خواطر حول "الصرفة في الإعجاز" وشروط القول بها
-------------------------------------------
هذه الحوارية الفكرية تجسد طبيعة علاقة بناءة في عالم الوسائط الاجتماعية؛ فكثيراً ما أسعد بالحوار مع كتابات الاستاذ الدكتور أحمد يوسف عالم اللغة العربية الكبير؛ مستفيداً من رحابة صدره العلمي في قضايا فكرية مهمة للغاية وتحديداً في مشروعه الفكري الجديد حول الخطاب القرآني الذي يقدم في محيطه كتابات محيطة مهمة؛ جعلتني أنتظر نشرها على جداره في فيس بوك للتداخل بما بما يفيدني بالمزيد من المعلومات التي يضيفها لكتاباته بتواضع العالم الكبير والاستاذ الذي تعلمت من مؤلفاته الكثير.
ولعل موضوعة "الصرفة" التي انشغل بها العقل المسلم لقرون وقرون وارتباطها بحقل تفسير إعجاز القرآن الكريم كانت موضوع هذه المداخلة؛ فكانت إجاباته بليغة؛ فإلى الحوارية؛ التي يعقبها متن كتابته الأساس:
------------------
تبارك الله الأستاذ الدكتور أحمد يوسف بهذه الهيمنة المعلوماتية المهمة والإحاطة الشاملة التي قدمتها حول قضية "الصرفة" هذه الموضوعة الشائكة؛ التي اختلف حولها الفرقاء والأصدقاء.
وقد استرعى تفكيري ما قدمه الجاحظ حلَّاً للإشكالية في صيغة "التسخير" الجامعة لإرادتي "التخيير" و"التسيير"؛ والتي تصب في النهاية حسب الاعتقاد إلى تفعيل فعالية "التسيير" الكامنة وفق ما راج لدى البعض في خلفية المشهد الإيجادي للمخلوقات، بحكم أن الإنسان كما هو مخلوق البدن فهو مخلوق الفعل والاستطاعة أيضا؛ على الرغم من تعارض ذلك مع قيمة الحساب الأخروي؛ وهذه النقطة مهمة للغاية لارتباطها كما قلتم بالماورائيات؛ وما تلك الأقوال إلا محض اجتهادات.
لذلك ينبغي عند النظر إلى موضوعة "الصرفة" أن نتذكر أحد وجوه القول القرآني الكريم: ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)؛ ولم يقل جل جلاله - وخلقنا ما توسوس به نفسه – بل " ونعلم" كدلالة على حرية الإنسان المطلقة أولاً في التفكير؛ وثانياً في الفعل أوالقول متحصل التفكير؛ باستثناء حالتين فقط بهما تتحقق "الجبرية" أي في حالتي "الميلاد" أولاً والموت ثانياً؛ وذلك لحكمة إلهية؛ مع ارتباط ذلك بعدل الله المطلق وعلمه القبلي بفعل خلقه وليس من منظور الجبر تحقيقاً لقيمة عدله الكلي. وتأكيد ذلك يأتي في كريم قوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
إن تعدد الآيات وتنوعها في سياقات الآفاق الرحيبة للنص ومحيطه التي جعلته حسب المقولة المنسوبة للإمام علي ابن أبي طالب بأن "القرآن حمَّالُ أوجُه، ذو وجوه"؛ وما روي عن ابن عباس: "القُرآن ذلولٌ ذو وجوه، فاحمِلوه على أحسنِ وجوهِه"، فهذه الصفة النصية بقدر ما تقدم متكأً لكل ذي رأي؛ فإنها في الوقت ذاته تقدم التصور المُغْنِي عن القول بالصرفة؛ أي محمول طاقة النص القرآني المطلقة واللامحدودة في الاستجابة لكل طرائق القراءات فهذا هو مكمن الإعجاز الحق الدال على فرادته وعلوية مصدره ؛ لأنه يتيح الفرصة للقراءة المتعددة التي تيسر فهمه وفق زمان القراءة.
ولعل تلك الطاقة الخلاقة للمعاني ربما تنفي في الوقت نفسه فعل "الصرفة"؛ التي تتنافى مع قيمة العدل الإلهي؛ فاستغلاق النص على الأفهام يُفقده إعجازيته؛ ولكن الخصوصيات الكامنة بمتنه توفر إمكانا ديموميا لتعدد مستويات القراءة التي تنتج آفاقا مختلفة لتأويل محمولاته المقدسة من منظور مصدريته العلوية. وربما يكون تعدد وتنوع المستولدات التأويلية هي الاثبات لطبيعة الإعجاز التي اخترعوا لها "الصرفة" لإثبات علوية النص وفق مقاييس عصرهم الشفاهي ومكانهم الجغرافي المحكوم بعلوم ومعارف اللغة قبل أية علوم أخرى.
ولربما تكون مخزونات النص التي يجري اكتشافها بامتداد الزمان؛ وتطور أدوات القراءة غير الواحدة تؤكد من جانب آخر انتفاء الصرفة، فتلك القيمة البشرية كانت مرتهنة حين طرحها بقدرات وأدوات العصور الأولى؛ وقد فاجأها النص الكريم ولم يكن العقل الإنساني المجبول على التفكر كأساس من أساسات الخلق النوعي في ملكوت الله قد وصل من درجة العلم التي يسرها الله له لاحقاً ليصل إلى ما وصل إليه راهنا؛ تأكيداً لما تفضلتم بذكره عن طبيعة المعجزة المادية التي حاور بها موسى قومه وكذلك عيسى عليهما السلام؛ وهما معجزتان منقضيتان بزمان حدوثهما؛ عكس النص القرآني الممتد تبليغه إلى أن تقوم الساعة؛ لذلك فعلينا البحث عن علائم أخرى لإثبات مصدريته المتعالية؛ وهنا لن تصلح الصرفة دليلاً.
أقول ذلك يا أستاذنا حين النظر إلى المشوار المذهل الذي قطعه العقل البشري ليصل إلى إنتاج فعالية الذكاء الاصطناعي الشامل؛ ومنه حقل اللغة، حيث في الترجمة حقق ذلك الذكاء في اللغات غير العربية الكثير من التماثل المتطابق؛ ويمكن له بعد التلقين المعلوماتي إنتاج أعداد كثيرة من النصوص؛ ولكنه ولا يزال راهناً يُعاني الصعوبات المؤقتة في اللغة العربية لعدم إحاطته بالكيمياء المجازية لهذه اللغة؛ نتيجة عدم اكتمال رصد كافة سياقات المعنى للكلمات والجمل بها.، غير أنه سيصل لهذه النتيجة عبر ما يمكن أن تتواصل به الحواسيب الذكية مع التفكير البشري؛ ولكن النتيجة ستكون محمولا بشرياً في المعاني.
هذا محض تفكير بصوت مرتفع حول قضية "الصرفة"؛ وضرورة إحلال قضية لا متناهي محمول النص الإبلاغي بديلاً عنها. وأعتذر أستاذنا عن الإطالة؛ فما تذكرونه باقتدار يُحرِّضُ على التحاور؛ ولكم محبتي واعتزازي.
"رأفت السويركي"
--------------------
د.أحمد يوسف أخي الكريم ذا الرأي الرشيد ا.رافت . تحياتي
كتابتك كعادتك كتابة مضيئة وكاشفة. فقد تناولت مسألة الصرفة وصلتها بالفعل الإنساني وإرادة الله كما تناولت مسألة تأويل النص القرآني وقابليته للتعدد والثراء حسب مايتاح من علم في كل عصر ورأيت أن هذا التأويل يعد دليلا على إعجازه. وأرى أنك حريص على نفي الصرفة سبيلا لتفسير الإعجاز.
واسمح لي أن أوضح نقاطا مهمة حرصت على تأكيدها في المقال.
أولا :أكدت أن الصرفة
لم تقدم حلا لمسألة الإعجاز عندما أراح أصحابها أنفسهم برد الأمر كله لله.
ثانيا :أن الصرفة كانت بحثا خارج النص وإحالة على المطلق ظنا من أصحابها
أنهم حين يؤكدون مصدرية القرآن؛ يؤكدون حجته ومعجزته ويؤكدون النبوة.
ثالثا
:أن الجاحظ لم يكن رغم تقديره الكبير لأستاذه النظام؛ تلميذا تابعا يسير
مغمض العينين وراءه كما قرر وكتب كثير من الباحثين الذين يوصفون بأنهم
كبار.ووضحت ذلك حين أكدت أن الصرفة عند الجاحظ لم تقترن بمسألة الإعجاز
ولكنها اقترنت بمسألة حرية الفعل وذكرت مصطلحه التسخير الذي جمع بين
التسيير والتخيير.
رابعا :أن الجاحظ أكد أن القرآن معجز بنظمه البديع وأردت
أن أتتبع قوله هذا وأوسعه حين تكلمت عن وعيه بالنص وخصائصه. ثم تتبعت ذلك
القول كما تجلى عند الآخرين في القرن الرابع وأشرت إلى أن المقال له تكملة
في مقال لاحق.
كل ذلك ياسيدي هو ما حرصت عليه. وإنك لتذهل حين تكتشف تهافت ما كتبه من وصفتهم الأمة بالأعلام وخاصة في مسألة الصرفة ومسألة نص القرآن الكريم.
صديقي الكريم لم أشأ أن أتحدث عن مدى حرية الفعل كما وردت في نصوص من القرآن وقد بينت في مقال سابق أن مبدأ الصرفة يتنافى مع عدالة الله سبحانه. وعلى أي الأحوال هذه صفحة من عقلنا الجمعي كم كانت حرة في التناول والعرض مهما اختلفنا معها وكم كان أصحابها جادين ومخلصين لما آمنوا به. وفي النهاية أرحب بمزيد من النقاش والاختلاف في الرأي.
-------------------
Raafat Alswerky سلمت
أستاذنا ودام حضورك الفكري معلما نقتدي بمسلكه ومنهجه في التفكير، وما
سمحت لي تكرما منك بكتابته هو من اجل تفعيل فضاء فيس بوك لمزيد من الحوار
الفكري الراقي حول قضايا مهمة ينبغي ان تخرج من حلقات النخب الى عموم
الامة، اذا كنّا حقا نسعى الى تطوير او تغيير او تحديث او تنقية الخطاب
الديني، فالقضايا لا تنحصر في الطقوس والشكليات، بل هي أعمق لعل هناك من
يستفيد. حفظك الله.
----------------------
مع أهمية القول بالصرفة تفسيرا لإعجاز القرآن، فإنه لم يكن واحدا
عند كل من قال به، ولم تكن مصادره واحدة كما بينا في المقالة السابقة.
والقول بالصرفة لم يقترب حقيقة من تفسير مسألة الإعجاز وهي مسألة مختلف
عليها عند المؤمنين بالقرآن، وعند غير المؤمنين به. فمن رد إعجاز القرآن
إلى مصدره، لم يقل أكثر مما قال القرآن عن نفسه " كتاب أنزلناه إليك مبارك
ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب" ص 29. و" إنا أنزلناه قرآنا عربيا
لعلكم تعقلون" يوسف 2.
واكتفي بأنه من عند الله ولم يفسر وجها من وجوه
إعجازه. فالله سبحانه حين أنزل القرآن للناس لم يكن حجة لنبيه مثل حجة
العصا لموسى أو الطب لعيسى، نقصد لم يكن حجة وقتية شهدها فريق من الناس
وصارت شهادتهم برهانا عليها وتواتر القول بها عبر النقل والسماع.
ولكن القرآن الذي نزل منجما خاطب الناس الشهود بكونه معجزة وحرض من ينكر على أن يأتي بشيء من مثله. ولما اكتمل نزول القرآن وصار بين دفتي المصحف المعروف لم تزل حجته بزوال الشهود من الناس، بل اكتملت وصارت مجالا للبحث الذي يبتغي الفهم كما يدعو القرآن نفسه الناس جميعا لتدبر آياته، وأولي الألباب للتذكر وأن هذا القرآن عربي. لذا فالقول بالصرفة ليس كافيا لتوضيح المراد وهو فهم هذا القرآن وتدبره.
ولم يكن قول النظام بالصرفة إلا قولا محرضا على التفكير والبحث والتأويل وداعيا إلى مزيد من تعدد الآراء. فقد نشأت حوله أقوال بالصرفة كما فهمها، وأقوال أخرى متباينة معه. ومن هذه الأقوال، قول الإمام الجويني إمام الحرمين الذي أعلن القول بالصرفة قولا واحدا رافضا القول بغيره.
فمن يقل بفصاحة القرآن أو نظمه، قد ضل ضلالا بعيدا على حد قوله لأن القرآن من هذه الجهة يشبه أقوال كثير من الفصحاء والبلغاء، وأن البلاغة في كل عصر متغيرة متفاوتة ولا يخلو عصر من العصور من بليغ مبرز لا يوازى في فنه. وربما كان الجويني يسعى إلى نفي علو القرآن عن مدارك الناس وأفهامهم. وما نزل القرآن إلا ليصل إليهم. لذا فحجته لا تكون في بيانه، بل في مصدره العلوي الذي تشهد به كل آياته.
فالقول بالصرفة في تقديري بحث في المطلق. والعلم يصعب عليه البحث في المطلق والماهيات. لذا كان الجاحظ صاحب الفضل في توجيه دفة البحث في إعجاز القرآن إلى وجهة علمية قوامها اللغة وميدانها مجمل القرآن كله مستفيدا من علمه باللغة العربية وأساليبها في التعبير، ومن علمه بأشعار العرب وخطبها، ومن طرائق تعبيرهم في المحافل والمنتديات يؤكد ذلك كتابه البيان والتبيين، كما أفاد من اطلاعه على الثقافة المنقولة من الفرس والهند واليونان وغيرهم.
وكما قلت، كان قول النظام بالصرفة قولا تحريضيا وجدنا آثاره في قول الجاحظ: إن القرآن معجز بنظمه. فقد سرى هذا القول عبر القرون الرابع والخامس والسادس ومثل اتجاها كبيرا سواء على مستوى النقد والبلاغة، أو على مستوى التفسير ونعنى هنا تفسير القرآن.
ونحاول أن نقف في هذه المقالة والمقالة التي تليها عند هذه المقولة وكيف تكونت حولها أبحاث مفسري الإعجاز وكيف استوت هذه المقولة لتكون أهم نظرية لفهم النص سواء أكان شعرا أم قرآنا، أعني نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني وكيف أفاد منها الزمخشري في تفسير" الكشاف" وفي نموذج كتبه مفسرا سورة " الكوثر" وحدها للتدليل على إعجاز القرآن من خلال نظرية النظم أو النظم كما قال الجاحظ.
لم يكن الجاحظ غافلا عن الجدل الدائر في أو ساط المعتزلة عن حقيقة القرآن. هذا الجدل الذي كانت الصرفة إحدى نتائجه على نحو ما بيناه عند النظام. وكان للجاحظ موقف معلن من مسألة الصرفة التي لم ينكرها ولم ينكر أن القرآن معجز "بنظمه البديع". هذا الجمع بين القولين المتقابلين جر عليه اتهامات كثيرة وشكوكا في معتقده مما يستدعينا لتوضيح هذه المسألة.
كان الجاحظ مثل كل المعتزلة مشغولا بمسألة حرية الفعل وهي التي كشفت عن موقفين: الأول أن الإنسان مسير عند أهل السنة، والثاني أنه مخير كما يرى أهل الاعتزال. وكان من رأي الجاحظ أن الإنسان " مسخر" وقد جمع هذا المصطلح بين التسيير والتخيير ويوضح الجاحظ مفهوم التسخير. فأفعال الإنسان في ظاهرها تشير إلى أنه مخير والدليل رضاه عنها وسعيه إليها وإتيانها بمحض إرادته.
إنه يختار أسماء ولده، ويختار نوع عمله، والبقعة التي يسكن فيها ونوع الحياة التي يعيشها، وقد لا يعجب اختياره الآخرين. قد يختار أقبح الأسماء وأحط المهن، وأردأ الأماكن، وأخشن أنواع العيش، ومع ذلك تراه معجبا باختياره فخورا به سعيدا باهتدائه إليه والسبب اعتقاده أن ذلك محض اختياره، على حين أن ذلك في الحقيقة هو ما سخره الله له، ويسره إليه، وحببه فيه.
ويبرهن الجاحظ على صحة رأيه بأن هذا" التسخير" للخلق إنما كان لمصلحتهم. وما كانت مصلحتهم تتم على أحسن الوجوه لو أن كل إنسان قد ترك لاختياره.. ولنا أن نتصور كيف كانت تكون حياة الناس لو أن كل إنسان اختار لنفسه ولولده أحسن الأسماء، واختار أرفع المهن، وحرص على أن يسكن أخصب البقاع وأحسنها، وأن يمارس أكثر ألوان العيش ترفا؟ ومن الذي يقوم بأدنى أدنى الحرف؟ ثم من يعمر البقاع الصعبة القاسية، إذا كان الجميع سينصرفون إلى ما اختاروه من الأماكن الخصبة السهلة؟
هذا التسخير الذي يتضمن اختيار الإنسان أفعاله ورضاه أو سخطه عليها وسعيه إليها أو تراخيه عنها، يشير إلى أن علم الإنسان مهما اتسع محدود، وأنه في الحقيقة ميسر لما خلق له، وأن علم الله أشمل من علمه، وهنا تلتقي الصرفة مع التسخير وتقترن به. فالقول بالصرفة جاء مقرونا بالقول بالتسخير عند الجاحظ، ولم يكن مقرونا بالقول في الإعجاز.
يقول الجاحظ عن الصرفة في تفسير موت سليمان:" ولولا الصرفة التي يلقيها الله تعالى على قلب من أحب، ولولا أن الله يقدر على أن يشغل الأوهام كيف يشاء، ويذكر بما يشاء، وينسي ما يشاء، لما اجتمع أهل داره وقصره(سليمان) وخاصته ومن يخدمونه من الجن والإنس والشياطين على الإطباق بأنه حي".
فالصرفة عند الجاحظ تعدت مجرد الانصراف عن معارضة القرآن إلى الدلالة على نوع من توجيه الله لعباده، أو سلبهم القدرة على علم شيء أو عمله من أجل مصلحتهم، تماما كما كان التسخير توجيها لهم إلى عمل شيء أو اختياره. على حد تعبير عبدا لحكيم راضي في تقديمه لكتاب الحيوان.
هذا الفكر العقلي الراقي حول الصرفة والتسخير وفعل الإنسان، كان دفاعا عن القرآن أيضا وعن العقيدة، وهذا ما دفع الجاحظ للقول بأن" المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني. وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك. فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير".
فالمعاني التي يقصدها الجاحظ هي المادة الأولية المتاحة في كل زمن وفي كل مكان وهي وحدها لا تصنع أدبا ولا تفرق من حيث القيمة بين نص ونص ولا تضفي عليه أية مزية، ولا تحقق لصاحبها تميزا، ولا تمنحه مكانة لمجرد القول بها. هذه المادة الأولية قد تكون متشابهة بين أناس وأناس ومنها ما هو مشترك عام بين البشر على مدى الأزمان.
فالحق والخير والجمال والصواب والخطأ والثواب والعقاب والجنة والنار، وغيرها من المعاني تمثل مشتركا عاما نجدها في الكتب السماوية كما نجدها أو نجد بعضها في كتب الديانات الوضعية، ولكن وجودها في حد ذاته لا يعطى أولوية لكتاب على كتاب، وما يفرق في حالة القرآن هو" النظم البديع" بالإضافة إلى ما يحتويه من علوم الغيب والشهادة.
وقد تحدث الجاحظ هنا عن الشعر والمعاني وتفاوت قصائد الشعراء من حيث القيمة على أساس قدرة المبدع على الصياغة والتصوير" فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير" وليس على أساس المعاني المطروحة في الطريق.
فالشعر صناعة لغوية، مفرداته ونظامه اللغوي من معين اللغة بوصفها أداة عامة يتوسل بها كل الناس، وله لغته الخاصة التي هي" ضرب من النسج" يخص كل شاعر يكشف به عن قدرته على اكتشاف القدرات الكامنة في نظام لغته، كما أن هذه اللغة" جنس من التصوير. فالشعر كما يراه الجاحظ يسير في دربين: التركيبي، والدلالي، وفيهما يكمن الإيقاع. غير أن هذه الطبيعة الخاصة بالشعر تصله بغيره من الفنون كالرسم والموسيقي والتشكيل بحيث يتجلى الشعر بين فنون كثيرة ومماثلة.
هذا الفهم المبكر لطبيعة الشعر الجمالية، قد وعى من جانب آخر، مبدأ النص الذي يتضمن كل مقومات النص ومنها التأليف والنظم، وهذا ما اعتمد عليه الجاحظ في قوله " بالنظم البديع" تفسيرا لإعجاز القرآن. هذا التأسيس الذي وضعه الجاحظ في القرن الثالث انطلق منه الرماني والباقلاني، وبلوره على نحو نظرية ذات أسس نحوية وجمالية، عبد القاهر الجرجاني.
فالرماني في رسالته" النكت في إعجاز القرآن" يرى أن البلاغة: ثلاث طبقات: منها ما هو في أعلى طبقة، ومنها ما هو في أدنى طبقة، ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة. فما كان في أعلاها فهو معجز وهو بلاغة القرآن، وما كان منها دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس" وأما البلاغة فهي" إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ" وتعريفه يركز على جانبين: المعنى، والصورة أو اللفظ.
والمقصود هنا باللفظ هو التراكيب التي تتجلى فيها المعاني بحيث تتواءم مع السياق العام للكلام. ونشير هنا أن الرماني يرى أن الكلام ذو مستويات تبدأ بالأعلى وتنهي بالأدنى. وكأن هذه المستويات أنماط معلومة استقر عليها المنشئون والمتلقون وهذا ما جعله يضع القرآن في الطبقة العليا بعيدا عن أية مماثلة أو منازعة.
هذا التفكير البلاغي جعله يرى أن كل القرآن من حيث الصياغة والأسلوب في مستوى واحد، مع أن القرآن نص طويل، متعدد السياقات، متعدد الأغراض، وهذا ما يدعو إلى القول بالتفاوت بين سور هذا الكتاب من حيث النظم ومن حيث التأثير في المتلقي.
فسورة" الكوثر" ليست هي سورة" ص" مثلا أو" الرحمن" ولكننا مع ذلك نلحظ أن البذرة التي ألقاها الجاحظ في تربة الدرس البلاغي لم تمت. فالجاحظ في بيانه السابق لا ينكر التفاوت بين المبدعين، ولا بين نصوص المبدع الواحد، ولا بين نصوص هذا أو ذاك من الشعراء ممن يقولون في موضوع واحد كوصف الخمر أو الخيل مثلا.
ولكن هذا التفاوت رفضه البلاقلاني بعد أن قبل القول بنظم القرآن تفسيرا لإعجازه، فالقرآن على الرغم من طوله ليس متفاوتا بل هو على نمط واحد من الجودة والسمو عل اختلاف المقامات القول وتعدد الأساليب.
فمن مظاهر إعجاز هذا النظم عنده أنه قد ورد على غير المعهود من نظم كلام العرب وألوانه المعروفة في الشعر والنثر. وهذا ما دعاه إلى لزوم مالا يلزم وهو إثبات فساد النظم في قصيدتين من عيون الشعر إحداهما لامريء القيس والثانية للبحتري. لقد هدم الأساس البياني الذي انطلقت منه مسألة الإعجاز والتحدي حين أخرج شعر العرب وهو المعيار من دائرة النماذج التي يقاس عليها.
ولم يكتف البلاقلاني بذلك بل أنكر أن تقاس بلاغة القرآن ببلاغة العرب أو البشر كما عرفناها وهو بذلك جعل مسألة المعجزة عصية على الفهم، خارجة عن نطاقها الذي أتت من أجله وهو أنها دالة على نبوة النبي من جهة، وأنها يمكن فهمها والتواصل معها من جهة ثانية.
فالقرآن جاء للناس كافة يحمل رسالة مركبة من الاعتقاد والأخلاق. فإن تضمنت معجزته جمالا في ذاتها، فلا قيمة له إن لم يتح للإنسان فهمها وسبر أغوارها. كل ذلك لم يفطن إليه البلاقلاني وكأنه أضاع نيته الحسنة بوسائله غير الحسنة.
"أحمد يوسف علي"
/23/12/2016
ولكن القرآن الذي نزل منجما خاطب الناس الشهود بكونه معجزة وحرض من ينكر على أن يأتي بشيء من مثله. ولما اكتمل نزول القرآن وصار بين دفتي المصحف المعروف لم تزل حجته بزوال الشهود من الناس، بل اكتملت وصارت مجالا للبحث الذي يبتغي الفهم كما يدعو القرآن نفسه الناس جميعا لتدبر آياته، وأولي الألباب للتذكر وأن هذا القرآن عربي. لذا فالقول بالصرفة ليس كافيا لتوضيح المراد وهو فهم هذا القرآن وتدبره.
ولم يكن قول النظام بالصرفة إلا قولا محرضا على التفكير والبحث والتأويل وداعيا إلى مزيد من تعدد الآراء. فقد نشأت حوله أقوال بالصرفة كما فهمها، وأقوال أخرى متباينة معه. ومن هذه الأقوال، قول الإمام الجويني إمام الحرمين الذي أعلن القول بالصرفة قولا واحدا رافضا القول بغيره.
فمن يقل بفصاحة القرآن أو نظمه، قد ضل ضلالا بعيدا على حد قوله لأن القرآن من هذه الجهة يشبه أقوال كثير من الفصحاء والبلغاء، وأن البلاغة في كل عصر متغيرة متفاوتة ولا يخلو عصر من العصور من بليغ مبرز لا يوازى في فنه. وربما كان الجويني يسعى إلى نفي علو القرآن عن مدارك الناس وأفهامهم. وما نزل القرآن إلا ليصل إليهم. لذا فحجته لا تكون في بيانه، بل في مصدره العلوي الذي تشهد به كل آياته.
فالقول بالصرفة في تقديري بحث في المطلق. والعلم يصعب عليه البحث في المطلق والماهيات. لذا كان الجاحظ صاحب الفضل في توجيه دفة البحث في إعجاز القرآن إلى وجهة علمية قوامها اللغة وميدانها مجمل القرآن كله مستفيدا من علمه باللغة العربية وأساليبها في التعبير، ومن علمه بأشعار العرب وخطبها، ومن طرائق تعبيرهم في المحافل والمنتديات يؤكد ذلك كتابه البيان والتبيين، كما أفاد من اطلاعه على الثقافة المنقولة من الفرس والهند واليونان وغيرهم.
وكما قلت، كان قول النظام بالصرفة قولا تحريضيا وجدنا آثاره في قول الجاحظ: إن القرآن معجز بنظمه. فقد سرى هذا القول عبر القرون الرابع والخامس والسادس ومثل اتجاها كبيرا سواء على مستوى النقد والبلاغة، أو على مستوى التفسير ونعنى هنا تفسير القرآن.
ونحاول أن نقف في هذه المقالة والمقالة التي تليها عند هذه المقولة وكيف تكونت حولها أبحاث مفسري الإعجاز وكيف استوت هذه المقولة لتكون أهم نظرية لفهم النص سواء أكان شعرا أم قرآنا، أعني نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني وكيف أفاد منها الزمخشري في تفسير" الكشاف" وفي نموذج كتبه مفسرا سورة " الكوثر" وحدها للتدليل على إعجاز القرآن من خلال نظرية النظم أو النظم كما قال الجاحظ.
لم يكن الجاحظ غافلا عن الجدل الدائر في أو ساط المعتزلة عن حقيقة القرآن. هذا الجدل الذي كانت الصرفة إحدى نتائجه على نحو ما بيناه عند النظام. وكان للجاحظ موقف معلن من مسألة الصرفة التي لم ينكرها ولم ينكر أن القرآن معجز "بنظمه البديع". هذا الجمع بين القولين المتقابلين جر عليه اتهامات كثيرة وشكوكا في معتقده مما يستدعينا لتوضيح هذه المسألة.
كان الجاحظ مثل كل المعتزلة مشغولا بمسألة حرية الفعل وهي التي كشفت عن موقفين: الأول أن الإنسان مسير عند أهل السنة، والثاني أنه مخير كما يرى أهل الاعتزال. وكان من رأي الجاحظ أن الإنسان " مسخر" وقد جمع هذا المصطلح بين التسيير والتخيير ويوضح الجاحظ مفهوم التسخير. فأفعال الإنسان في ظاهرها تشير إلى أنه مخير والدليل رضاه عنها وسعيه إليها وإتيانها بمحض إرادته.
إنه يختار أسماء ولده، ويختار نوع عمله، والبقعة التي يسكن فيها ونوع الحياة التي يعيشها، وقد لا يعجب اختياره الآخرين. قد يختار أقبح الأسماء وأحط المهن، وأردأ الأماكن، وأخشن أنواع العيش، ومع ذلك تراه معجبا باختياره فخورا به سعيدا باهتدائه إليه والسبب اعتقاده أن ذلك محض اختياره، على حين أن ذلك في الحقيقة هو ما سخره الله له، ويسره إليه، وحببه فيه.
ويبرهن الجاحظ على صحة رأيه بأن هذا" التسخير" للخلق إنما كان لمصلحتهم. وما كانت مصلحتهم تتم على أحسن الوجوه لو أن كل إنسان قد ترك لاختياره.. ولنا أن نتصور كيف كانت تكون حياة الناس لو أن كل إنسان اختار لنفسه ولولده أحسن الأسماء، واختار أرفع المهن، وحرص على أن يسكن أخصب البقاع وأحسنها، وأن يمارس أكثر ألوان العيش ترفا؟ ومن الذي يقوم بأدنى أدنى الحرف؟ ثم من يعمر البقاع الصعبة القاسية، إذا كان الجميع سينصرفون إلى ما اختاروه من الأماكن الخصبة السهلة؟
هذا التسخير الذي يتضمن اختيار الإنسان أفعاله ورضاه أو سخطه عليها وسعيه إليها أو تراخيه عنها، يشير إلى أن علم الإنسان مهما اتسع محدود، وأنه في الحقيقة ميسر لما خلق له، وأن علم الله أشمل من علمه، وهنا تلتقي الصرفة مع التسخير وتقترن به. فالقول بالصرفة جاء مقرونا بالقول بالتسخير عند الجاحظ، ولم يكن مقرونا بالقول في الإعجاز.
يقول الجاحظ عن الصرفة في تفسير موت سليمان:" ولولا الصرفة التي يلقيها الله تعالى على قلب من أحب، ولولا أن الله يقدر على أن يشغل الأوهام كيف يشاء، ويذكر بما يشاء، وينسي ما يشاء، لما اجتمع أهل داره وقصره(سليمان) وخاصته ومن يخدمونه من الجن والإنس والشياطين على الإطباق بأنه حي".
فالصرفة عند الجاحظ تعدت مجرد الانصراف عن معارضة القرآن إلى الدلالة على نوع من توجيه الله لعباده، أو سلبهم القدرة على علم شيء أو عمله من أجل مصلحتهم، تماما كما كان التسخير توجيها لهم إلى عمل شيء أو اختياره. على حد تعبير عبدا لحكيم راضي في تقديمه لكتاب الحيوان.
هذا الفكر العقلي الراقي حول الصرفة والتسخير وفعل الإنسان، كان دفاعا عن القرآن أيضا وعن العقيدة، وهذا ما دفع الجاحظ للقول بأن" المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني. وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك. فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير".
فالمعاني التي يقصدها الجاحظ هي المادة الأولية المتاحة في كل زمن وفي كل مكان وهي وحدها لا تصنع أدبا ولا تفرق من حيث القيمة بين نص ونص ولا تضفي عليه أية مزية، ولا تحقق لصاحبها تميزا، ولا تمنحه مكانة لمجرد القول بها. هذه المادة الأولية قد تكون متشابهة بين أناس وأناس ومنها ما هو مشترك عام بين البشر على مدى الأزمان.
فالحق والخير والجمال والصواب والخطأ والثواب والعقاب والجنة والنار، وغيرها من المعاني تمثل مشتركا عاما نجدها في الكتب السماوية كما نجدها أو نجد بعضها في كتب الديانات الوضعية، ولكن وجودها في حد ذاته لا يعطى أولوية لكتاب على كتاب، وما يفرق في حالة القرآن هو" النظم البديع" بالإضافة إلى ما يحتويه من علوم الغيب والشهادة.
وقد تحدث الجاحظ هنا عن الشعر والمعاني وتفاوت قصائد الشعراء من حيث القيمة على أساس قدرة المبدع على الصياغة والتصوير" فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير" وليس على أساس المعاني المطروحة في الطريق.
فالشعر صناعة لغوية، مفرداته ونظامه اللغوي من معين اللغة بوصفها أداة عامة يتوسل بها كل الناس، وله لغته الخاصة التي هي" ضرب من النسج" يخص كل شاعر يكشف به عن قدرته على اكتشاف القدرات الكامنة في نظام لغته، كما أن هذه اللغة" جنس من التصوير. فالشعر كما يراه الجاحظ يسير في دربين: التركيبي، والدلالي، وفيهما يكمن الإيقاع. غير أن هذه الطبيعة الخاصة بالشعر تصله بغيره من الفنون كالرسم والموسيقي والتشكيل بحيث يتجلى الشعر بين فنون كثيرة ومماثلة.
هذا الفهم المبكر لطبيعة الشعر الجمالية، قد وعى من جانب آخر، مبدأ النص الذي يتضمن كل مقومات النص ومنها التأليف والنظم، وهذا ما اعتمد عليه الجاحظ في قوله " بالنظم البديع" تفسيرا لإعجاز القرآن. هذا التأسيس الذي وضعه الجاحظ في القرن الثالث انطلق منه الرماني والباقلاني، وبلوره على نحو نظرية ذات أسس نحوية وجمالية، عبد القاهر الجرجاني.
فالرماني في رسالته" النكت في إعجاز القرآن" يرى أن البلاغة: ثلاث طبقات: منها ما هو في أعلى طبقة، ومنها ما هو في أدنى طبقة، ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة. فما كان في أعلاها فهو معجز وهو بلاغة القرآن، وما كان منها دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس" وأما البلاغة فهي" إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ" وتعريفه يركز على جانبين: المعنى، والصورة أو اللفظ.
والمقصود هنا باللفظ هو التراكيب التي تتجلى فيها المعاني بحيث تتواءم مع السياق العام للكلام. ونشير هنا أن الرماني يرى أن الكلام ذو مستويات تبدأ بالأعلى وتنهي بالأدنى. وكأن هذه المستويات أنماط معلومة استقر عليها المنشئون والمتلقون وهذا ما جعله يضع القرآن في الطبقة العليا بعيدا عن أية مماثلة أو منازعة.
هذا التفكير البلاغي جعله يرى أن كل القرآن من حيث الصياغة والأسلوب في مستوى واحد، مع أن القرآن نص طويل، متعدد السياقات، متعدد الأغراض، وهذا ما يدعو إلى القول بالتفاوت بين سور هذا الكتاب من حيث النظم ومن حيث التأثير في المتلقي.
فسورة" الكوثر" ليست هي سورة" ص" مثلا أو" الرحمن" ولكننا مع ذلك نلحظ أن البذرة التي ألقاها الجاحظ في تربة الدرس البلاغي لم تمت. فالجاحظ في بيانه السابق لا ينكر التفاوت بين المبدعين، ولا بين نصوص المبدع الواحد، ولا بين نصوص هذا أو ذاك من الشعراء ممن يقولون في موضوع واحد كوصف الخمر أو الخيل مثلا.
ولكن هذا التفاوت رفضه البلاقلاني بعد أن قبل القول بنظم القرآن تفسيرا لإعجازه، فالقرآن على الرغم من طوله ليس متفاوتا بل هو على نمط واحد من الجودة والسمو عل اختلاف المقامات القول وتعدد الأساليب.
فمن مظاهر إعجاز هذا النظم عنده أنه قد ورد على غير المعهود من نظم كلام العرب وألوانه المعروفة في الشعر والنثر. وهذا ما دعاه إلى لزوم مالا يلزم وهو إثبات فساد النظم في قصيدتين من عيون الشعر إحداهما لامريء القيس والثانية للبحتري. لقد هدم الأساس البياني الذي انطلقت منه مسألة الإعجاز والتحدي حين أخرج شعر العرب وهو المعيار من دائرة النماذج التي يقاس عليها.
ولم يكتف البلاقلاني بذلك بل أنكر أن تقاس بلاغة القرآن ببلاغة العرب أو البشر كما عرفناها وهو بذلك جعل مسألة المعجزة عصية على الفهم، خارجة عن نطاقها الذي أتت من أجله وهو أنها دالة على نبوة النبي من جهة، وأنها يمكن فهمها والتواصل معها من جهة ثانية.
فالقرآن جاء للناس كافة يحمل رسالة مركبة من الاعتقاد والأخلاق. فإن تضمنت معجزته جمالا في ذاتها، فلا قيمة له إن لم يتح للإنسان فهمها وسبر أغوارها. كل ذلك لم يفطن إليه البلاقلاني وكأنه أضاع نيته الحسنة بوسائله غير الحسنة.
"أحمد يوسف علي"
/23/12/2016
------------------------------------------
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق