تفكيك العقل النخبوي السياسوي الاستخباراتي ( 53)
خبراء "فصيلة القردة العليا"... ومهارة القفز السياسي
في "ما بعد حلب"!!
-----------------------------------------------------
-----------------------------------------------------
ما أن استردت الدولة السورية "حلب" التي كانت تُمثِّل قلب مخطط التفتيت المستمر في صورة "سايكس بيكو2"، أو "الشرق الأوسط الجديد" الموضوع للمنطقة والدولة السورية في إطارها؛ حتى بدأت ظاهرة جلسات "اللطميات" التلفزيونية لعناصر أكاديموية وسياسوية وإعلاموية لها من دون شك علاقات موثوقة بأجهزة الاستخبارات المعنية؛ والموظفة فيما يُسمى "مراكز الدراسات والأبحاث وتحليل السياسات"؛ لضخ خطابات مُخَادِعَةٍ تُخفي بها إحباطاتها عبر التنظير والتفسير المُحْبَط لما حدث في حلب.
وهذه النُخب لا تزال حتى بعد اتفاق الدولة السورية وما تسمى قوى المعارضة على هدنة إيقاف العمليات العسكرية في جميع المناطق استعدادا لمفاوضات سياسية؛ هي في حقيقة الأمر تهرب من الاعتراف بهزيمة مخططاتها؛ أو تتجنب تعميم الفهم الموضوعي بتحليل الحقائق الاستراتيجية؛ التي كانت فعالياتها مؤثرة ضمن جهد استرداد الدولة السورية حلبها؛ لكنها- هذه النخب – كعادتها المعروفة بدأت في ترويج تصورات سيناريوهات جديدة؛ أغلبها تروج مزيد التوهم حول ما سيطال مكونات القوى التي شاركت في استرداد حلب؛ وفي قلبها تقف الدولة السورية وجيشها العربي؛ وكذلك الحديث عن اعتماد نمط مناطق"حُكم ذاتي" في سورية، فضلا عن ترشيح شخصيتين لخلافة الرئيس الأسد!!
*****
مَبْلّغُ فجيعة هذه النخب بعد ضياع حلب من بين أيديهم كبير؛ وذلك لفشل تحقق المشروع التفتيتي للدولة السورية ذات الجذور القديمة التاريخ؛ إذ أن "المسكوت عنه" في هذه القضية؛ هو هدف ذلك التخطيط الموضوع من قِبَلِ قوى الصهيونية العولمية؛ والذي تنفذه بالإنابة عنها فوق الأرض العربية قوى اجتماعية ذات عقول نخبوية لامنتمية؛ وهويتها الحقيقية ميليشياوية بثقافتها العقدية الدينية أو الإيديولوجية؛ وهي نخب تمثل قوىً مضادةً لنمط "الدولة الواحدة"؛ القادرة على جمع كافة مكوناتها البشرية على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم في سياق واحد اسمه "الوطن".
فهذه النُخب التي تدَّعي الدفاع عن قيم منتزعة من جذورها مثل "الديموقراطية" ليجري المتاجرة السياسية بها؛ هي في الحقيقة نُخب ثقافوية انتهازية بالطبيعة والوظيفة، لأنها لا تنزل بأقدامها إلى أرض القتال كالثوار الحقيقيين، وليس حتى الميليشياويين لتحمل السلاح وتتعرض للقتل؛ بل تكتفي فقط بنضال المقاهي و"السوشيال ميديا" والكاميرات في الاستديوهات؛ لأنها بطبيعة التأسيس وموقعها الاجتماعي تحترف الجلوس على المقاعد الوثيرة في المكاتب المكيفة؛ وكذلك الدوران على أبنية "السفارات" الخارجية، ومكاتب الاستخبارات المعنية لتقبض أثمان ما تروج له من مشروعات التفتيت الوطني؛ وما تنتجه من خطابات التكريس الإعلاموي لمخططات الصهيونية العولمية؛ ومشروعها الجديد "بتفكيك المفكك وتفتيت المفتت"!
ومن يُراقب شاشات الفضائيات المختلفة؛ لرصد ودراسة ردود الأفعال والأقوال بعد استرداد الدولة السورية حلبها من جديد، يضع يده بسهولة على طبيعة نموذج النخبة المرتبطة بالمصادر الاستخباراتية في أعلى ظواهر انتهازيتها الاجتماعية السياسية؛ فهي تستعير من فصيلة القردة العليا مهارة القفز السياسي؛ بحيث لا تتمكن من القبض عليها.
*****
لقد تناست تلك النخب آراءها ومواقفها المسبقة حول حلب، والثقة التي كانت تتحدث بها؛ مع تأكيدها اليقيني المطلق بما وصفته بـ " تحرير" حلب من جيش النظام؛ وخروجها من تحت هيمنة الدولة السورية؛ وحين خيبت الدولة السورية سيناريوهاتهم واستردت حلب؛ إذ بتلك النخب تقفز قفزات فصيلة القِرَدَةِ العُلْيَا فوق الأشجار، لتتحدث راهناً عن تصورات جديدة؛ حسب ما تمدهم بها مكاتب الاستخبارات والأجهزة التي توظفهم.
ومن يرجع إلى خطابات هذه النخب، قبل وخلال جهد الدولة السورية لاسترداد حلب؛ يلمح ثقتهم المغالى في قدرها وهم يقومون بالتنظير وكأن المعارك في حلب محسومة للميليشيات التي يطلقون عليها مُخَادَعَةً بـ "الثوار" فيما يلوثون في الواقع معنى "الثوار" النقي.
فالثائر الحقيقي هو الذي لا يكون في ثورته خارجاً عن مستقرات معنى "الدولة الوطنية" التي يتجاوزها ويهدمها العنصر الميليشياوي، لذلك فهذه النخب الاستخباراتية المنبع يبدو خطابها متهافتاً؛ لأنها تُحْجِمُ عن إعمال عقولها في حقائق وإمكانات وموازين القوى وقدراتها المختلفة؛ وعدم التأكيد على ثابت أن الميليشيات لا يمكن أن تهزم دولة لها جيش محترف؛ وله غطاء جوي مساند، بصرف النظر عن نوعية وتحليل هوية القوى المساندة للدولة السورية لأنها دولة.
كانت هذه النخب تُرتب التحليلات في الخطاب المُروِّج لـ "تَحَرُّرِ حلب" من سياق الدولة المعمول لهدمها؛ بما يجهزها للانفصال؛ وتكوين "كانتون" سُنِّي الهُوية؛ مزمع إنشاؤه ضمن الكانتونات العرقية والمذهبية المتعددة؛ بعد تفتيت الدولة السورية؛ لتحف كل تلك الكانتونات بما يُسمى "الدولة اليهودية" في القلب.
حلب التي صارت راهناً "الحُلم المفقود" لذلك المخطط الصهيوني الرأسمالي العولمي الهادف في حقيقته إلى تأسيس واقع "جيوسياسي" يُعيد تنفيذ المرحلة الثانية من السيناريو القديم، الذي جرى تطبيق مرحلته الأولى على الأرض المفتتة تاريخياً بصناعة "إقليم الهلال الخصيب"، وفق الاصطلاح الذي صاغه عالم الآثار الأميركي "جيمس هنري برستد" دلالة على حوض نهري دجلة والفرات؛ وقد جرى تفتيته سياسياً حسب "اتفاقية سايكس بيكو" إلى دول متفرقة من سوريا والعراق ولبنان وفلسطين والأردن.
وفي المرحلة الثانية التي كانت افتتاحيتها الاستهلالية بما يُسمى الربيع العربي بعد إسقاط نظام الدولة في العراق؛ أو ضعضعته إلى درجة التهافت؛ كان التحدي هو الإجهاز على شكل الدولة الوطنية في المنطقة؛ والارتداد بالتجمعات السكانية إلى الأنماط القبائلية العرقية والمذهبية الأولى؛ اعتماداً على تاريخية فسيفسائية التكوين الديمغرافي بها؛ وبما يترتب على ذلك من إنهاء وجود نمط الدولة الوطنية الواحدة نهائياً؛ والتخلص من أشكال أبنيتها المدنية؛ لإعادة إحياء المجالس العُرْفية؛ وقوانين العيب؛ كي تستعيد المنطقة أشكالها القديمة المناسبة لقرون ما قبل الحضارة الحديثة.
لقد أوقف عدم سقوط حلب من يد الدولة السورية مخطط إعادة تشكيل الواقع الجغرافى المُغاير للهلال الخصيب القديم بدوله؛ على الرغم من أنها تُعاني راهناً بشكل كلي في إطار صناعة واقع مرتد على أساس العرق والدين والمذهب .
*****
وإزاء الانتكاسة في سوريا لذلك المشروع الذي كانت تروج له خطابات العقل النخبوي الانتهازية؛ بدأت تلك النخب تطرح تصورات سيناريوهات متخيلة جديدة؛ لكي تواري فضيحتها بتدمير بنية حلب، وعدم تحقق مرادها المرجو من ذلك؛ أي مخطط انفصالها عن الدولة للاستفادة بإمكاناتها الاستراتيجية التي تُلبي مخططات التفتيت الجاري تكريسها.
السيناريوهات الجديدة التي تتحدث عنها تلك النخب من "فصيلة القردة العليا" تدور حول الترويج لما يُسمى "الفدرلة" أو سوريا "الدولة الفيدرالية"؛ لإعادة التنميط وفق النموذج العراقي الجاري بناؤه؛ والقائم في النهاية على إعادة التجليس السياسوى للأعراق والمذاهب والإثنيات بهوياتها الثقافية على الكرسي، بدل الدولة الواحدة التي يتناوب الأفراد السلطة فيها عبر أحزابهم بالدولة.
لكن "المسكوت عنه" هنا والذي تخفيه هذه النخب بعد تحطم حلمها، هو أن هدف التركيز على حلب كان الاستفادة من قدراتها الجغرافية المكانية والبشرية والتاريخية؛ لإنتاج نموذج الإمارة "سنية الهوية" التي يجري تعميمه لاحقاً في المنطقة؛ وذلك بالاستفادة من الحدود الممتدة مع تركيا "العثمانلية"؛ والاقتراب من البحر المتوسط؛ وأمتلاك محور الربط الاستراتيجي في المحيط السوري؛ فضلاً عن منزلتها الثانية في الأهمية بعد دمشق؛ وما تكتنزه من قدرات اقتصادية ومالية...إلخ
كان في المتصور الاستخباراتي أن تكون حلب نموذجاً تطبيقياً للنمط الذي جرى تكريسه في "غزة" بنزوع الانفصال السياسي القائم في "فلسطين المحتلة" والذي أحدثته "حماس" عن بقية جسم السلطة الوطنية الفلسطينية؛ وقد كان سيتم اعتماده موديلاً لسيناريوهات تفتيت المنطقة كلها إلى "مدن" و"مقاطعات" و"أزقة" و"زنقات" قائمة بنفسها؛ ويكون ضابطها الحاكم "الدولة اليهودية"!!
*****
إن الجهد التفكيكي لخطاب النخب السياسوية الاستخباراتية المنبع يكتشف بما لا يدع مجالاً للشك أن وظيفة تلك النخب هي تكريس واقع الفئة والطائفة، مقابل الأثمان التي تقبضها لتدمير وطن؛ وتفتيته بالترويج لتوهم صناعة ثورة لم تجلب إلى سوريا سوى هدم المدن، وتدمير مرافقها وتشريد أهلها؛ واستباحة جغرافيتها السياسية لتكون ملعباً للقوى العالمية المتصارعة. والمعروف أن تلك النخب الفوضوية لا تدفع ضريبة جريمتها في حق الوطن بل تقبض الثمن بالعودة لتجلس في كراسي الحكم محمولة على ظهور الدبابات وتكمل مشوار تفتييت الأوطان"العراق/ ليبيا نموذجاً"!
لقد تناست تلك النخب المقيمة في خارج الأرض السورية، أن حسابات الواقع مختلفة عن السيناريوهات المتخيلة؛ فالدولة التي يُعبِّر عنها النظام كان يمتلك فيها مصدرية الطاقة الواحدية في التحكم وإدارة الأزمة؛ فيما المسلحون على الأرض تحكمهم المسلكية الميليشياوية، القائمة على تكريس نمط "أمراء الحرب" الذين لا يقاتلون عن مشروع وطني... بل عن مشروع ميليشياوي؛ تحركه آليات الإفساد المادي لها، والمتمثل في عائدات مشروع تفتيت الدولة بالمعونات وأموال الدعم وتدفقات السلاح من الخارج.
والمثير في الأمر أن بعض تلك النخب التي يروق لها اتباع منطق "القردة العليا" في القفز بين أفرع شجرة الأزمة السورية؛ عاد من جديد بعد خروج ميليشياتهم من حلب للحديث حول: ضرورة إعادة لملمة الأوراق المبعثرة؛ والارتداد إلى الروح المحركة لـ "الثورة" كما كانت في بداياتها؛ متغافلين عن العوار الذي أصاب الجسم الميليشياوي وقد حركه طوفان الأموال الخارجية لقيامهم ليس بهدم النظام ولكن بتفتيت الدولة.
ويأتي على رأس هؤلاء قيادات التنظيم المتأخون، الذين من مضحكات الأمور يمارسون عادتهم الانتهازية، فيطالبون في بيان أصدروه بعدم استجابة المسلحين الذين تسميهم "المعارضة" للمبادرة الروسية للحوار مع النظام السوري، والتي تعد موسكو لعقدها في يناير / كانون الثاني 2017م.
وإذا كانت الجماعة المتأخونة السورية تؤكد في بيانها أنها تؤكد على التمسك برؤية الثورة السورية في: "إسقاط النظام وتفكيك أجهزته الأمنية، والعمل على قيام الدولة المدنية... دولة الحرية والعدالة والكرامة"؛ فإن الهدف الخفي الدال على انتهازيتها السياسية هو تمرير رغبتها بحجز مقعد لها في جلسات ذلك الحوار؛ متناسية أنها الفاعل الحقيقي لما وصل إليه دمار المسألة السورية؛ بدعم وتخطيط التنظيم الدولي والجماعة في مصر والتي أطلقت شعار ما يسمى "الجهاد" في سوريا!
*****
ومن السيناريوهات الجديدة التي تروج لها نخب فصيلة القردة العليا أن النظام السوري على الرغم من قيامه باسترداد حلب لن يتمكن من القيام بالأعباء المترتبة على خروج الميليشيات منها؛ وسيفشل في إحكام السيطرة على الأرض الواسعة التي عاد يستحوذ عليها.
ونتيجة الدمار الشامل الذي لحق بحلب "البنية والمزاج السكاني المسالم
الذي تغير للنقيض" فإن أغلبية أهلها سيعانون الفقر والبطالة نتيجة التردي
الاقتصادي؛ ومع وجود ظاهرة انتشار السلاح، فإن ذلك سيدعو إلى تشكل حركات
تمرد جديدة، وإنشاء عصابات صغيرة عديدة مستغلة ضعف الدولة والضائقة
الاقتصادية التي تعانيها؛ ما يعني دخول مسلسل التدمير لسوريا في طور جديد
مماثل للنموذج الراهن في ليبيا!!
*****
إن ما تروج له "فصيلة القردة العليا" من النخب السياسوية الاستخباراتية المنبع والوظيفة بممارستها القفز السياسي في المسألة السورية بقدر ما يعبر عن خطاب هزيمة رعاتها في حلب، فإنه يكشف "المسكوت عنه" الجديد في سيناريو إنهاك الدولة السورية؛ ومواصلة العمل لإفشالها، طريقاُ لترسيخ الوجود الميليشياوي في صورة جديدة اسمها العصابات حلاً مصطنعاً في إطار مخطط تفتيت الدولة الذي لا يتوقف!!
"رأفت السويركي"
-------------------------------------------