السبت، 31 ديسمبر 2016

تفكيك العقل النخبوي السياسوي الاستخباراتي ( 53) خبراء "فصيلة القردة العليا"... ومهارة القفز السياسي في "ما بعد حلب"!!

تفكيك العقل النخبوي السياسوي الاستخباراتي ( 53)
خبراء "فصيلة القردة العليا"... ومهارة القفز السياسي 
في "ما بعد حلب"!!
-----------------------------------------------------

ما أن استردت الدولة السورية "حلب" التي كانت تُمثِّل قلب مخطط التفتيت المستمر في صورة "سايكس بيكو2"، أو "الشرق الأوسط الجديد" الموضوع للمنطقة والدولة السورية في إطارها؛ حتى بدأت ظاهرة جلسات "اللطميات" التلفزيونية لعناصر أكاديموية وسياسوية وإعلاموية لها من دون شك علاقات موثوقة بأجهزة الاستخبارات المعنية؛ والموظفة فيما يُسمى "مراكز الدراسات والأبحاث وتحليل السياسات"؛ لضخ خطابات مُخَادِعَةٍ تُخفي بها إحباطاتها عبر التنظير والتفسير المُحْبَط لما حدث في حلب.


 

وهذه النُخب لا تزال حتى بعد اتفاق الدولة السورية وما تسمى قوى المعارضة على هدنة إيقاف العمليات العسكرية في جميع المناطق استعدادا لمفاوضات سياسية؛ هي في حقيقة الأمر تهرب من الاعتراف بهزيمة مخططاتها؛ أو تتجنب تعميم الفهم الموضوعي بتحليل الحقائق الاستراتيجية؛ التي كانت فعالياتها مؤثرة ضمن جهد استرداد الدولة السورية حلبها؛ لكنها- هذه النخب – كعادتها المعروفة بدأت في ترويج تصورات سيناريوهات جديدة؛ أغلبها تروج مزيد التوهم حول ما سيطال مكونات القوى التي شاركت في استرداد حلب؛ وفي قلبها تقف الدولة السورية وجيشها العربي؛ وكذلك الحديث عن اعتماد نمط مناطق"حُكم ذاتي" في سورية، فضلا عن ترشيح شخصيتين لخلافة الرئيس الأسد!! 


*****

مَبْلّغُ فجيعة هذه النخب بعد ضياع حلب من بين أيديهم كبير؛ وذلك لفشل تحقق المشروع التفتيتي للدولة السورية ذات الجذور القديمة التاريخ؛ إذ أن "المسكوت عنه" في هذه القضية؛ هو هدف ذلك التخطيط الموضوع من قِبَلِ قوى الصهيونية العولمية؛ والذي تنفذه بالإنابة عنها فوق الأرض العربية قوى اجتماعية ذات عقول نخبوية لامنتمية؛ وهويتها الحقيقية ميليشياوية بثقافتها العقدية الدينية أو الإيديولوجية؛ وهي نخب تمثل قوىً مضادةً لنمط "الدولة الواحدة"؛ القادرة على جمع كافة مكوناتها البشرية على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم في سياق واحد اسمه "الوطن".

فهذه النُخب التي تدَّعي الدفاع عن قيم منتزعة من جذورها مثل "الديموقراطية" ليجري المتاجرة السياسية بها؛ هي في الحقيقة نُخب ثقافوية انتهازية بالطبيعة والوظيفة، لأنها لا تنزل بأقدامها إلى أرض القتال كالثوار الحقيقيين، وليس حتى الميليشياويين لتحمل السلاح وتتعرض للقتل؛ بل تكتفي فقط بنضال المقاهي و"السوشيال ميديا" والكاميرات في الاستديوهات؛ لأنها بطبيعة التأسيس وموقعها الاجتماعي تحترف الجلوس على المقاعد الوثيرة في المكاتب المكيفة؛ وكذلك الدوران على أبنية "السفارات" الخارجية، ومكاتب الاستخبارات المعنية لتقبض أثمان ما تروج له من مشروعات التفتيت الوطني؛ وما تنتجه من خطابات التكريس الإعلاموي لمخططات الصهيونية العولمية؛ ومشروعها الجديد "بتفكيك المفكك وتفتيت المفتت"!

ومن يُراقب شاشات الفضائيات المختلفة؛ لرصد ودراسة ردود الأفعال والأقوال بعد استرداد الدولة السورية حلبها من جديد، يضع يده بسهولة على طبيعة نموذج النخبة المرتبطة بالمصادر الاستخباراتية في أعلى ظواهر انتهازيتها الاجتماعية السياسية؛ فهي تستعير من فصيلة القردة العليا مهارة القفز السياسي؛ بحيث لا تتمكن من القبض عليها.

*****

لقد تناست تلك النخب آراءها ومواقفها المسبقة حول حلب، والثقة التي كانت تتحدث بها؛ مع تأكيدها اليقيني المطلق بما وصفته بـ " تحرير" حلب من جيش النظام؛ وخروجها من تحت هيمنة الدولة السورية؛ وحين خيبت الدولة السورية سيناريوهاتهم واستردت حلب؛ إذ بتلك النخب تقفز قفزات فصيلة القِرَدَةِ العُلْيَا فوق الأشجار، لتتحدث راهناً عن تصورات جديدة؛ حسب ما تمدهم بها مكاتب الاستخبارات والأجهزة التي توظفهم.

ومن يرجع إلى خطابات هذه النخب، قبل وخلال جهد الدولة السورية لاسترداد حلب؛ يلمح ثقتهم المغالى في قدرها وهم يقومون بالتنظير وكأن المعارك في حلب محسومة للميليشيات التي يطلقون عليها مُخَادَعَةً بـ "الثوار" فيما يلوثون في الواقع معنى "الثوار" النقي.

فالثائر الحقيقي هو الذي لا يكون في ثورته خارجاً عن مستقرات معنى "الدولة الوطنية" التي يتجاوزها ويهدمها العنصر الميليشياوي، لذلك فهذه النخب الاستخباراتية المنبع يبدو خطابها متهافتاً؛ لأنها تُحْجِمُ عن إعمال عقولها في حقائق وإمكانات وموازين القوى وقدراتها المختلفة؛ وعدم التأكيد على ثابت أن الميليشيات لا يمكن أن تهزم دولة لها جيش محترف؛ وله غطاء جوي مساند، بصرف النظر عن نوعية وتحليل هوية القوى المساندة للدولة السورية لأنها دولة.

كانت هذه النخب تُرتب التحليلات في الخطاب المُروِّج لـ "تَحَرُّرِ حلب" من سياق الدولة المعمول لهدمها؛ بما يجهزها للانفصال؛ وتكوين "كانتون" سُنِّي الهُوية؛ مزمع إنشاؤه ضمن الكانتونات العرقية والمذهبية المتعددة؛ بعد تفتيت الدولة السورية؛ لتحف كل تلك الكانتونات بما يُسمى "الدولة اليهودية" في القلب.

حلب التي صارت راهناً "الحُلم المفقود" لذلك المخطط الصهيوني الرأسمالي العولمي الهادف في حقيقته إلى تأسيس واقع "جيوسياسي" يُعيد تنفيذ المرحلة الثانية من السيناريو القديم، الذي جرى تطبيق مرحلته الأولى على الأرض المفتتة تاريخياً بصناعة "إقليم الهلال الخصيب"، وفق الاصطلاح الذي صاغه عالم الآثار الأميركي "جيمس هنري برستد" دلالة على حوض نهري دجلة والفرات؛ وقد جرى تفتيته سياسياً حسب "اتفاقية سايكس بيكو" إلى دول متفرقة من سوريا والعراق ولبنان وفلسطين والأردن.

وفي المرحلة الثانية التي كانت افتتاحيتها الاستهلالية بما يُسمى الربيع العربي بعد إسقاط نظام الدولة في العراق؛ أو ضعضعته إلى درجة التهافت؛ كان التحدي هو الإجهاز على شكل الدولة الوطنية في المنطقة؛ والارتداد بالتجمعات السكانية إلى الأنماط القبائلية العرقية والمذهبية الأولى؛ اعتماداً على تاريخية فسيفسائية التكوين الديمغرافي بها؛ وبما يترتب على ذلك من إنهاء وجود نمط الدولة الوطنية الواحدة نهائياً؛ والتخلص من أشكال أبنيتها المدنية؛ لإعادة إحياء المجالس العُرْفية؛ وقوانين العيب؛ كي تستعيد المنطقة أشكالها القديمة المناسبة لقرون ما قبل الحضارة الحديثة.

لقد أوقف عدم سقوط حلب من يد الدولة السورية مخطط إعادة تشكيل الواقع الجغرافى المُغاير للهلال الخصيب القديم بدوله؛ على الرغم من أنها تُعاني راهناً بشكل كلي في إطار صناعة واقع مرتد على أساس العرق والدين والمذهب .

*****

وإزاء الانتكاسة في سوريا لذلك المشروع الذي كانت تروج له خطابات العقل النخبوي الانتهازية؛ بدأت تلك النخب تطرح تصورات سيناريوهات متخيلة جديدة؛ لكي تواري فضيحتها بتدمير بنية حلب، وعدم تحقق مرادها المرجو من ذلك؛ أي مخطط انفصالها عن الدولة للاستفادة بإمكاناتها الاستراتيجية التي تُلبي مخططات التفتيت الجاري تكريسها.

السيناريوهات الجديدة التي تتحدث عنها تلك النخب من "فصيلة القردة العليا" تدور حول الترويج لما يُسمى "الفدرلة" أو سوريا "الدولة الفيدرالية"؛ لإعادة التنميط وفق النموذج العراقي الجاري بناؤه؛ والقائم في النهاية على إعادة التجليس السياسوى للأعراق والمذاهب والإثنيات بهوياتها الثقافية على الكرسي، بدل الدولة الواحدة التي يتناوب الأفراد السلطة فيها عبر أحزابهم بالدولة.

لكن "المسكوت عنه" هنا والذي تخفيه هذه النخب بعد تحطم حلمها، هو أن هدف التركيز على حلب كان الاستفادة من قدراتها الجغرافية المكانية والبشرية والتاريخية؛ لإنتاج نموذج الإمارة "سنية الهوية" التي يجري تعميمه لاحقاً في المنطقة؛ وذلك بالاستفادة من الحدود الممتدة مع تركيا "العثمانلية"؛ والاقتراب من البحر المتوسط؛ وأمتلاك محور الربط الاستراتيجي في المحيط السوري؛ فضلاً عن منزلتها الثانية في الأهمية بعد دمشق؛ وما تكتنزه من قدرات اقتصادية ومالية...إلخ

كان في المتصور الاستخباراتي أن تكون حلب نموذجاً تطبيقياً للنمط الذي جرى تكريسه في "غزة" بنزوع الانفصال السياسي القائم في "فلسطين المحتلة" والذي أحدثته "حماس" عن بقية جسم السلطة الوطنية الفلسطينية؛ وقد كان سيتم اعتماده موديلاً لسيناريوهات تفتيت المنطقة كلها إلى "مدن" و"مقاطعات" و"أزقة" و"زنقات" قائمة بنفسها؛ ويكون ضابطها الحاكم "الدولة اليهودية"!!

*****

إن الجهد التفكيكي لخطاب النخب السياسوية الاستخباراتية المنبع يكتشف بما لا يدع مجالاً للشك أن وظيفة تلك النخب هي تكريس واقع الفئة والطائفة، مقابل الأثمان التي تقبضها لتدمير وطن؛ وتفتيته بالترويج لتوهم صناعة ثورة لم تجلب إلى سوريا سوى هدم المدن، وتدمير مرافقها وتشريد أهلها؛ واستباحة جغرافيتها السياسية لتكون ملعباً للقوى العالمية المتصارعة. والمعروف أن تلك النخب الفوضوية لا تدفع ضريبة جريمتها في حق الوطن بل تقبض الثمن بالعودة لتجلس في كراسي الحكم محمولة على ظهور الدبابات وتكمل مشوار تفتييت الأوطان"العراق/ ليبيا نموذجاً"!

 
لقد تناست تلك النخب المقيمة في خارج الأرض السورية، أن حسابات الواقع مختلفة عن السيناريوهات المتخيلة؛ فالدولة التي يُعبِّر عنها النظام كان يمتلك فيها مصدرية الطاقة الواحدية في التحكم وإدارة الأزمة؛ فيما المسلحون على الأرض تحكمهم المسلكية الميليشياوية، القائمة على تكريس نمط "أمراء الحرب" الذين لا يقاتلون عن مشروع وطني... بل عن مشروع ميليشياوي؛ تحركه آليات الإفساد المادي لها، والمتمثل في عائدات مشروع تفتيت الدولة بالمعونات وأموال الدعم وتدفقات السلاح من الخارج.

والمثير في الأمر أن بعض تلك النخب التي يروق لها اتباع منطق "القردة العليا" في القفز بين أفرع شجرة الأزمة السورية؛ عاد من جديد بعد خروج ميليشياتهم من حلب للحديث حول: ضرورة إعادة لملمة الأوراق المبعثرة؛ والارتداد إلى الروح المحركة لـ "الثورة" كما كانت في بداياتها؛ متغافلين عن العوار الذي أصاب الجسم الميليشياوي وقد حركه طوفان الأموال الخارجية لقيامهم ليس بهدم النظام ولكن بتفتيت الدولة.


ويأتي على رأس هؤلاء قيادات التنظيم المتأخون، الذين من مضحكات الأمور يمارسون عادتهم الانتهازية، فيطالبون في بيان أصدروه بعدم استجابة المسلحين الذين تسميهم "المعارضة" للمبادرة الروسية للحوار مع النظام السوري، والتي تعد موسكو لعقدها في يناير / كانون الثاني 2017م.


وإذا كانت الجماعة المتأخونة السورية تؤكد في بيانها أنها تؤكد على التمسك برؤية الثورة السورية في: "إسقاط النظام وتفكيك أجهزته الأمنية، والعمل على قيام الدولة المدنية... دولة الحرية والعدالة والكرامة"؛ فإن الهدف الخفي الدال على انتهازيتها السياسية هو تمرير رغبتها بحجز مقعد لها في جلسات ذلك الحوار؛ متناسية أنها الفاعل الحقيقي لما وصل إليه دمار المسألة السورية؛ بدعم وتخطيط التنظيم الدولي والجماعة في مصر والتي أطلقت شعار ما يسمى "الجهاد" في سوريا!

*****

ومن السيناريوهات الجديدة التي تروج لها نخب فصيلة القردة العليا أن النظام السوري على الرغم من قيامه باسترداد حلب لن يتمكن من القيام بالأعباء المترتبة على خروج الميليشيات منها؛ وسيفشل في إحكام السيطرة على الأرض الواسعة التي عاد يستحوذ عليها.


 

ونتيجة الدمار الشامل الذي لحق بحلب "البنية والمزاج السكاني المسالم الذي تغير للنقيض" فإن أغلبية أهلها سيعانون الفقر والبطالة نتيجة التردي الاقتصادي؛ ومع وجود ظاهرة انتشار السلاح، فإن ذلك سيدعو إلى تشكل حركات تمرد جديدة، وإنشاء عصابات صغيرة عديدة مستغلة ضعف الدولة والضائقة الاقتصادية التي تعانيها؛ ما يعني دخول مسلسل التدمير لسوريا في طور جديد مماثل للنموذج الراهن في ليبيا!!

*****

 إن ما تروج له "فصيلة القردة العليا" من النخب السياسوية الاستخباراتية المنبع والوظيفة بممارستها القفز السياسي في المسألة السورية بقدر ما يعبر عن خطاب هزيمة رعاتها في حلب، فإنه يكشف "المسكوت عنه" الجديد في سيناريو إنهاك الدولة السورية؛ ومواصلة العمل لإفشالها، طريقاُ لترسيخ الوجود الميليشياوي في صورة جديدة اسمها العصابات حلاً مصطنعاً في إطار مخطط تفتيت الدولة الذي لا يتوقف!!

                                                                           "رأفت السويركي"
-------------------------------------------

الأربعاء، 28 ديسمبر 2016

العم "راجي عنايت"... الرجل الذي علمنا المعرفة بالمستقبليات!!

العم "راجي عنايت"... الرجل الذي علمنا المعرفة بالمستقبليات!! ---------------------------------------------


لايزال الأستاذ "راجي عنايت"Rage Enayat ibrahim أطال الله في عمره رجل إعلام التنوير بعلوم "المستقلبليات"؛ كنا ولا نزال ننهل من مؤلفاته أسرار المعرفة بهذه العلوم؛ ونركض للحصول على كتبه؛ التي تفتح أمامنا آفاقاً معرفية واسعة بهذا الحقل الذي يحقق ما يمكن التعبير عنه بتحقق "المتخيل والخيال" في الواقع.

*****
 

الإعلامي الرائد العم "راجي عنايت" هو مخزن ثمين من المعارف والخبرات والذكريات وأسرار المهنة؛ وأعترف شخصياً بأنه في سنوات شبابي الأولى حين كانت ثقافة "علوم المستقبليات" مجهولة كان رائد أوائل الذين شكلوا عقلي في حقل المعرفة بالمستقبليات ومجتمع المعلومات؛ قبل أن أتعرف لاحقاً إلى مشروع المغربي الراحل "المهدي المنجرة" القامة الأخرى في علم المستقلبليات.

ولأن "فيس بوك" ذكرني بموعد بدء صداقتي المتأخرة مع الرائد الكبير "راجي عنايت" فالكتابة تنحصر حوله اعترافاً بفضله وقيمته؛ مثقفاً متعدد الأنساق؛ ممن صارت حياتنا تندر الآن في إنتاج مثله؛ نتيجة توجه المعرفة إلى التركز، والانحصار في التخصص الدقيق المتشابك، ضمن رؤوس ترس كبير متعدد الاختصاصات الخادمة لهدف محدد؛ وأقصد المثقف الشامل المعرفة.

*****

العم "راجي عنايت" أطال الله في عمره درس العلوم وتخصص في حقلها؛ ليتأسس عقله العلمي؛ ثم توغل في دراسة النحت لتتشكل ذائقته الكلية باقتدار عبر طريقي معرفة أسرار المادة بدراسة العلوم، وامتلاك الإدراك بقيمة الكتلة عبر دراسة النحت؛ بجانب خبراته الفنية في التعبير بالفنون الشعبية والأدب التلفزيوني وفنون تحريك العرائس؛ وكانت الصحافة التي احترف العمل بها الضلع الثالث لترويج إبداعه المعرفي الشامل.

العم "راجي عنايت" مخزن أسرار ومعارف كشاهد عصر قريب من الأحداث التي مرت بها مصر. ومن يتفضل بمطالعة جداره على "فيس بوك" يُمكنه أن يتحصل على بعض هذه الشهادات، وذكرياته العامرة، وصوره في الطفولة والشباب والشيخوخة أيضاً.

*****
 

ولمن شاء الاستزادة بمعرفة بعض أسماء المؤلفات التي حملت جهده المعرفي في ثقافة المستقبليات سأذكر بعضها هنا: سلسلة العلماء العرب/ سلسلة أغرب من الخيا ل/ أسرار حيرت العلماء/ العالم سنة 2000 مستقبل جديد للبشر/ سر الأطباق الطائرة/ أحلام اليوم حقائق الغد / هذا الغد العجيب/ مغامرة علي كوكب الزهرة/ عجائب العقل البشري/ الهرم وسر قواه الخارقة/ النبات يحب ويتألم ويقرأ افكار البشر/ راقصون بلا حكومة/ لعنة الفراعنة وهم أم حقيقة/ أعجب قدرات العقل البشري/ سفينة الفضاء الملعونة /أفيقوا يرحمكم الله/... والعديد العديد من الكتب التي فاق عددها المئة عنوان فضلاً عن المقالات التي نشرها في الصحف والمجلات.

*****
 
عَلَمُ إعلام "المستقبليات" أستاذنا "راجي عنايت" هو قامة كبرى؛ ينبغي تكريمه بما يستحق كأحد الرواد في هذا الحقل المهم؛ وبجانب ذلك أن يتفرغ من يُسجل مخزونه المعرفي وذكرياته الثمينة؛ أطال الله في عمره؛ ليبقى طاقة أمل مشرعة بالتنوير؛ الذي نحتاج إليه بشدة راهناً في زمان إعادة ترسيخ الثقافة الجاهلية من جديد... 

وليسمح لنا العم "راجي عنايت" بهذه الكتابة التي لا توفيه حقه لدى جيل تعلم الكثير من المعرفة والتشوف إلى المستقبل عبر كتاباته.

                                                                         " رأفت السويركي"
---------------------------------------

الاثنين، 26 ديسمبر 2016

خواطر حول "الصرفة في الإعجاز" وشروط القول بها

خواطر حول "الصرفة في الإعجاز" وشروط القول بها
-------------------------------------------

هذه الحوارية الفكرية تجسد طبيعة علاقة بناءة في عالم الوسائط الاجتماعية؛ فكثيراً ما أسعد بالحوار مع كتابات الاستاذ الدكتور أحمد يوسف عالم اللغة العربية الكبير؛ مستفيداً من رحابة صدره العلمي في قضايا فكرية مهمة للغاية وتحديداً في مشروعه الفكري الجديد حول الخطاب القرآني الذي يقدم في محيطه كتابات محيطة مهمة؛ جعلتني أنتظر نشرها على جداره في فيس بوك للتداخل بما بما يفيدني بالمزيد من المعلومات التي يضيفها لكتاباته بتواضع العالم الكبير والاستاذ الذي تعلمت من مؤلفاته الكثير.
ولعل موضوعة "الصرفة" التي انشغل بها العقل المسلم لقرون وقرون وارتباطها بحقل تفسير إعجاز القرآن الكريم كانت موضوع هذه المداخلة؛ فكانت إجاباته بليغة؛ فإلى الحوارية؛ التي يعقبها متن كتابته الأساس:
------------------  

تبارك الله الأستاذ الدكتور أحمد يوسف بهذه الهيمنة المعلوماتية المهمة والإحاطة الشاملة التي قدمتها حول قضية "الصرفة" هذه الموضوعة الشائكة؛ التي اختلف حولها الفرقاء والأصدقاء.

وقد استرعى تفكيري ما قدمه الجاحظ حلَّاً للإشكالية في صيغة "التسخير" الجامعة لإرادتي "التخيير" و"التسيير"؛ والتي تصب في النهاية حسب الاعتقاد إلى تفعيل فعالية "التسيير" الكامنة وفق ما راج لدى البعض في خلفية المشهد الإيجادي للمخلوقات، بحكم أن الإنسان كما هو مخلوق البدن فهو مخلوق الفعل والاستطاعة أيضا؛ على الرغم من تعارض ذلك مع قيمة الحساب الأخروي؛ وهذه النقطة مهمة للغاية لارتباطها كما قلتم بالماورائيات؛ وما تلك الأقوال إلا محض اجتهادات.

لذلك ينبغي عند النظر إلى موضوعة "الصرفة" أن نتذكر أحد وجوه القول القرآني الكريم: ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد)؛ ولم يقل جل جلاله - وخلقنا ما توسوس به نفسه – بل " ونعلم" كدلالة على حرية الإنسان المطلقة أولاً في التفكير؛ وثانياً في الفعل أوالقول متحصل التفكير؛ باستثناء حالتين فقط بهما تتحقق "الجبرية" أي في حالتي "الميلاد" أولاً والموت ثانياً؛ وذلك لحكمة إلهية؛ مع ارتباط ذلك بعدل الله المطلق وعلمه القبلي بفعل خلقه وليس من منظور الجبر تحقيقاً لقيمة عدله الكلي. وتأكيد ذلك يأتي في كريم قوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).

إن تعدد الآيات وتنوعها في سياقات الآفاق الرحيبة للنص ومحيطه التي جعلته حسب المقولة المنسوبة للإمام علي ابن أبي طالب بأن "القرآن حمَّالُ أوجُه، ذو وجوه"؛ وما روي عن ابن عباس: "القُرآن ذلولٌ ذو وجوه، فاحمِلوه على أحسنِ وجوهِه"، فهذه الصفة النصية بقدر ما تقدم متكأً لكل ذي رأي؛ فإنها في الوقت ذاته تقدم التصور المُغْنِي عن القول بالصرفة؛ أي محمول طاقة النص القرآني المطلقة واللامحدودة في الاستجابة لكل طرائق القراءات فهذا هو مكمن الإعجاز الحق الدال على فرادته وعلوية مصدره ؛ لأنه يتيح الفرصة للقراءة المتعددة التي تيسر فهمه وفق زمان القراءة.

 ولعل تلك الطاقة الخلاقة للمعاني ربما تنفي في الوقت نفسه فعل "الصرفة"؛ التي تتنافى مع قيمة العدل الإلهي؛ فاستغلاق النص على الأفهام يُفقده إعجازيته؛ ولكن الخصوصيات الكامنة بمتنه توفر إمكانا ديموميا لتعدد مستويات القراءة التي تنتج آفاقا مختلفة لتأويل محمولاته المقدسة من منظور مصدريته العلوية. وربما يكون تعدد وتنوع المستولدات التأويلية هي الاثبات لطبيعة الإعجاز التي اخترعوا لها "الصرفة" لإثبات علوية النص وفق مقاييس عصرهم الشفاهي ومكانهم الجغرافي المحكوم بعلوم ومعارف اللغة قبل أية علوم أخرى.

ولربما تكون مخزونات النص التي يجري اكتشافها بامتداد الزمان؛ وتطور أدوات القراءة  غير الواحدة تؤكد من جانب آخر انتفاء الصرفة، فتلك القيمة البشرية كانت  مرتهنة حين طرحها بقدرات وأدوات العصور الأولى؛ وقد فاجأها النص الكريم ولم يكن العقل الإنساني المجبول على التفكر كأساس من أساسات الخلق النوعي في ملكوت الله قد وصل من درجة العلم التي يسرها الله له لاحقاً ليصل إلى ما وصل إليه راهنا؛ تأكيداً لما تفضلتم بذكره عن طبيعة المعجزة المادية التي حاور بها موسى قومه وكذلك عيسى عليهما السلام؛ وهما معجزتان منقضيتان بزمان حدوثهما؛ عكس النص القرآني الممتد تبليغه إلى أن تقوم الساعة؛ لذلك فعلينا البحث عن علائم أخرى لإثبات مصدريته المتعالية؛ وهنا لن تصلح الصرفة دليلاً.

أقول ذلك يا أستاذنا حين النظر إلى المشوار المذهل الذي قطعه العقل البشري ليصل إلى إنتاج فعالية الذكاء الاصطناعي الشامل؛ ومنه حقل اللغة، حيث في الترجمة حقق ذلك الذكاء في اللغات غير العربية الكثير من التماثل المتطابق؛ ويمكن له بعد التلقين المعلوماتي إنتاج أعداد كثيرة من النصوص؛ ولكنه ولا يزال راهناً يُعاني الصعوبات المؤقتة في اللغة العربية لعدم إحاطته بالكيمياء المجازية لهذه اللغة؛ نتيجة عدم اكتمال رصد كافة سياقات المعنى للكلمات والجمل بها.، غير أنه سيصل لهذه النتيجة عبر ما يمكن أن تتواصل به الحواسيب الذكية مع التفكير البشري؛ ولكن النتيجة ستكون محمولا بشرياً في المعاني.

هذا محض تفكير بصوت مرتفع حول قضية "الصرفة"؛ وضرورة إحلال قضية لا متناهي محمول النص الإبلاغي بديلاً عنها. وأعتذر أستاذنا عن الإطالة؛ فما تذكرونه باقتدار يُحرِّضُ على التحاور؛ ولكم محبتي واعتزازي.

                                                                           "رأفت السويركي"
--------------------

د.أحمد يوسف
د.أحمد يوسف أخي الكريم ذا الرأي الرشيد ا.رافت . تحياتي
 
كتابتك كعادتك كتابة مضيئة وكاشفة. فقد تناولت مسألة الصرفة وصلتها بالفعل الإنساني وإرادة الله كما تناولت مسألة تأويل النص القرآني وقابليته للتعدد والثراء حسب مايتاح من علم في كل عصر ورأيت أن هذا التأويل يعد دل
يلا على إعجازه. وأرى أنك حريص على نفي الصرفة سبيلا لتفسير الإعجاز. 
 
واسمح لي أن أوضح نقاطا مهمة حرصت على تأكيدها في المقال. 
 
أولا :أكدت أن الصرفة لم تقدم حلا لمسألة الإعجاز عندما أراح أصحابها أنفسهم برد الأمر كله لله. 
 
 ثانيا :أن الصرفة كانت بحثا خارج النص وإحالة على المطلق ظنا من أصحابها أنهم حين يؤكدون مصدرية القرآن؛ يؤكدون حجته ومعجزته ويؤكدون النبوة. 
 
ثالثا :أن الجاحظ لم يكن رغم تقديره الكبير لأستاذه النظام؛ تلميذا تابعا يسير مغمض العينين وراءه كما قرر وكتب كثير من الباحثين الذين يوصفون بأنهم كبار.ووضحت ذلك حين أكدت أن الصرفة عند الجاحظ لم تقترن بمسألة الإعجاز ولكنها اقترنت بمسألة حرية الفعل وذكرت مصطلحه التسخير الذي جمع بين التسيير والتخيير. 
 
رابعا :أن الجاحظ أكد أن القرآن معجز بنظمه البديع وأردت أن أتتبع قوله هذا وأوسعه حين تكلمت عن وعيه بالنص وخصائصه. ثم تتبعت ذلك القول كما تجلى عند الآخرين في القرن الرابع وأشرت إلى أن المقال له تكملة في مقال لاحق. 
 
كل ذلك ياسيدي هو ما حرصت عليه. وإنك لتذهل حين تكتشف تهافت ما كتبه من وصفتهم الأمة بالأعلام وخاصة في مسألة الصرفة ومسألة نص القرآن الكريم.
 
صديقي الكريم لم أشأ أن أتحدث عن مدى حرية الفعل كما وردت في نصوص من القرآن وقد بينت في مقال سابق أن مبدأ الصرفة يتنافى مع عدالة الله سبحانه. وعلى أي الأحوال هذه صفحة من عقلنا الجمعي كم كانت حرة في التناول والعرض مهما اختلفنا معها وكم كان أصحابها جادين ومخلصين لما آمنوا به. وفي النهاية أرحب بمزيد من النقاش والاختلاف في الرأي.
-------------------

Raafat Alswerky
Raafat Alswerky سلمت أستاذنا ودام حضورك الفكري معلما نقتدي بمسلكه ومنهجه في التفكير، وما سمحت لي تكرما منك بكتابته هو من اجل تفعيل فضاء فيس بوك لمزيد من الحوار الفكري الراقي حول قضايا مهمة ينبغي ان تخرج من حلقات النخب الى عموم الامة، اذا كنّا حقا نسعى الى تطوير او تغيير او تحديث او تنقية الخطاب الديني، فالقضايا لا تنحصر في الطقوس والشكليات، بل هي أعمق لعل هناك من يستفيد. حفظك الله.
----------------------


الصرفة والنظر المضاد

د.أحمد يوسف
  مع أهمية القول بالصرفة تفسيرا لإعجاز القرآن، فإنه لم يكن واحدا عند كل من قال به، ولم تكن مصادره واحدة كما بينا في المقالة السابقة. والقول بالصرفة لم يقترب حقيقة من تفسير مسألة الإعجاز وهي مسألة مختلف عليها عند المؤمنين بالقرآن، وعند غير المؤمنين به. فمن رد إعجاز القرآن إلى مصدره، لم يقل أكثر مما قال القرآن عن نفسه " كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب" ص 29. و" إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون" يوسف 2. 


واكتفي بأنه من عند الله ولم يفسر وجها من وجوه إعجازه. فالله سبحانه حين أنزل القرآن للناس لم يكن حجة لنبيه مثل حجة العصا لموسى أو الطب لعيسى، نقصد لم يكن حجة وقتية شهدها فريق من الناس وصارت شهادتهم برهانا عليها وتواتر القول بها عبر النقل والسماع. 

ولكن القرآن الذي نزل منجما خاطب الناس الشهود بكونه معجزة وحرض من ينكر على أن يأتي بشيء من مثله. ولما اكتمل نزول القرآن وصار بين دفتي المصحف المعروف لم تزل حجته بزوال الشهود من الناس، بل اكتملت وصارت مجالا للبحث الذي يبتغي الفهم كما يدعو القرآن نفسه الناس جميعا لتدبر آياته، وأولي الألباب للتذكر وأن هذا القرآن عربي. لذا فالقول بالصرفة ليس كافيا لتوضيح المراد وهو فهم هذا القرآن وتدبره.

ولم يكن قول النظام بالصرفة إلا قولا محرضا على التفكير والبحث والتأويل وداعيا إلى مزيد من تعدد الآراء. فقد نشأت حوله أقوال بالصرفة كما فهمها، وأقوال أخرى متباينة معه. ومن هذه الأقوال، قول الإمام الجويني إمام الحرمين الذي أعلن القول بالصرفة قولا واحدا رافضا القول بغيره.


 فمن يقل بفصاحة القرآن أو نظمه، قد ضل ضلالا بعيدا على حد قوله لأن القرآن من هذه الجهة يشبه أقوال كثير من الفصحاء والبلغاء، وأن البلاغة في كل عصر متغيرة متفاوتة ولا يخلو عصر من العصور من بليغ مبرز لا يوازى في فنه. وربما كان الجويني يسعى إلى نفي علو القرآن عن مدارك الناس وأفهامهم. وما نزل القرآن إلا ليصل إليهم. لذا فحجته لا تكون في بيانه، بل في مصدره العلوي الذي تشهد به كل آياته.

فالقول بالصرفة في تقديري بحث في المطلق. والعلم يصعب عليه البحث في المطلق والماهيات. لذا كان الجاحظ صاحب الفضل في توجيه دفة البحث في إعجاز القرآن إلى وجهة علمية قوامها اللغة وميدانها مجمل القرآن كله مستفيدا من علمه باللغة العربية وأساليبها في التعبير، ومن علمه بأشعار العرب وخطبها، ومن طرائق تعبيرهم في المحافل والمنتديات يؤكد ذلك كتابه البيان والتبيين، كما أفاد من اطلاعه على الثقافة المنقولة من الفرس والهند واليونان وغيرهم.



وكما قلت، كان قول النظام بالصرفة قولا تحريضيا وجدنا آثاره في قول الجاحظ: إن القرآن معجز بنظمه. فقد سرى هذا القول عبر القرون الرابع والخامس والسادس ومثل اتجاها كبيرا سواء على مستوى النقد والبلاغة، أو على مستوى التفسير ونعنى هنا تفسير القرآن.



ونحاول أن نقف في هذه المقالة والمقالة التي تليها عند هذه المقولة وكيف تكونت حولها أبحاث مفسري الإعجاز وكيف استوت هذه المقولة لتكون أهم نظرية لفهم النص سواء أكان شعرا أم قرآنا، أعني نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني وكيف أفاد منها الزمخشري في تفسير" الكشاف" وفي نموذج كتبه مفسرا سورة " الكوثر" وحدها للتدليل على إعجاز القرآن من خلال نظرية النظم أو النظم كما قال الجاحظ.



لم يكن الجاحظ غافلا عن الجدل الدائر في أو ساط المعتزلة عن حقيقة القرآن. هذا الجدل الذي كانت الصرفة إحدى نتائجه على نحو ما بيناه عند النظام. وكان للجاحظ موقف معلن من مسألة الصرفة التي لم ينكرها ولم ينكر أن القرآن معجز "بنظمه البديع". هذا الجمع بين القولين المتقابلين جر عليه اتهامات كثيرة وشكوكا في معتقده مما يستدعينا لتوضيح هذه المسألة.


كان الجاحظ مثل كل المعتزلة مشغولا بمسألة حرية الفعل وهي التي كشفت عن موقفين: الأول أن الإنسان مسير عند أهل السنة، والثاني أنه مخير كما يرى أهل الاعتزال. وكان من رأي الجاحظ أن الإنسان " مسخر" وقد جمع هذا المصطلح بين التسيير والتخيير ويوضح الجاحظ مفهوم التسخير. فأفعال الإنسان في ظاهرها تشير إلى أنه مخير والدليل رضاه عنها وسعيه إليها وإتيانها بمحض إرادته.


 إنه يختار أسماء ولده، ويختار نوع عمله، والبقعة التي يسكن فيها ونوع الحياة التي يعيشها، وقد لا يعجب اختياره الآخرين. قد يختار أقبح الأسماء وأحط المهن، وأردأ الأماكن، وأخشن أنواع العيش، ومع ذلك تراه معجبا باختياره فخورا به سعيدا باهتدائه إليه والسبب اعتقاده أن ذلك محض اختياره، على حين أن ذلك في الحقيقة هو ما سخره الله له، ويسره إليه، وحببه فيه.

ويبرهن الجاحظ على صحة رأيه بأن هذا" التسخير" للخلق إنما كان لمصلحتهم. وما كانت مصلحتهم تتم على أحسن الوجوه لو أن كل إنسان قد ترك لاختياره.. ولنا أن نتصور كيف كانت تكون حياة الناس لو أن كل إنسان اختار لنفسه ولولده أحسن الأسماء، واختار أرفع المهن، وحرص على أن يسكن أخصب البقاع وأحسنها، وأن يمارس أكثر ألوان العيش ترفا؟ ومن الذي يقوم بأدنى أدنى الحرف؟ ثم من يعمر البقاع الصعبة القاسية، إذا كان الجميع سينصرفون إلى ما اختاروه من الأماكن الخصبة السهلة؟


هذا التسخير الذي يتضمن اختيار الإنسان أفعاله ورضاه أو سخطه عليها وسعيه إليها أو تراخيه عنها، يشير إلى أن علم الإنسان مهما اتسع محدود، وأنه في الحقيقة ميسر لما خلق له، وأن علم الله أشمل من علمه، وهنا تلتقي الصرفة مع التسخير وتقترن به. فالقول بالصرفة جاء مقرونا بالقول بالتسخير عند الجاحظ، ولم يكن مقرونا بالقول في الإعجاز. 


يقول الجاحظ عن الصرفة في تفسير موت سليمان:" ولولا الصرفة التي يلقيها الله تعالى على قلب من أحب، ولولا أن الله يقدر على أن يشغل الأوهام كيف يشاء، ويذكر بما يشاء، وينسي ما يشاء، لما اجتمع أهل داره وقصره(سليمان) وخاصته ومن يخدمونه من الجن والإنس والشياطين على الإطباق بأنه حي". 

فالصرفة عند الجاحظ تعدت مجرد الانصراف عن معارضة القرآن إلى الدلالة على نوع من توجيه الله لعباده، أو سلبهم القدرة على علم شيء أو عمله من أجل مصلحتهم، تماما كما كان التسخير توجيها لهم إلى عمل شيء أو اختياره. على حد تعبير عبدا لحكيم راضي في تقديمه لكتاب الحيوان.

هذا الفكر العقلي الراقي حول الصرفة والتسخير وفعل الإنسان، كان دفاعا عن القرآن أيضا وعن العقيدة، وهذا ما دفع الجاحظ للقول بأن" المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني. وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك. فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير".


فالمعاني التي يقصدها الجاحظ هي المادة الأولية المتاحة في كل زمن وفي كل مكان وهي وحدها لا تصنع أدبا ولا تفرق من حيث القيمة بين نص ونص ولا تضفي عليه أية مزية، ولا تحقق لصاحبها تميزا، ولا تمنحه مكانة لمجرد القول بها. هذه المادة الأولية قد تكون متشابهة بين أناس وأناس ومنها ما هو مشترك عام بين البشر على مدى الأزمان. 


فالحق والخير والجمال والصواب والخطأ والثواب والعقاب والجنة والنار، وغيرها من المعاني تمثل مشتركا عاما نجدها في الكتب السماوية كما نجدها أو نجد بعضها في كتب الديانات الوضعية، ولكن وجودها في حد ذاته لا يعطى أولوية لكتاب على كتاب، وما يفرق في حالة القرآن هو" النظم البديع" بالإضافة إلى ما يحتويه من علوم الغيب والشهادة. 

وقد تحدث الجاحظ هنا عن الشعر والمعاني وتفاوت قصائد الشعراء من حيث القيمة على أساس قدرة المبدع على الصياغة والتصوير" فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير" وليس على أساس المعاني المطروحة في الطريق.

فالشعر صناعة لغوية، مفرداته ونظامه اللغوي من معين اللغة بوصفها أداة عامة يتوسل بها كل الناس، وله لغته الخاصة التي هي" ضرب من النسج" يخص كل شاعر يكشف به عن قدرته على اكتشاف القدرات الكامنة في نظام لغته، كما أن هذه اللغة" جنس من التصوير. فالشعر كما يراه الجاحظ يسير في دربين: التركيبي، والدلالي، وفيهما يكمن الإيقاع. غير أن هذه الطبيعة الخاصة بالشعر تصله بغيره من الفنون كالرسم والموسيقي والتشكيل بحيث يتجلى الشعر بين فنون كثيرة ومماثلة.



هذا الفهم المبكر لطبيعة الشعر الجمالية، قد وعى من جانب آخر، مبدأ النص الذي يتضمن كل مقومات النص ومنها التأليف والنظم، وهذا ما اعتمد عليه الجاحظ في قوله " بالنظم البديع" تفسيرا لإعجاز القرآن. هذا التأسيس الذي وضعه الجاحظ في القرن الثالث انطلق منه الرماني والباقلاني، وبلوره على نحو نظرية ذات أسس نحوية وجمالية، عبد القاهر الجرجاني.


فالرماني في رسالته" النكت في إعجاز القرآن" يرى أن البلاغة: ثلاث طبقات: منها ما هو في أعلى طبقة، ومنها ما هو في أدنى طبقة، ومنها ما هو في الوسائط بين أعلى طبقة وأدنى طبقة. فما كان في أعلاها فهو معجز وهو بلاغة القرآن، وما كان منها دون ذلك فهو ممكن كبلاغة البلغاء من الناس" وأما البلاغة فهي" إيصال المعنى إلى القلب في أحسن صورة من اللفظ" وتعريفه يركز على جانبين: المعنى، والصورة أو اللفظ. 


والمقصود هنا باللفظ هو التراكيب التي تتجلى فيها المعاني بحيث تتواءم مع السياق العام للكلام. ونشير هنا أن الرماني يرى أن الكلام ذو مستويات تبدأ بالأعلى وتنهي بالأدنى. وكأن هذه المستويات أنماط معلومة استقر عليها المنشئون والمتلقون وهذا ما جعله يضع القرآن في الطبقة العليا بعيدا عن أية مماثلة أو منازعة. 

 هذا التفكير البلاغي جعله يرى أن كل القرآن من حيث الصياغة والأسلوب في مستوى واحد، مع أن القرآن نص طويل، متعدد السياقات، متعدد الأغراض، وهذا ما يدعو إلى القول بالتفاوت بين سور هذا الكتاب من حيث النظم ومن حيث التأثير في المتلقي. 

فسورة" الكوثر" ليست هي سورة" ص" مثلا أو" الرحمن" ولكننا مع ذلك نلحظ أن البذرة التي ألقاها الجاحظ في تربة الدرس البلاغي لم تمت. فالجاحظ في بيانه السابق لا ينكر التفاوت بين المبدعين، ولا بين نصوص المبدع الواحد، ولا بين نصوص هذا أو ذاك من الشعراء ممن يقولون في موضوع واحد كوصف الخمر أو الخيل مثلا.

ولكن هذا التفاوت رفضه البلاقلاني بعد أن قبل القول بنظم القرآن تفسيرا لإعجازه، فالقرآن على الرغم من طوله ليس متفاوتا بل هو على نمط واحد من الجودة والسمو عل اختلاف المقامات القول وتعدد الأساليب. 


فمن مظاهر إعجاز هذا النظم عنده أنه قد ورد على غير المعهود من نظم كلام العرب وألوانه المعروفة في الشعر والنثر. وهذا ما دعاه إلى لزوم مالا يلزم وهو إثبات فساد النظم في قصيدتين من عيون الشعر إحداهما لامريء القيس والثانية للبحتري. لقد هدم الأساس البياني الذي انطلقت منه مسألة الإعجاز والتحدي حين أخرج شعر العرب وهو المعيار من دائرة النماذج التي يقاس عليها. 

ولم يكتف البلاقلاني بذلك بل أنكر أن تقاس بلاغة القرآن ببلاغة العرب أو البشر كما عرفناها وهو بذلك جعل مسألة المعجزة عصية على الفهم، خارجة عن نطاقها الذي أتت من أجله وهو أنها دالة على نبوة النبي من جهة، وأنها يمكن فهمها والتواصل معها من جهة ثانية. 

 فالقرآن جاء للناس كافة يحمل رسالة مركبة من الاعتقاد والأخلاق. فإن تضمنت معجزته جمالا في ذاتها، فلا قيمة له إن لم يتح للإنسان فهمها وسبر أغوارها. كل ذلك لم يفطن إليه البلاقلاني وكأنه أضاع نيته الحسنة بوسائله غير الحسنة.

                                                                      "أحمد يوسف علي"

/23/12/2016
 ------------------------------------------

السبت، 24 ديسمبر 2016

"رمادية"... شعر : رأفت السويركي




"رمادية"
------



يَعْتَشِبُ الْهَوَاءُ هَمْسَتِي،

وَخُطْوَةَ الَولَعْ

كَأَنَّهُ النَهْر الذَّي يَنْتَحِل الْمَاءَ،

وَوَجْهَ الضِّفَتَين،

يَجِيءُ مِنْ خَاصِرَتِي،

مُمْتَعِضَاً،

يَجِيءُ كَهْلَاً،

وَرَمَادَاً،

مَوْجَةً،

تَخْبُوْ،

كَدِفءٍ مُمْتَقِعْ.
-------------
10/8/1987
    

                                                شعر: رأفت السويركي

هذه القصيدة نُشرت في مجلة "الأقلام" العراقية العدد السابع يوليو/ تموز 1990م
-------------------------------------------------------

الخميس، 22 ديسمبر 2016

تفكيك العقل النخبوي الإسلاموي المُتَسيِّس ( 52) "مُنتهى الطلب"... في مناقشة موضوع " قدود حلب"!!




تفكيك العقل النخبوي الإسلاموي المُتَسيِّس ( 52)  



"مُنتهى الطلب"... في مناقشة موضوع " قدود حلب"!!

-------------------------------------------------

 كانت المسألة السورية ولا تزال تعبر عن ساحة دامية؛ تشهد عربدة ما يُسمَّى "جماعات التأسلم السياسي" برعاية العديد من الأطراف المُحرِّكة، ليغطس الجميع في وحلها إلى حد التورط؛ فكان الشعب السوري هو الخاسر الوحيد، والذي صار أحدث دالة على التشريد، ومن سكان مخيمات الإيواء والضياع في كافة أرجاء الأرض؛ بل وابتلعت أجساد بعضه مياه  البحار؛ كما صارت مدن دولته العتيقة التاريخ علامة خراب مفتعل. 

 
  من حروب الصورة يلعب الماكياج دوره
 في صناعة واقع مأساوي يوظف في حلب


المسجد الأموي في حلب كان ثم صار

وقبل البدء في الجهد التفكيكي للمسألة السورية؛ يمكن الاهتداء عبر قراءة الأسماء التي تحملها المليشيات على الأرض إلى دلالة الوضع الكارثي الذي يحاول التأسلم السياسي أن يفرضه من فوضى عارمة على الأرض السورية؛ إذ تقاتل ضد - والقلة جداً- مع الجيش العربي السوري تكوينات بأسماء: الجيش الحر، وتنظيم داعش في سوريا، وجيش الإسلام، وحركة أحرار الشام، وأنصار الشام، ولواء الحق، ولواء التوحيد، وحركة أحرار الشام الإسلامية، ولواء الحق في حمص، وأنصار الشام في إدلب، وجيش التوحيد في دير الزور، ولواء مجاهدين الشام في حماة، وجبهة النصرة الفرع السوري لتنظيم القاعدة، ووحدات حماية الشعب الكردية، وجيش الفتح في إدلب، وقوات سوريا الديمقراطية من تحالف ميليشيات كردية وعربية وسريانية وأرمنية وتركمانية، وكتائب البعث ولواء درع الساحل ذات الصبغة العلوية، وحزب الله اللبناني، وفيلق القدس الإيراني، وكتائب " الحماية الذاتية" في درعا...إلخ

    شعارات عشرات الميليشيات

ويكتشف الجهد التفكيكي من خلال تحليل "الحالة السورية" غياب البُعد الاستراتيجي لدى الكثيرين عند دراسة هذه المسألة، منذ حدوث مُتَوَهَّم الضلالة المُروَّج له بــ "ثورات الربيع العربي". كما يتناسى الكثيرون السؤال عن الدوافع والمحركات الحقيقية للأحداث في ذلك البلد العربي. لذلك تسعى هذه المحاولة التفكيكية لكشف المسكوت عنه في  المسألة السورية من مدخل حلب.

*****

لقد وقع العقل النخبوي السياسوي العربي بمجمله والمتأسلم خاصة؛ سواء المشارك في الداخل السوري وخارجه، أو المراقب، أو الدارس، في أسر النظرة إلى المأساة السورية من خلال الانتماء العقدي أو العرقي، أو المذهبي الطائفي أو السياسي؛ لذلك أصابه الارتباك مع كل تطور؛ لعدم إدراك القواعد الاستراتيجية المحركة للُعبة افتعال الصراع التدميري للدولة في سوريا عبر الفعل العنفي الذي يرفع لافتة التأسلم ويبدو في صورته النمطية التي تعود إلى قرون الفتوحات!!

اجتمعوا ليتوحدوا من أجل هدم سوريا 

وكلما ظنت بعضُ تلك النخب دخول الدولة السورية في طور الانهيار، تجد نظام تلك الدولة العتيقة يتماسك؛ وكلما ارتفع معدل التوقع الإعلامي المضاد بضياع الأرض من تحت أقدامه... تجده يعود للوقوف من جديد؛ لأن تلك النخب تُفكر بعواطفها وأمنياتها فقط؛ إذْ هي منحازة إمَّا لانتماءاتها الهشة؛ أو تقبض أثمان دماء السوريين لتقدم رسائل إعلامية محددة، في حقيقتها لا تُغيِّر من واقع موازين القوة على الأرض السورية شيئا؛ لكن الخسارة الفادحة هي تهشيم علامات مشاركة السوريين التاريخية في فعل الحضارة الإنسانية القديمة!

 لقد ولَّدت هذه الموقفية الخاطئة من تلك النخب بمجملها تلك النتيجة الراهنة؛ والتي كانت تدور حول "حلب الشهباء الصهباء" بغنائها المبهر والأشهر لـ "القدود الحلبية" رأس الأمر وعموده وذروة سنامه. 

*****
 ومن دون شك... بممارسة الفعل التفكيكي؛ يكشف "موضوع حلب" تداعي مجمل تكوينات العقل النخبوي السياسوي؛ ومنها المتأسلمة في مواقفها... كما يلي:

** كان العقل النخبوي بتكويناته في الداخل السوري أول الساقطين في الوحل؛ إذ أن أغلبية شرائحه، ومنها من يشعرُ بغبن اجتماعي سابقاً  لمْ تُدْرِكْ مخاطر ما كان يجري ترتيبه للمنطقة وبلاده من ضمنها، في إطار سيناريو "الشرق الأوسط الجديد"؛ القائم على اختلاق شعور بالتوترات العرقية والمذهبية تحقق مجالاً مُحيطاً من "الكانتونات" العرقية والطائفية والمذهبية الحاف بـ "الدولة اليهودية" في فلسطين المحتلة؛ وكذلك أطماع السلطان العثمانلي أوردوغان.   


** و"الشريحة العقدية" وتحديداً "المتأخونة" من ذلك العقل، تُضْمِرُ ثأراتٍ تاريخيةً مع النظام السوري؛ لذلك رحَّبَتْ وسَعَتْ وفق مُتخيلها الأسطوري بدولة الخلافة إلى هدم "الدولة السورية القومية"؛ فكانت مثل الدابة التي جرى توجيهها لتنطح جدار الدولة برأسها، كي تهدمه عبر فيالق "المسلحين العقديين" من أعضاء الجماعة؛ وكذلك المُسْتَجْلِبين من خارج الحدود السورية الطويلة تلبية لصيحات المفهوم الكاذب بالجهاد التي أطلقتها عناصر الجماعة المتأخونة في الدول العربية والغربية؛ فحدث ما حدث للدولة من دمار بنيتها العمرانية.


** كما وقعت "الشريحة المتأدلجة" من العقل النخبوي في الداخل السوري وخارجه أيضاً في الخطأ ذاته؛ وقد تمثل مُحَرِّكُها بانتمائها إلى أرثوذكسية الإيديولوجيا الماركسية وما تحلم به من "يوتوبيا عتيقة"؛ تحت قناع المُطالبة بـ "الديموقراطية"؛ فَطَالَ بنية الدولة السورية ما طالها من دمار كبير؛ يدفع وسيدفع ثمنه الفقراء في سوريا الذين تدافع عنهم هذه الإيديولوجية!


** أما "الشريحة الطائفية" من العقل النخبوي في الداخل السوري ومن يساندونها في الخارج؛ فقد شاركت في الجُرم باستهلاك الخطاب حول الترويج لما يُسمى "هيمنة العلويين" على الواقع السوري؛ لتشارك في جهود إسقاط الدولة السورية؛ وقد تناسى هؤلاء أن الدولة السورية هي "بَعْثيَّة" الهوية والشعار؛ لذلك جرت استباحة سوريا الموحدة لإحداث مزيد من تعميق ترسيخ وجود الطوائف بها؛ حسب النسق اللبناني العتيق؛ والعراقي المستجد؛ وكلاهما مُلاصقٌ للحدود السورية!! 

ميليشيا تتمترس من أجل من في حلب 

وينبغي عدم نسيان ما شهدته المسألة السورية، بحدوث اللعبة التي كان يجري تعميمها حين بدأ مسلسل هدم الدول في المنطقة؛ بإحداث الانشقاقات من قياداتٍ عسكريةٍ سورية، تنتمي إلى بعض الطوائف العقدية أو العرقية كخطوة لتفكيك الجيش العربي السوري؛ والانضمام إلى الميليشيات المُسمَّاة "الجيش الحر" أو "الثوار"؛ ليكتمل تنظيف المجال الحاف بـ "الدولة اليهودية" من القوة المهددة لها، وأحدها هو الجيش العربي السوري؛ وتلك الظاهرة بدأت بتسريح الجيش العراقي بوساطة الحاكم الأميركي  "بول بريمر"؛ وكذلك تبخير ما تبقى من الجيش الليبي!


 *****

وأمام المتغيرات الضاغطة بشراسة، اضطُّرَ النظام الحاكم للدولة السورية إلى تفعيل أوراقه الاستراتيجية؛ وأولها الاستعانة بالحليف الروسي الدائم؛ الذي كانت سوريا تمثل موطىء القدم الوحيد له في المياه الدافئة بالبحر المتوسط؛ ليوازن الضغط الأميركي؛ فضلاً عن استنهاض بقية الأوراق لديه؛ وفق "منطق المتاح والممكن".


 وهنا أمام نوعية خصوصية الأزمة التي يعيشها لم يجد النظام السوري أمامه سوى الاستعانة بإيران وحزب الله؛ وهذه الخطوة مثلت إشكالية لبعض الاتجاهات؛ غير أنهما شاركا في المسألة السورية من منظور استراتيجي بالتحديد سيجري تفصيله.

 فالدور الإيراني في سوريا مُخالف لدورها المذهبي الردىء والبغيض الذي تلعبه إيران نفسها في اليمن، وذلك بدعم وتكريس وتغليب التكوين الطائفي من " الحوثيين"؛ لأن المسألة اليمنية ذات النسيج القَبَلي مُغايرة بالمطلق للمسألة السورية، فضلاً عن إصرار إيران المرفوض على مواصلة احتلال الجزر الثلاث الإماراتية "طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى"؛ غير أن النخب في المسألة السورية تحديداً تروِّج وعياً مغلوطاً بحقائق الأمور؛ وتكرس التصور الذي يجري ترسيمه استخباراتياً بأن هناك صراعاً طائفياً: شيعياً/ سنياً في المنطقة... لذلك:


** انسحبت "حماس" من دعم الدولة في سوريا؛ بحكم انتمائها السياسي للتنظيم المتأخون؛ متناسية قضيتها المركزية فلسطين؛ ومتغافلة عن أن "الدولة السورية القومية" كانت أكثر الداعمين لحماس الفلسطينية؛ كحركة مقاومة وطنية وليست حركة عقدية؛ بالمعيار نفسه الذي تعاملت به تلك الدولة مع حزب الله اللبناني.


 ** لذلك تقدم "حزب الله" لدعم الدولة السورية باعتبارها الحليف الاستراتيجي الوحيد له في المنطقة، من منظور أنه يشابه "حماس" كحركة مقاومة ضد "إسرائيل"؛ لتستفيد الدولة السورية من خبرات مقاتليه؛ حسب مقتضيات نمط معارك الميليشيات المفروض عليه؛ فقد اكتسب مقاتلوه خبرات عملياتية من معاركهم مع العدو الصهيوني، فكانوا المتغير العملياتي المهم الذي واجهت به الدولة السورية مخطط التدمير الميليشياوي والذي جرى استجلاب العناصر الخارجية من أجله؛ تحت مسميات "جبهة النصرة" و"داعش"... إلخ.


** وتقدمت إيران أيضاً لدعم الدولة السورية كحليف استراتيجي لها ليس من المنظور العقدي؛ ولكن سياسياً في إطار مخطط الضغط الإيراني لمواجهة الولايات المتحدة الأميركية؛ واقتصادياً - وهذا هو الأمر المخفي- لتنفيذ الخطط التي تتعلق بطريق تصدير الغاز الإيراني عبر سوريا إلى أوروبا.


وتكشف المراجع ما يُقلِّل من قيمة توصيف تلك المشاركة  بالسبب العقدي المذهبي؛ فالعلويون والشيعة طائفتان مستقلتان؛ على الرغم من أنهما يُنسبان إلى ما يسمى "مذهب أهل البيت" مع اختلاف التفاصيل بينهما. 

ولكن ينبغي الالتفات إلى نقطة جوهرية؛ فالدولة السورية البعثية "العِلمانية" ليست "دولة دينية" مثل الجمهورية الإيرانية. لذلك كان الحضور الروسي /الإيراني /وحزب الله داعماً للجيش العربي السوري المجهد من قسوة المواجهات؛ نتيجة امتداد الحدود مع "تركيا الأوردوغانية" والعراق المفكك؛ ولبنان المتشظي؛ والأردن والدولة الصهيونية!


ومع تتابع مراحل سيناريوهات القضية، التي تأخذ شكل المواجهات الدولية غير المباشرة فشلت أغلبية السيناريوهات في إسقاطه؛ عبر فائض القوة الغاشمة المسماة كذباً "المجاهدين"؛ والمستجلبة من كافة أطراف العالم  لترسيخ صفة "تَدْيِيِن الصراع".


لقد لعب العقل السياسوي المتأسلم بإعلامه العقدي دوره الكبير في تزييف الوعي الجماهيري بالمشكلة؛ والتعتيم على مسبباتها وإصباغها بالطابع المذهبي؛ لكن لا يزال نظام الدولة السورية القومي ببعثيته يُعيد بسط وجوده السياسوي على ما تراجع عنه من أراضٍ في مراحل الصراع المفروض عليه.


*****
 
 ميليشياوي  يطلق قذيفة ضد من لتسقط عل المدنيين في حلب

وهنا نأتي إلى "حلب" التي تمثل "مُنتهى الطلب" لكل الأطراف؛ وقد استردتها الدولة السورية مؤخراً؛ ووافقت على خروج "المسلحين" وعائلاتهم منها، غير أن هناك من يحاول أن يُحوِّل حَلَبَ إلى أيقونة نكبتها؛ مُستعيرةً من نسق التعبير المتشيع الذي تنتقده نموذج لطميات جديدة لكنه "سُنِّي" الهُوية!!

فقد اعتمر الخطاب السياسوي؛ التلفازي والصحافي والالكتروني المضاد للدولة السورية؛ يسانده خطاب "السوشيال ميديا"، وأحاديث الخطباء بلطميات كلامية؛ بجانب ما يجري تُزييِّفه واختلاقه ضمن نهج الحرب بالصور من مشاهد القتلي والأطفال والجوعى وهم ليسوا من حلب؛ ولا يزال يتناقلها المغيبون عقليا وسياسياً عن فهم الوقائع من منظورها الاستراتيجي؛ وكأنها حدثت في حلب!

كما راجت بكثافة خطابات - من النوعية التي كان ولا يزال يستخدمها الإعلام المتأخون في المسألة المصرية لمحاربة الإرهاب في سيناء - بأن النظام يقتل شعبه، ويهدم المشافي، ويقصف المنازل بالطائرات الروسية؛ والصواريخ والأسلحة الكيماوية؛ وكأن من يُسمون مخادعة بـ "الثوار"، ويستترون بالوجود الشعبي في حلب؛ بل يمنعون أهلها من مغادرة المدينة ليظلوا درعاً لهم، هم بُرَءَاءٌ وورعون وملائكة يمشون على الأرض؛ ولم يتسببوا في دمار سوريا؛ منذ استُجْلبوا إليها لتنفيذ السيناريو الكريه؛ بل لا يقومون بإطلاق الصواريخ والقذائف على الأحياء في حلب وغيرها عشوائياً ليسقط ضحايا، فيعلقون دماءهم في رقبة الدولة السورية؛ ويصنعون منهم "أيقونة" جديدة يمارسون اللطم السياسي بسببها!!

حلب التي يتباكون عليها؛ يُعدُّ استرداد الدولة لها اقتراب نهاية المحطة الأخيرة من لُعبة وسيناريو تفتيت الدولة السورية بوساطة جماعات الإسلام المتسيس؛ وهي مفصل استراتيجي مهم؛ باعتبارها ثاني أكبر المدن السورية بعد العاصمة دمشق؛ وأكبر مدينة اقتصادية سورية؛ وهي مدينة ساحلية مهمة؛ كما تُعدُّ مركزاً استراتيجياً لوجستياً يربط الخريطة السورية؛ وتمثل السيطرة عليها بسط هيمنة الدولة على مختلف أنحاء سوريا الوطن.

 وفضلاً عن ذلك فإن هناك أهمية تماسٍ استراتيجي لحلب بجانب إدلب مع تركيا؛ ونجاح استرداد الدولة السورية لها يُجْهٍزُ على كل الحسابات "الأردوغانية" المتوهمة، والتي تروج الخشية من تطويق تركيا بحزام "عَلَوي كُرْدِي"!!    

*****

إن الحسابات "الجيوسياسية" كثيرة؛ ولا يتسع المقام للتطرق إليها في هذه الكتابة؛ وبالتحديد حسابات ممرات وخطوط طاقة الغاز النظيفة؛ أي طاقة القرن الحادي والعشرين؛ والتي بحكم المعلومات الاستكشافية المسبقة وُضِعَتْ السيناريوهات من أجلها، ما جعل سوريا وغيرها من بلدان المنطقة هدفاً للتفتيت:

- فالدراسات الاستكشافية أثبتت امتلاك الدولة السورية لحقول طاقة غازية مذهلة الحجم على الشواطىء وفي المجال البحري بشرق البحر المتوسط، بما يقلب موازين أسواق تلك الطاقة النظيفة عالمياً.


- إن تفكيك سوريا الدولة، سيحقق حرمان روسيا "عملاق الغاز" من موقع استراتيجي مهم، يمكن أن يؤمن له طريق انتقال الغاز الروسي إلى أوروبا في حال تعرضت خطوطه إلى مشكلات استراتيجية.


- إن تفتيت سوريا يتيح الفرصة الاستراتيجية لتوفير طريق أكثر سهولة للغاز الوارد من الخليج؛ وكذلك الغاز الكامن في المجال البحري لـ "فلسطين المحتلة" والمستهدف عبوره إلى أوروبا؛ وهو ما يساعد في إضعاف الاقتصاد الروسي؛ ويجعله يتضعضع مقابل ضعف الاقتصاد الرأسمالي الأميركي.


- إن ترك الفرصة لتماسك الدولة السورية؛ يجعلها مستقبلياً بقدراتها لاعباً في سوق الطاقة النظيفة أيضاً، وهو ما قد يقلب خريطة أسواق هذه الطاقة؛ لذلك كان ينبغي هدمها.    


- إن إسقاط الدولة السورية يقطع الطريق كذلك أمام مرور الغاز الإيراني إلى البحر المتوسط ثم أوروبا؛ بعد توقيع طهران اتفاقية دمشق الخاصة بتمرير الغاز عبر العراق إلى أراضيها ثم إلى البحر المتوسط؛ ولكل هذه الأمور وزنها الاستراتيجي الذي يُكسب سوريا وزناً كبيراً للغاية؛ فوضعت مخططات تفتيتها.

لذلك فإن "قضية طاقة الغاز" تمثل الغرض الحقيقي "المسكوت عنه" وراء كل هذا الوضع؛ ومن أجل ذلك يشارك العقل النخبوي السياسوي المتأسلم في جريمة ترويج الإيحاء الأميركي الغربي الصهيوني بأن ما يحدث في سورية هي عملية طائفية؛ بينما مسألة طاقة الغاز والضغط على روسيا وإيران في الحقيقة هي التي تمثل عنصراً فاعلاً خلف ما طال الدولة السورية القومية من تدمير بنيوي، ومخططات التفتيت بعيداً عن كل الحسابات الأخرى؛ الخاصة بمفاهيم التضليل الحقيقية التي تختفي خلف شعارات مثل "الديمقراطية" ومتوهم  "ثورات الربيع العربي".

*****

إن "حلب الصهباء الشماء"؛ عاصمة غناء "القدود الحلبية" الأشهر في التعبير عن الفَرَحِ؛ قام العقل النخبوي الإسلاموي السياسوي المتأخون وقرينه المتأدلج بإنتاج ما يمكن أن يُسمى فنون "اللطميات الحلبية"؛ ليروجها بدلاً من "القدود الحلبية"؛ خاصة بعد أن تحققت فجيعتهم السياسية منذ أن استردت الدولة السورية حلبها من جديد؛ وهذا هو "مُنتهى الطلب"... في مناقشة موضوع حلب!!

                                                                     "رأفت السويركي" 

------------------------------------------------