"التطرف"... وظاهرة "الإرهاب القولي"
من إنتاج "الذاكرة النقلية"!!
-----------------------------------
-----------------------------------
صار واقعُ هذه الأمة المنتكبة في عقلها الجمعي؛ أن تتبدد طاقتها في أوحال
المشكلة الأبدية المعروفة "البيضة أم الدجاجة"؟!؛ وبسبب هذه المعضلة
التاريخية التي تُعَشْعِشُ في جماجم ناسها تُراق الدماءُ هباءً ولاتزال
قتلاً بالتفخيخ والتلغيم؛ ثمناً للحالة الكهنوتية التي أصابت ذلك العقل
الماضوي التاريخي، وهو يتمسك بعدم التفكر في ذاته؛ ليكتشف حجم سوءاته
العميقة التي لا يدركها ذاتياً؛ منذ استسلم إلى خَدَرِ تقديس الرواية
الحافة بالكتاب الحكيم؛ والمُتَنَاقَلة منذ زمن الشفاهية؛ ولكنها اكتسبت
قداسةً موازيةً لقداسة "القرآن الكريم"؛ وأحكمت السياج حوله.
هذا
الموروث القولي الغريب والعجيب الذي أنتجته عصور "الذاكرة النقلية"؛ ومارست
فيه قدراً كبيراً من الكذب والانتحال والدس؛ يُقنن لأغلبية الكوارث التي
تعاني منها الأمة راهناً؛ والتي اصطُلح عليها بالإرهاب؛ عبر "البئر
القولية" التي ينزحون من مائها المتعفن بتقادم القرون؛ فزيفت حقيقة العقيدة
الإسلامية السمحاء؛ بفعل من انتزعوا وظيفة السماء واحتكروها لأنفسهم؛
ووقفوا على أبواب الدنيا لإعطاء هذا شهادة الاتصاف بالإيمان، وذلك يدمغونه
بصك "الكفران".
*****
إن هؤلاء الذين يُشْهِرون لافتة أنهم
"حَفَظَة العِلْم" و"حُرَّاس العقيدة" يُذكِّرون بالكهنوتية المسيحية في
العصور الوسطى؛ التي منح فيها البابوبات أنفسهم وظيفة احتكار فُتْحَةِ
المرور إلى النعيم؛ فثار عليهم "العقل النقدي" الغربي؛ وحصر وظيفتهم في دور
عباداتهم؛ ثم تفرغ للتفكر في النفس؛ وفي أقطار السموات والأرض؛ محققا
المنجز الهائل الذي تتمتع الإنسانية بجهده الآن؛ في تطور الطب والعلوم
والتكنولوجيا والوصول إلى الكواكب السيارة الأخرى؛ وهو المنهج العقدي
الإسلامي في حقيقته؛ وهذا ما قاله الشيخ الإمام "محمد عبده" بعد زيارته
فرنسا:" وجدتُ مسلمين ولم أجد إسلاما، وفي الشرق وجدت إسلاما ولم أجد
مسلمين"، لأن العقل الغربي مارس حقيقة الإسلام بالحث على التعقل وإحسان
العمل؛ فيما أهمل المسلمون هذه الفضيلة.
وإذا كان "العقل العقدي
الغربي" يحتفظ بمساحته الإرشادية في الكنيسة؛ مكتفياً بوظيفة التطهير
النفسي لمن يشعر بالشقاء؛ إذا شاء فليقف أمام الشُبَّاك معترفاً بالذنوب؛
فإن "العقل العقدي الشرقي" لا يزال يبسط قبضته الغليظة على عقول وآذان
ورقاب الناس؛ يُصبغ بالألوان السوداء الحياة الدنيا والآخرة أيضاً في
وجوههم؛ ويتوعدهم بالجحيم والويل والثبور؛ فتتحول العقيدة إلى طقسيات
شكلانية مفرغة من جوهرها الرحماني وظاهرها العقلاني.
لذلك أنتج هذا
"العقل الشرقي العقدي" المتدين شكلانياً ظواهر فعلية منافية لحقيقة
العقيدة؛ التي فرغوها من ثابت التفكر والتعقل؛ لصالح الاستتباع الأعمى
للرواية؛ ومنها محفزات عنفوية عاكسة لجلافة الفهم والسلوك؛ وهي نتائج لما
يندرج ضمن حقل اصطلاح "التطرف" الموصل إلى فعل "الإرهاب"!!
وقد كان
اصطلاح "التطرف" مجالا لتدوينة تأطيرية من الباحث العماني الدكتور "زكريا
بن خليفة المحرمي" كاصطلاحٍ يَرِدُ كثيراً في الخطاب التعبيري العربي؛ ما
حفزني للتفاعل مع تدوينته المعنونة بـ "التطرف"؛ بكتابة عنوانها " الظاهرة
الإرهابية القولية... قبل الإرهاب الفعلي"!؛ أشرت خلالها إلى ضرورة
الالتفات إلى "وجود المتون، التأويلية الهرمة التي تُعيد تشكيل العقول
المتوازنة بالفطرة لتتحول إلى شتات، وأكثر عنفاً فكرياً، واندفاعاً تجاه
الأذى، لذلك تنشأ الظاهرة الإرهابية القولية قبل الفعلية".
*****
ولمن يريد الاستزادة... فالدكتور زكريا المحرمي هو طبيب وباحث في الفكر
الإسلامي؛ وله عدة مؤلفات رصينة أبرزها: "الصراع الأبدي… قراءة في جدليات
الصراع السياسي بين الصحابة وانقسام المواقف حولها"؛ و" قراءة في جدلية
الرواية والدراية عند أهل الحديث"؛ و"البلسم الشافي في تنزيه الباري"؛ و"
الإباضية تاريخ ومنهج ومبادئ"؛ فضلاً عن حضور متميز على الشبكة
الالكترونية.
"رأفت السويركي"
------------------------------
"التطرف"
---------
لا
يوجد تعريف متفق عليه للتطرف ففي الإنجليزية هناك عدة مصطلحات يتم
استخدامها للتعبير عن هذه الظاهرة أهمها، مصطلح Extremism، و
Fundamentalism، و Fascism. بيد أن أكثرها
تعبيرا عن التطرف هو مصطلح Extremism باعتبار أن المصطلحين الآخرين
مرتبطين بالأصولية والقومية، الذين يمثلان نوعا من التطرف أيضا.
لم يعرف التراث العربي التطرف بمعنى الخروج عن الاعتدال، بل كان التطرف عندهم قسيما للطرفة والاستمتاع والمرح، ومن نماذج استخدام هذه المفردة بمعنى المرح قول الجاحظ في كتاب الحيوان: (وهذا بابٌ من أبواب الفراغ وشكل من أشكال التطرُّف وطريق من طرق المزاح، وسَبيلٌ من سُبُل المضاحك). ويقول ابن ابنمنظور في لسان العرب: (ورجل طِرفٌ ومتطرفٌ ومستطرفٌ: لا يثبت على أمر). بينما كان المصطلح الأثير في التراث الإسلامي للتعبير عن ما يسمى اليوم بالتطرف هو مصطلح “الغلو”، ومن يعبر عنهم اليوم بالمتطرفين كانوا يسمون “الغلاة” في التراث الإسلامي، ومصطلح الغلو هو مصطلح أصيل له امتداد في كتاب اللغة العربية الخالد القرآن الكريم الذي يقول: (قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم)النساء: 171.
لا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات من شخصيات مغالية رافضة للنسق الفكري والديني والسياسي السائد، لكن هؤلاء لا يمثلون ظاهرة في المجتمع لقدرة المجتمع على استيعابهم، ولعدم قدرتهم على استمالة الآخرين، بيد أن المجتمعات التي تنخفض فيها نسبة المرونة ويرتفع فيها منسوب الجمود تكون أكثر قابلية لانتشار الخطاب المتطرف أو المغالي.
يعتبر الاستبداد بكل أشكاله السياسية والاجتماعية والفكرية من أهم أسباب الجمود الاجتماعي، وبالتالي التطرف وما يتبعه من تفسخ وإرهاب، ويتعزز التطرف الذي يخلقه الاستبداد بعوامل عدة أهمها غياب العدالة والتهميش الاجتماعي وانتشار الفقر وانهيار التعليم وانتشار الجهل، فالأفراد المحرومون والمهمشون هم الأكثر قابلية لتمثل خطابات الكراهية والانتقام والرغبة في إلحاق الأذى بأنفسهم والآخرين.
ومن أشد أنواع التطرف خطورة التطرف الديني لأنه يلامس المقدسات التي يتعامل معها المرء عادة بصورة تلقي وتسليم دون محاكمات عقلية ولا مقاربات نقدية، إضافة إلى أن الأديان تعتمد على النصوص، والنصوص بطبيعتها منفتحة على التأويلات المختلفة، وقابلة للتوظيفات المتعددة، إضافة إلى قدرة تلك النصوص على الاستنهاض والتحريض لا على المستوى الفردي بل وعلى المستوى الجماعي كذلك، وأكبر تجليات هذا التوظيف المتعسف للنصوص الدينية نجده ماثلا لدى الحركات الإرهابية المعاصرة، كتنظيم الدولة الإسلامية المعروف بداعش وتنظيم القاعدة.
عادة ما يكون التطرف حالة فردية في المجتمع أو فئوية في أقصى تقدير، بينما تظل الكتلة الاجتماعية الكبرى معتصمة بالفكر الوسطي لأنه أكثر إشعارا بالطمأنينة والأمن وعدم الحاجة إلى المغامرة والتضحية، وعادة ما يكون الخطاب الرسمي للدول هو خطاب وسطي يحاول تثبيت استقرار المجتمع وتحصينه من التطرف، لكن بعض الدول تضطرها التوازنات السياسية والاجتماعية إلى تبني خطابات متصالحة معها لكنها خطابات مشحونة بالكراهية والإقصاء وتكفير الآخر وتنجيسه، وهنا تعمل الدول ذاتها ودون وعي منها على تفريخ التطرف الذي تتربى فيه تنانين الإرهاب وشياطينه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق