل القولي المقدس مثمرة مغدقة؛ وأقوالك عامرة بالحكمة والإدراك الخبير بخصوصية الخطاب النوعية. حفظك الله.
                                                                                       "رافت السويركي"

-----------------

 
                        
غواية الشعر أم الشعراء؟
                     -----------------------
 
من الموضوعات الشائكة، موقف القرآن من الشعر والشعراء. وهذا الموقف يصاغ في صياغات كثيرة منها موقف الإسلام من الشعر، وموقفه الإسلام من الفنون وحرية التعبير. واختلفت دوافع الكتابة في هذا الموضوع اختلافا كبيرا. فمن يظن في نفسه الظن الحسن يرى أن الإسلام والقرآن في موقف اتهام فينبري للدفاع عن القرآن وعن تاريخ المسلمين وما تركوه من آثار هي عرضة للتأويل ليقنع القاريء أن القرآن بريء من هذا الاتهام معتقدا أن آثار المسلمين هي آثار بشر لم يعيشوا على الأرض. وهذا اللون من الكتابة غير مفيد وحجته متهافتة لانطلاقه من موقف معرفي غير صحيح على الإجمال. 

لأنه لم يحاول النظر المحايث لنصوص القرآن ولم يلتفت إلى أن القرآن قد خلا من نص صريح وواضح يؤكد عداءه للإنسان وعداءه للفن وهو وعاء من أوعية التعبير بالكلمة أو الصورة أو اللون أو النغمة أو الحجر أو الحفر أو ما شاكل ذلك. وتوهم الكاتب الخصوم فكتب ردودا على ما توهمه، وحين عاد إلى شيء من النصوص، عاد إلى ما كتبه مفسر ما أو فقيه ولم يفطن إلى الظرف التاريخي الذي احتكم إليه هذا المفسر أو الفقيه.

 وباختصار هذا اللون من الكتابة ما زال قائما ويمثل رد الفعل ولا يمثل فعل المبادأة أو المبادرة التي تخلو من سيطرة الطرف المغاير على العقل والقلب، وتتجه بروح علمية هادئة ومنضبطة إلى جمع مفردات المادة المكتوب عنها وتصنيفها واكتشاف ما بينها من علاقات ظاهرة وخفية، ثم تحديد سياقاتها النصية واتجاهات القول فيها، ثم ربطها بسياقات العلم ومتطلباته من فهم وتفسير وتحليل ومقارنة.

هذا اللون السابق من الكتابة عن موقف القرآن من الشعر والشعراء، لا يحركه النص ولا المتلقي ولا السياق ويشغله الطرف الآخر المختلف عنه ومن ثم فهو معني بفكرة المنازلة وهي أن أحدا من الطرفين منهزم لا محالة. وبما أن الكاتب منسوب للإسلام فهو على الحق وهزيمته هي هزيمة الحق. ولا مفر إذن من الإجهاز على الباطل وأهله الذي يتمثل في الطرف المختلف.

واللون الثاني من الكتابة لون ينطلق من موقف سابق على النص وعلى الكتابة إذ يرى سلفا أن النص القرآني نص ملتبس من حيث النظر الإيجابي إلى الشعر والفنون بعامة وأن كل الكتابات العربية أو المسلمة هي كتابات منحازة لدينها وكتابها وليست منحازة للعلم ولا للحقيقة وأن تاريخ الكتابة في هذا الموضوع استبعد الأصوات المستقلة ولم يتح لها فرصة التعبير عما تراه مهما يكن مغايرا. ولا يتسع المجال هنا لبسط الحديث عن كتاب يمثل هذا اللون أو ذاك.

ولن نقف من هؤلاء وهؤلاء موقف القضاة ولا يعنيني هذا الأمر، ولكني سأحاول في هذه المقالة تحرير مسألة الشعر كما أراها في القرآن وهل هي مسألة تتصل بالشعر بوصفه فنا لغويا أو تتصل بالشعراء بوصفهم بشرا فاعلين ومؤثرين في مجتمعهم؟ كما أني أتساءل كيف يحارب القرآن الشعر وهو معيار المعجزة البيانية التي يمثلها القرآن. فلولا السحر ما كانت عصا موسى معجزة وكيف يجعلها الله حية تسعي تلقف ما يأفك السحرة وهم لم يبرعوا في السحر؟ ولماذا تركز حديث كل المتحدثين على الشعر والشاعر ولم يتحدث أحدهم عن الكاهن والكهانة والعرافة والعراف وقد تحدث عنهما القرآن الكريم؟

 فالشاعر والكاهن والعراف يمثلون القوة الناعمة في مجتمع ما قبل الإسلام يلجأ إليهم الناس كل حسب حاجته وحسب موقع الشاعر أو الكاهن أو العراف من خريطة العلم والمعرفة في ذاك المجتمع؟ وهل كان من الطبيعي والمألوف أن يأتي وحي السماء فيسلب من هؤلاء سلطانهم الاجتماعي والاقتصادي والمعرفي وأن يستسلموا بسهولة؟ لقد كان القرآن أمينا ورائعا إذ سجل حجج هؤلاء وهؤلاء وشكهم في حجية القرآن وصلة الرسول بالسماء، واضطرابهم النفسي والعقلي أمام طبيعة هذا البيان الجديد الذي احتاروا في تصنيفه كما احتاروا في وصفه وفي مصدره.

في ظل هذا البيان المنهجي أكتب وفي ظله أفكر بصوت مكتوب ولكنه عال. فقد وردت المادة اللغوية " شعر" في القرآن أربعين مرة تقريبا في صيغ لغوية متعددة مثل الاسم العلم " وأنه هو رب الشعرى " ومثل اسم المكان " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" ومثل تسمية جزء من جسم الدواب " ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين" وبصيغة الفعل في " ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون" وفي الدلالة على فن الشعر" وما علمناه الشعر وما ينبغي له" وفي الدلالة على الشاعر " بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر" و " ويقولون أإنا لتاركو آلهتنا لشاعر مجنون" و " أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون" و" وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون" ثم الدلالة على الشعراء " والشعراء يتبعهم الغاوون".

دار استخدام هذه المادة في مدارات واضحة هي: النجوم، المشاعر المقدسة، والمتاع والأثاث، والإدراك والوعي، ثم الشعر والشاعر والشعراء. هذه المدارات على الرغم من اختلاف سياقاتها النصية في السور التي وردت فيها، فإنها تبدو قريبة من حيث الجذر الدلالي. وهو الوعي والإدراك والنور والأفق. فالشعرى نجم ساطع منير يبدو في ظلمة الليل على نحو متميز بهيئته وموقعه عبدته خزاعة ونوؤه يأتي بمطر بارد في الشتاء، والمشعر الحرام مكان من أماكن شعائر الحج له خصوصية بين عرفة والبيت الحرام، والشعر متاع وجمال سواء أكان في الدابة أم الإنسان. والشعر مصدره الشعور والقدرة على الوعي بما لا يعيه عامة الناس وهو لون من المعرفة الجمالية. ومرد هذه الحقول الدلالية التفكر والتدبر والنظر في الآفاق. ولو نظرنا إلى الآيات التي ذكرناها عن الشعر والشعراء لوجدناها جاءت مقترنة بمجالات معرفية أخرى متراتبة. 

فأضغاث الأحلام معرفة مضطربة ناقصة دالة على مصدرها وهو القلق النفسي أو ما نسميه هلاوس النوم. والافتراء معرفة تعتمد على ادعاء الباطل في مواجهة الحق، ثم الشاعر وموقعه أفضل من سابقيه. وأقرب هذه المعارف إلى القرآن هو الشعر من حيث كونه لغة على نحو مخصوص ومع ذلك فجو الادعاء والجدل حول أحقية كل فريق بموقعه يدعو إلى حسم موقف الرسول وموقف القرآن بنفي انتساب القرآن للشعر أو الافتراء أو أضغاث الأحلام.

وهنا نوضح أن القرآن لا يعادي الشعر ولا يرفضه ولا ينص على وضاعته ولكنه يفند ادعاء كل فريق. فالشعر مهما علا ليس قرآنا والشاعر مهما احتل من مكانة في مجتمعه لن يبلغ أن يكون رسولا، والرسول يتلقى القرآن من مصدره الذي لم يعلمه الشعر وصرفه عنه ليتفرغ لمهمة الوحي ولا يشتبه بقوله مع أحد من هؤلاء: الشاعر أو الكاهن أو العراف. وأما وصف الشاعر بالجنون فقد جاء حكاية عمن قالوه ولم يذكره القرآن على سبيل الإقرار والتوصيف. 

وجنون الشعراء مصدره ميراث ثقافي طويل وعريض يقرن بين الشاعر وقرينه من الجن أو الشياطين. ولم يقرن العرب كل الشعراء بالشياطين أو الجن بل قرنوا فئة من الشعراء برزت في ساحة الشعر وتميزت وعلت بشعرها على غيرها من الشعراء وصارت في موطن الإعجاز الذي لا يقترب منه شعراء آخرون. 

ولعبقرية هؤلاء جعلوهم ضمن فئة في تقديرهم أعلى من البشر وهي الجن والشياطين، وأدركوا أن قولهم الشعري قول له سلطة السحر ونفاذه في النفس وسطوته على من يتلقاه. فالشعر من هذا القبيل يجعل الحليم يتخلى عن وقاره والبخيل يحول عن بخله والعصية من النساء تلين، ويجعل النفس تتطهر من سخائمها، وتتبدل أمامها الموجودات فترى الظلماء كالنور والقبيح جميلا والجميل قبيحا. وبذا تتحقق غواية الشعر إن قصد الشاعر ويتحقق رشده ونوره إن قصد أيضا.

وما ورد في نهاية سورة الشعراء من آيات أربعة، لا يمكن فهمها بعيدا عن السياق الحجاجي الذي أشرنا إليه سلفا وهو الخلاف حول مصدر القرآن أهو الشياطين أم الوحي؟ ثم الحديث عن وظيفة الشعر عبر الحديث عن خلق الشاعر وموقفه الاجتماعي. فقد ذكر القرآن في السورة نفسها الآيات " وما تنزلت به الشياطين"210 وما ينبغي لهم وما يستطيعون"211 إنهم عن السمع لمعزولون"212 ليؤكد مصدر القرآن وينفي نفيا قاطعا صلة القرآن بالشياطين ومن ثم صلة القرآن بعالم الشعراء وما تردده الثقافة عن علاقة النابغين من الشعراء بالشياطين. وهنا لا يذم القرآن الشعر ولا يستبعده بل يحدد مجالات القول ومصادرها. 

وفي الآية 221 يرد ذكر الشياطين مرة أخرى في صورة سؤال وجواب وهو على من تتنزل الشياطين" هل أنبئكم على من تتنزل الشياطين؟ تنزل على كل أفاك أثيم" ففي الآيات السابقة ليس للشياطين صلة بالوحي ولا بالكتاب وأنهم عن السمع معزولون، وفي هذه الآيات تتنزل الشياطين على كل أفاك أثيم وأنهم " يلقون السمع وأكثرهم كاذبون" ثم يرد مباشرة الحديث عن الشعراء. فكأن السياق النصي الأفقي يشي للقاريء بأن فريقا من الشعراء يقترنون بهؤلاء الشياطين وأنهم يتبعهم الغاوون وأنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون مالا يفعلون. 

وهذا الربط السياقي يمنحنا الفرصة للقول بأن هذه الآيات تشير إلى سلوك هؤلاء الشعراء وتشير إلى مدى خطورة قولهم على أتباعهم وإلى مناقضة مواقفهم المعلنة حين يقولون مالا يفعلون. ويؤيد هذا الفهم الاستثناء الذي ورد عقب ذلك وهو" إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا" فكأن المقابلة هنا بين فريقين من مجال قولي واحد: الفريق الأول يقول ولا يفعل ويستعين بزخرف القول على غواية أتباعه، والفريق الثاني آمن وترجم إيمانه بأعمال صالحة منها القول الشعري الذي يعد نقيضا للقول الأول. 

ويظل السؤال هل حصر القرآن مجال القول الشعري في باب الخير أو الأخلاق واستبعد الجمال أو الاستمتاع سؤالا مطروحا لم تكن له إجابة واحدة. فانحصار القول الشعري في مجال الفضيلة والخلق ينافي اتساع مجالات القول التي خاض فيها الشعراء منذ السنين الأولى للبعثة المحمدية حتى الآن.

 فقد خاض الشعراء في وصف الجمال خاصة جمال المرأة ووصف لذة الشراب ومجالس الشراب ووصف لوعة الهوى وآلام النفس كما خاضوا في النقد الاجتماعي الذي وصل إلى حد الهجاء اللاذع المؤلم على نحو ما صورت النقائض، وصوروا ما ظنوا أنه حب خاص لله ووصفوا هذا الحب وأضفوا على الله سبحانه وتعالى صفات بشرية في ظاهرها، فما القول إذن في ذلك.؟ لقد قال الأصمعى وهو من رواة الشعر وجامعيه قولته الشهيرة إن باب الشعر نكد إذا أخلته باب الخير لان. كما قال عبد العزيز الجرجاني وليس نقص الدين بعار على الشعر. فما تفسير ذلك؟

أعتقد أن القرآن الذي لم يهاجم الشعر بل ندد بفريق من الشعراء، لا يحظر حرية القول على قائليه من منطلق أن " ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى" وأن الشاعر أو الفنان حين يقول أو يصور أو يؤدي لا يعبر عن اعتقاد ولكنه يعبر عن موقف كمن يتحدث عن الزنا ويصفه فهو لا يعبر عن اعتقاده بل يعبر عن رؤية نقدية لقبح أو جمال قد نجده في المجتمع أو في الطبيعة. 

وهذا التعبير يتوسل بالكلمة والصورة والوصف وأساسه الخيال الذي يشخص ويجسم وينشيء كيانات غير ذات صلة بمثيلاتها التي نعرفها وإن أشارت إليها أو أشبهتها. وليس هناك فصل بين المتعة والفائدة إلا من زاوية المتلقي وثقافته التي تحدد له كيفية التلقي كما تحددها أحواله. 

 وما زلنا حين تلقينا الفن أو الأدب نربط بين القول وقائله ظنا منا أن القول يصدر عن فعل وهذا ظن خاطيء مرده إلى ثقافة فنية نقدية لم تعد صالحة ولا نافعة وبسببها اتهمنا كل ذي قول بما قال وقدمناه إلى القضاء ليقضي بحبسه. وهذه المسألة تحديدا مسألة مفتوحة للحوار والنقاش

                                                                              "د. أحمد يوسف علي"
---------------------------------

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق